ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

صلاحيات واسعة لـ«المبعوث الرئاسي الخاص» الروسي في سوريا

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!
TT

ألكسندر يفيموف... أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

ألكسندر يفيموف...  أعلى من سفير لكنه ليس «مندوباً سامياً»!

أثار قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، القاضي بتعيين السفير الروسي لدى دمشق ألكسندر يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لشؤون العلاقة مع سوريا، تساؤلات ونقاشات كثيرة، حول مغزى هذا التوجه ودلالات توقيته.
وتزايدت التكهنات والتأويلات، خصوصاً، لدى أطراف في المعارضة السورية رأت في التطور تجسيداً لما وصف «الانتداب الروسي على سوريا»، وتكريساً لإمساك موسكو تدريجياً بكل مفاتيح القرار السياسية والاقتصادية في البلاد بشكل مباشر. وهكذا، انهالت التسميات على السفير من «المندوب السامي» إلى «بول بريمر الروسي». وقد يكون الوصف الأكثر جاذبية هو ذلك الذي رأى أن يفيموف غدا «الظل الدائم» في سوريا لـ«القيصر».

ألكسندر يفيموف، السفير الذي بات بإمكانه أن يتحدث باسم الرئيس الروسي وهو يخاطب الجهات الرسمية في بلد اعتماده، لم تكن حدود مهامه عندما عُيّن سفيراً لدى دمشق قبل سنتين، تفتح على تكهّنات بأنه سيلعب دوراً مفصلياً في وقت لاحق.
فالدبلوماسي الهادئ الذي تدرج في مناصب عدة، انشغل في غالبية فترة خدمته الوظيفية بالعمل خلف الكواليس، على ملفات معقدة لم يظهر فيها بشكل مباشر. ولذلك تشير معطيات إلى أنه انخرط في سنوات سابقة بمهام تتعلق بالوضع في العراق وفي ليبيا، رغم أنه لم يخدم في هذين البلدين بشكل مباشر.
ولد ألكسندر فلاديميروفيتش يفيموف عام 1958، وكان عمره 22 سنة عندما تخرّج في معهد العلاقات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية. وهذه المؤسسة الأكاديمية المرموقة خرّجت، بالمناسبة، عدداً كبيراً من ألمع الدبلوماسيين الروس، بينهم الراحل يفغيني بريماكوف، ووزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف، ونائب الوزير ميخائيل بوغدانوف وغيرهم، ولم يكن من السهل الحصول على مقعد دراسي فيها، خصوصاً في الحقبة السوفياتية.

دبلوماسي مهني

في عام 1980 بدأ يفيموف حياته المهنية في المؤسسة الدبلوماسية. ويبدو أنه مارس كثيراً من المهام التي تدرج فيها في مواقع مختلفة في أروقة وزارة الخارجية بموسكو، قبل تعيينه ملحقاً في السفارة الروسية بالعاصمة الأردنية عمّان عام 2004، وبقي هناك حتى عام 2008. كانت تلك فترة صعبة ومعقدة نظراً لتطورات الوضع في العراق بعد إطاحة نظام الرئيس صدام حسين، مع كل انعكاسات ذلك على الأردن والمنطقة عموماً.
بيد أن هذه الفترة على صعوبتها، أكسبت يفيموف خبرة طيبة وضعته مباشرة بعد العودة إلى موسكو على رأس قسم في دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الخارجية الروسية. وفي هذا الموقع أمسك بملفات عدد من البلدان، قبل أن يغدو نائباً لرئيس الدائرة بين عامي 2010 و2013.
ومن ثم، في السنوات الخمس اللاحقة، برز اسم ألكسندر يفيموف كسفير مفوّض فوق العادة لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث عمل على تطوير العلاقات الروسية - الإماراتية في المجالات السياسية والاقتصادية، في وقت نجح البلدان في تحقيق تقارب كبير وتوسيع آفاق التعاون بشكل غير مسبوق. وهذا الأمر انعكس على قرار الرئيس فلاديمير بوتين بمنح السفير وسام شرف لـ«تفانيه في تعزيز السياسة الخارجية الروسية» في العام 2017.

الانتقال إلى سوريا

لذلك جاء منطقياً، أن يتقرّر نقل يفيموف في العام التالي، بعد انتهاء مهامه في الإمارات مباشرة إلى سوريا، البلد الذي بات يحظى بأهمية كبرى وأولوية خاصة على رأس سلم اهتمامات موسكو في السياسة الخارجية.
وبالفعل، منذ تسلمه مهامه سفيراً لدى دمشق، عمل يفيموف على ترتيب العلاقة في مرحلة صعبة ومعقّدة. فمن جانب، سرعان ما جرى الإعلان عن انتهاء «المرحلة النشطة» من العمليات العسكرية الروسية، ومع أن بعض البؤر الساخنة بقيت في البلاد، لكن أمكن تثبيت وقف النار تدريجياً واستعادت غالبية المدن السورية حياتها الطبيعية تقريباً. ولكن من جانب آخر، وضع ذلك روسيا أمام استحقاق إطلاق العملية السياسية وإنجاحها، فضلاً عن الاستحقاق الأهم على المستوى الداخلية المتعلق بالنهوض بالاقتصاد المتهاوي... وبين المهام الأساسية التي طرحت في تلك الفترة حشد تأييد دولي لفكرة روسيا بضرورة إطلاق عملية واسعة لإعادة الإعمار وتسهيل عودة اللاجئين.
ولكن هذه المهام لم تكن بالمعنى المباشر ملقاة على عاتق يفيموف. ذلك أنه بجانب وجود ممثلين عن القيادة العسكرية بشكل مباشر في البلاد، كان هناك حضور دائم ولافت للمبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف ونائب الوزير سيرغي فيرشينين في كل الملفات المطروحة على الصعيد الدبلوماسي، بما في ذلك على صعيد تنسيق العمل في إطار «مسار آستانة» والحوارات الدولية والإقليمية المتعلقة بسوريا.
مع هذا، بدا أنه كان للسفير الروسي لدى دمشق الإسهام الأكبر في ترتيب العلاقة الثنائية، وتنشيط وجود عدد من الشركات الروسية، فضلاً عن التوصل إلى توقيع عشرات الاتفاقات ومذكرات التعاون بين الجهات الروسية والسورية المختلفة.
على هذه الخلفية، تحديداً، تم النظر إلى قرار بوتين بتعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً خاصاً»، على أنه يطلق «مرحلة جديدة» في تعامل موسكو مع العلاقة مع الحكومة السورية. إذ ما كان بوتين يحتاج إلى وجود «مبعوث رئاسي خاص» في سوريا، مع وجود لافرنتييف مبعوث الكرملين لشؤون التسوية، ومع وجود بوغدانوف - وهو مبعوث الرئيس إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا -، وأيضاً، مع وجود فيرشينين مبعوث الخارجية الروسية إلى المنطقة. هذا، في واقع الأمر، واحد من المؤشرات التي دفعت إلى إطلاق تكهنات كثيرة حول المهام التي سيكلّف بها يفيموف في منصبه الجديد.
أهمية التوقيت

أيضاً لعب اختيار التوقيت دوراً في زيادة هذه التكهنات. إذ جاء قرار بوتين اللافت، في سياق تطورات متسارعة، سبقت وأعقبت هذا التعيين، كان أبرزها الحملات الإعلامية الصاخبة التي وجهت انتقادات قاسية للنظام، واتهمته بالفشل في إدارة البلاد، و«الانتقال من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلام». بل، وذهب بعضها إلى الحديث عن فقدان رئيس النظام بشار الأسد القدرة على التحكم في الأمور «بسبب اتساع رقعة الفساد والفاسدين من حوله»، فضلاً عن تدهور شعبيته إلى مستويات لا تؤهله للنجاح في أي انتخابات مقبلة.
وتبع ذلك، حملة مضادة شنّتها أطراف سورية موالية للنظام اتهمت فيها روسيا بأنها «حققت مكاسب كبرى» في سوريا. وبأنها لم تنقذ النظام كما تقول، بل يعود الفضل في «إنقاذ سوريا من الإرهاب والمؤامرة الكونية» إلى الإيرانيين.
تزامن كل ذلك مع ظهور الخلافات الداخلية بين بعض مكوّنات النظام في دمشق إلى السطح، وبدا أن البلد مقبل على «تصفية حسابات داخلية» لا تقتصر في تداعياتها على مسائل الفساد والملفات الاقتصادية.
في هذه الظروف برز عنصران ضاغطان. تمثل الأول في تفاقم المشاكل المعيشية والاقتصادية بما انعكس على ملايين السوريين، ولقد حذّرت أوساط في موسكو من أن يؤدي ذلك إلى انفجار داخلي قريب ما لم تتخذ خطوات عاجلة وحاسمة.
وبرز العنصر الضاغط الثاني مع اقتراب موعد دخول «قانون قيصر» الأميركي حيز التنفيذ، مع كل التداعيات السلبية التي سترمي بثقلها بقوة على القطاع الاقتصادي والشركات السورية والأجنبية (بما فيها الروسية) المتعاملة مع سوريا. بكلام آخر، بدا أن المرحلة المقبلة، ستكون حاسمة على مختلف المستويات، ويضاف إلى ما سبق، أن موسكو غدت في حاجة ماسة إلى دفع مسار التسوية السياسية؛ لأن الإنجازات الميدانية التي تحققت على الأرض خلال سنوات، قد تواجه هزات ضخمة بسبب الاستحقاقات المقبلة.
هكذا حمل توقيت التعيين دلالات أساسية إلى عزم موسكو العمل بشكل وثيق ومباشر في الملفات الداخلية السورية، وفي الملفات المحيطة بسوريا أيضاً. ولذا لم يكن غريباً أن يترافق قرار تعيين يفيموف تقريباً مع توجه روسي لتوسيع الحضور العسكري وتعزيز وضع القوات الروسية في سوريا... عبر الأمر الرئاسي لوزارتي الخارجية والدفاع بالعمل مع دمشق لتوقيع «بروتوكول» إضافي على اتفاقية الوجود العسكري الروسي في سوريا.

ميزات ومهام للمنصب الجديد

التطور الأساسي الذي أحدثه تعيين يفيموف أنه بات لدى روسيا شخصية تلعب دور «ممثل خاص» عن الرئيس بوتين، قادر على الحديث مع الجهات السورية المختلفة باسمه مباشرة من دون المرور بالقنوات الدبلوماسية. هذا الدور يحمل ثقلاً وقوة لم تمنح لسفير سابق. وفي وقت سابق قال مصدر روسي لـ«الشرق الأوسط»، إن «هذا يعكس أهمية المرحلة المقبلة في سوريا التي تتطلب ديناميكية ميدانية دبلوماسية في اتخاذ قرارات فورية على الأرض مباشرة». وزاد قائلاً «إن كون يفيموف ممثلاً للرئيس الروسي فهو يعني أنه سيكون أقدر على تنفيذ سياسة لا تسمح لأي طرف سوري بالتلاعب والمماطلة... وهذا يأتي بالتوافق على أنه حان الوقت لبدء عملية الانتقال السياسي والتغييرات في سوريا».
الحديث هنا عن الاستحقاقات الداخلية وضرورات مواجهة الفساد والفوضى والترهل والاستعداد للتعامل مع «قانون قيصر». لكن في الوقت ذاته هناك إشارة إلى مدى استعداد موسكو لإطلاق مرحلة جديدة من التعامل مع ملف التسوية في سوريا، تتضمن الشروع في وضع أسس لتنفيذ كامل للقرار الدولي 2254 بعناصره الثلاثة التي اشتملت الانتقال السياسي والإصلاح الدستوري والانتخابات.
كانت موسكو قد ركزت جهودها خلال المرحلة الماضية على المسار الدستوري بصفته المدخل لإطلاق عملية التسوية، لكن هذه الجهود اصطدمت بعراقيل عدة، بينها «تعنت المتشددين من طرفي الحكومة والمعارضة»، وفقاً لتعليق خبير روسي. هذا لا يعني بطبيعة الحال أن السفير يفيموف سيكون مكلفاً ملف التسوية في منصبه الجديد؛ لأن هذا الملف يبقى بيد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف الذي يواصل تنسيق الجهود في إطار «مسار آستانة» والاتصالات مع الأطراف المختلفة المعنية، بما فيها الأمم المتحدة ومبعوثها إلى سوريا غير بيدرسن. لكنه يعني أن مركز القرار الروسي الأساسي في سوريا انتقل من قاعدة حميميم إلى السفارة في دمشق، بكل ما يعني ذلك من بدء المرحلة الثانية من التدخل الروسي في سوريا بالبناء على العمليات العسكرية التي بدأت في 2015، والانتقال إلى مرحلة الإعمار سياسياً واقتصادياً.
لقد مهد يفيموف لتحركه الجديد بتوجيه إشارة يقلل فيها من حدة التكهنات التي أثيرت بسبب الحملات الإعلامية، فهو قال إن «الأحاديث والتلميحات المتداولة حالياً حول وجود خلافات في العلاقات الروسية - السورية لا أساس لها»، مضيفاً أن العلاقات «أقوى اليوم مما كانت عليه في أي وقت مضى».
بهذا المدخل يتأهب السفير – المبعوث الرئاسي للقيام بمهامه الجديدة في سوريا.
ومع الشق السياسي، المتعلق بفرض الرؤية الروسية على الأطراف السورية، وضبط صراعاتها التي يمكن أن تؤثر على مصالح روسيا، هناك الشق الاقتصادي الذي لا يقل أهمية، ونجاح السفير سابقاً، في مهام تعزيز التعاون الروسي اقتصادياً وتجارياً مع دولة الإمارات تضعه في تسميته الجديدة في مكان مناسب لأن المرحلة المقبلة ستشهد استحقاقات اقتصادية مهمة، تبدأ من مواجهة تداعيات «قانون قيصر» ولا تنتهي بإطلاق عمليات إعادة الإعمار.
يذكر أنه في تاريخ روسيا الحديث كان الكرملين لجأ مرة واحدة في السابق إلى تسمية أحد السفراء «مبعوثاً رئاسياً خاصاً». وحدث ذلك في عام 2001 عندما عيّن فيكتور تشيرنوميردين، رئيس الوزراء السابق آنذاك، سفيراً فوق العادة لدى أوكرانيا، مع تسميته «مبعوثاً رئاسياً خاصاً» لتطوير التعاون الاقتصادي والتجاري مع البلد الجار. واكتسب هذا التعيين أهمية فائقة نظراً لإعطاء موسكو أولوية خاصة للعلاقة مع أوكرانيا، في ظل احتدام المنافسة مع الغرب الذي سعى إلى جر الجمهورية السوفياتية السابقة إلى معسكر العداء لروسيا.
بناءً عليه، يأتي تعيين يفيموف «مبعوثاً رئاسياً» ليكتسب أيضاً أهمية خاصة مماثلة حالياً، في سوريا، لكن من منظور مختلف بعض الشيء، يتعلق بالدرجة الأولى بالتعامل مع الاستحقاقات الداخلية بعد بروز التباينات بين أطراف السلطة، فضلاً عن أن سوريا تقف أمام استحقاقات كبرى؛ ما يتطلب أن تكون لدى السفير هذه الصلاحيات الواسعة لاتخاذ القرارات على الأرض وفقاً للحاجة.


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.