«حمد».
صوت أمي يُصيبني بالهلع! مذيعة نشرة الأخبار تذكر خبراً عاجلاً عن تجربة لقاح جديد ضد كورونا.
«العشاء جاهز».
«اتركي الصينية على الطاولة».
أخافني كورونا. رجوت أمي أن تأخذني لإجراء مسحة، لكنها رفضت: «لستَ مصاباً، ولا تعاني من أي عوارض، أنا دكتورة وأعرف».
ما عدتُ أعرف كيف أنام. يخطر أمرٌ لي، فأفزُّ من فراشي، أسرع لغسل يدي بالصابون، ووجهي، وعيني وفتحتي أنفي. ولحظة أعود لفراشي أبدأ بعدِّ أنفاسي، وأحبسها تماماً، أرهف السمع لخفق قلبي، وأستشعر أي حرقة في بلعومي.
وحدنا في الفيلا: أنا وأمي والخادمة والسائق. بانتشار ضجة الكورونا، صرتُ أهرب منها، هي تذهب كل يوم إلى عملها في المستشفى، وتعود... رجوتها النزول للعيش في الطابق الأرضي. احتجّتْ رافضة: «غرفة نومي، و....».
«أُنزل لكِ السرير، وحتى خزانة ملابسك».
منذ ثلاثة أشهر، وهي تعيش في الدور الأرضي مع الخادمة. وحدي في الدور الأول، أترك النوافذ مفتوحة ليتجدد تيار الهواء، ولكي أسمع الأخبار أرفع من صوت التلفزيون.
المذيعة تستضيف طبيباً للحديث عن اللقاح المتوقع. وحدهن المذيعات، ما تغير شيءٌ عليهن؛ يظهرن بزينتهن وهندمتهن.
قبل قليل عقّمتُ سطح الطاولة، ومسكات باب غرفتي وباب الحمام، وجهاز التحكم بالتلفزيون. غسلتُ نظارتي بالماء والصابون، ومسحتها تالياً بالمعقّم وجففتها.
أذكر تلك اللحظة، ربما قبل شهرين، خرجتُ من غرفتي، فتفاجأت بوجود الخادمة أمامي. تراجعتُ بهلعي، وتسمّرتْ هي بخوفها. فكّرت أنشب أظافري في وجهها، صرختُ بها كالمجنون: «انزلي»، هرعتْ أمي، لكني أوقفتها عند أول درجات السلم: «قلت لكما: أعيش وحدي، لا أحد يصعد إلى طابقي».
«تريد أخذ ملابسك والتنظيف».
«لو رأيتها مرة ثانية فسأرميها إلى الخارج». هجمت رجفة كريهة تمسك بذراعي وكفي وضربات قلبي المتسارعة.
«حمد، العشاء صار بارداً».
نداء أمي... لا أذكر، هل غسلتُ يديّ؟ بما أنني أرتدي قفازاً، فهذا يعني أنني غسلتهما. لكن، كأني لمست علبة القفازات الجديدة، قد تكون موبوءة. علي التخلص من القفاز، وأتأكد من غسل يدي مرة ثانية، ومن ثم ألبس قفازاً جديداً قبل أن أرتدي الكمامة.
لا أريد لأي جزءٍ مني أن يلمس أي شيء. كورونا يسكن كل شيء. سأبقى حذراً. صرتُ أرتدي قميصاً طويل الأكمام طوال الوقت، ولا أسير دون جوارب، وسرعان ما أستبدلهما حين أطأ بلاطة متسخة. لكن، يجب أن أرتدي الجوارب قبل القفاز. سأخلع جواربي، قد تكون وسخة، متى لبستها؟
أكثر من مرة ظهر على شاشة التلفزيون، أذكر وجه هذا الدكتور.
كورونا كشف وجهاً جديداً لأمي! تُداوم في المستشفى كل يوم دون خوف، وتذهب إلى السوق المركزية لتأتي بالأغراض! اعترضتها: «تخاطرين بحياتك».
«واجبي وعملي».
«لا تذهبي». كنتُ أنظر إليها، متمنياً أن تستمع إليَّ، لكنها أجابت دون أن تنظر إليَّ: «سأذهب».
لا أدري كيف تخالط المرضى؟ في الكويت كل أجناس العالم. تقول إنها تأخذ احتياطاتها. وتلبس الملابس الواقية.
أظل بخوفي وهواجسي أتوقع لحظة عودتها، فأغلق كل الأبواب خوف أن تأتي بالمرض معها. هي تدخل لحمام الضيوف لتخلع كل ما عليها، وتضعه في كيس نايلون، وتستحم وتلبس ملابس جديدة، قبل أن تذهب إلى غرفتها. لا يمكن أن أكون مثلها لو مت من الجوع. لا أستطيع فهمها، تجلس قرب الخادمة، وأحياناً تأكل معها! حتى الخادمة لا أدري كيف لا تخاف من أمي؟
هذه جوارب جديدة. اتفقت مع أمي: لا أريد أحداً، أنا أنظف غرفتي. ضعي ملابسي النظيفة قرب الدرج، وأنزل لأخذها. سأرتدي قفازاً جديداً قبل لبس الجوارب، لا أريد ليدي العاريتين أن تلامسا قدمي. كلما نزلت استخدمت عدة قفازات.
«يا حمد».
لن أردّ عليها، هي لا تخاف... أنهيت لبس جواربي النظيفة، سأتخلص من القفاز لأغسل يدي بالصابون، قبل أن أرتدي قفازاً جديداً وكمامة وأنزل لإحضار العشاء. ما عدتُ أستخدم ملاعقهم ولا سكاكينهم، أحضرتْ هي لي علبتين كبيرتين من الملاعق البلاستيكية، وكذا علبتين للشوك والسكاكين. بعد كل وجبة أكسّر الملاعق والشوك والسكاكين.
صورة الرئيس ترمب تملأ شاشة التلفزيون.
يجب أن أنتبه جيداً لغسل كفّي. هل أنزع قميصي لغسل ذراعي؟ لو نزعت القميص، فلن أرتديه مرة ثانية، سأرفع الكم وأغسل كفّي وذراعيّ. سأستخدم مياها حارة.
كورونا ينتقل باللمس، والإنسان يعيش باللمس. يتناول ويلمس كل شيء في كل وقت، وقد يُصاب في أي لحظة. حين أوضحت ذلك لأمي هزّت رأسها نافية: «ليس كذلك».
انتظرتها توضح، فقالت: «تخلص من وساوسك».
«لقد شُفيت من الوسواس القهري»، أخبرني طبيبي قبل سنة. هل عاد الوسواس إليّ؟
«حمد».
احتدت نبرة أمي بندائها! أين نعال الدرج؟ أستخدمُ نعالاً خاصاً للنزول إلى الأسفل. هذه علبة معقم الجو. أرشّ منه أمامي وعلى جانبي خوف أن يكون شيء من كورونا عالقا في الهواء. سأنزل الدرج بحذر كي لا يلامسني أي جدار. ربما علي ترك عادة العشاء. الأكل ليس مهمّاً، منذ شهر بدأ وزني بالنقصان.
أمي جالسة بانتظاري وأمامها صينية الأكل. أكثر من مرة طلبتُ منها أن تترك الصينية وحدها، لا أريد لأي نَفَس أن يلتصق بها. كيس ملابسي النظيفة أسفل الدرج.
«أتشو»... اللعنة، أمي عطست فوق صينية الأكل. أتجمّد في خطوتي وخوفي. بدأتُ أرتجف. أكره أمي وأكره الأكل... لأهرب بسرعة إلى غرفتي وأغلق الباب عليَّ. لن آكل، ولن أقرب أمي.
- كاتب كويتي
لمس اللحظة
لمس اللحظة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة