شروط علمية لعودة الأحضان في زمن {كورونا}

تحديات تواجه كبار السن في تواصلهم مع أفراد أسرهم

ابتكر الكندي أليكس مونتاغانو «محطة للعناق» باستخدام البلاستيك ليتمكن من عناق أفراد أسرته (رويترز)
ابتكر الكندي أليكس مونتاغانو «محطة للعناق» باستخدام البلاستيك ليتمكن من عناق أفراد أسرته (رويترز)
TT

شروط علمية لعودة الأحضان في زمن {كورونا}

ابتكر الكندي أليكس مونتاغانو «محطة للعناق» باستخدام البلاستيك ليتمكن من عناق أفراد أسرته (رويترز)
ابتكر الكندي أليكس مونتاغانو «محطة للعناق» باستخدام البلاستيك ليتمكن من عناق أفراد أسرته (رويترز)

كانت المرأة الكندية تواقة للغاية لعناق والدتها أثناء وجودها قيد الحجر الصحي لدرجة أنها صنعت «قفاز العناق» باستخدام قماش القنب الشفاف مع الأكمام حتى تتمكن النساء من العناق عبر الحاجز البلاستيكي فيما بينهن. وكان مقطع الفيديو الذي يصور اثنين من أبناء العمومة في ولاية كنتاكي وهما يتعانقان ويبكيان بكاء حارا بعد أسابيع مطولة من التباعد في الحجر الصحي قد شاع انتشاره عبر مختلف منصات التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة.
قالت السيدة أمبر كولينز، التي صورت مقطع الفيديو لمعانقة ابنها الطفل هاكستون مع ابنة عمه روزاليند أرنيت (10 سنوات): «لم نكن نتوقع منهما ردود الفعل القوية التي صدرت عنهما فعلا. لقد كانا يشعران بسعادة بالغة لدرجة أنهما لم يجدا طريقة للتعبير عنها سوى البكاء. إن هذا العناق بين الطفلين يعكس مدى قوى اللمسات الإنسانية في حياة البشر حقا».
نحن لا نفتقد العناق فيما بيننا فحسب، بل إننا في حاجة ماسة إليه. فإن المودة والألفة الجسدية تقلل كثيرا من الضغط والتوتر عن طريق تهدئة نظامنا العصبي المتفاعل للغاية، والذي يُطلق في أوقات القلق والتوتر هرمونات الإجهاد التي ترفع الضغط وتُلحق الأضرار بأجسادنا. وخلصت إحدى سلاسل الدراسات المعنية بالأمر إلى أن مجرد ملامسة أو الإمساك بيد الشخص المحبوب لدينا يقلل كثيرا من وقع الصدمات الكهربائية التي ربما يتعرض البعض لها. وقال السيد يوهانس ايشستيدت، عالم الاجتماعي الحاسوبي وأستاذ علم النفس لدى جامعة ستانفورد: «هناك مسارات دماغية لدى البشر مخصصة بصورة حصرية لالتقاط اللمسات العاطفية. وعن طريق تلك اللمسات العاطفية تتمكن الأنظمة البيولوجية في أجسادنا من التواصل مع بعضنا البعض وبث الإيحاء بالأمان، وبأننا محبوبون، وبأننا متواجدون ولسنا بمفردنا في هذه الحياة».
وللوقوف على أكثر الطرق أمانا للعناق أثناء كارثة الفيروس الراهنة، توجهت بسؤالي إلى السيدة لينسي مار، أستاذة الحلالة الهوائية أو الهباء الجوي لدى جامعة فيرجينيا للتكنولوجيا وأحد أبرز الخبراء في مجال انتقال الأمراض عبر الهواء على مستوى العالم، للاستفسار عن مخاطر التعرض للإصابة بفيروس كورونا المستجد أثناء العناق. واستنادا إلى النماذج الرياضية المذكورة في دراسة أجريت في هونغ كونغ، تُظهر كيفية انتقال فيروسات الجهاز التنفسي عبر الاتصال الجسدي الوثيق، وبحسب الدكتورة مار، فإن مخاطر التعرض للإصابة بالفيروس أثناء العناق القصير يمكن أن تكون منخفضة بصورة مذهلة – حتى وإن كنت تعانق شخصا لم يكن يعرف أنه مصاب بالعدوى الفيروسية وتصادف أنه يسعل أثناء العناق.
وإليكم السبب في ذلك. نحن لا نعرف على وجه التحديد مقدار الجرعة الدقيقة المطلوبة التي يحتاجها فيروس كورونا المستجد للإصابة بالمرض، بيد أن التقديرات تتراوح من 200 إلى 1000 نسخة من الفيروس في المرة الواحدة. وقد يحمل السعال العادي ما يقرب من 5 آلاف إلى 10 آلاف نسخة من فيروس كورونا، غير أن أكثر الرذاذ الناجم عن السعال يتساقط على الأرض أو على الأسطح المجاورة. لكن عندما يكون الناس متقاربين للغاية – كما هو الحال في العناق – يجري في المعتاد استنشاق حوالي 2 في المائة فقط من الرذاذ المنبعث أثناء السعال – أو ما يساوي نحو 100 إلى 200 نسخة من فيروس كورونا. وهناك نسبة 1 في المائة فقط من هذه الجسيمات الشاردة – أي ما يقارب فيروس واحد أو اثنين على الأكثر – تحمل مخاطر عدوى الإصابة الفعلية.
وقالت الدكتورة مار: «لا نعرف على وجه الدقة عدد الفيروسات المعدية المطلوبة لكي يُصاب شخص ما بالمرض – ربما أكثر من فيروس واحد. فإذا لم تتحدث أو تسعل أثناء العناق، فسوف تكون المخاطر بالنسبة لك منخفضة للغاية».
وهناك قدر هائل من التباين في مقدار الفيروسات التي تتناثر من رذاذ الشخص المصاب بالعدوى، وذلك فإن من دواعي الحيطة والحذر تجنب العناق تماما. لكن إن دعت الضرورة النفسية إلى العناق، فلا بد من اتخاذ الاحتياطات اللازمة، مثل ارتداء الكمامة الواقية، والعناق في الأماكن المفتوحة وليس في الأماكن المغلقة. وينبغي محاولة تجنب ملامسة بشرة الشخص الآخر، أو ملابسه، بوجهك أو بالكمامة التي ترتديها. ولا تقم بعناق أي شخص يعاني فعلا من السعال أو تظهر لديه أعراض مرضية أخرى.
ولا بد أن نتذكر أن بعض أشكال العناق قد تكون أكثر خطورة من سواها. يجب أن يكون وجهك ووجه من تقوم بعناقه في اتجاهين معاكسين تماما. حيث إن اتجاه وجهك أثناء العناق من الأهمية القصوى في حمايتك. ولا يجب الحديث أو السعال أبدا أثناء العناق. ولا بد للعناق أن يكون موجزا وسريعا قدر الإمكان، من حيث الاقتراب السريع من بعضنا البعض ثم العناق الوجيز ثم التباعد مجددا. ولا تقف في مكانك بعد انتهاء العناق الوجيز، بل تراجع عن مكانك سريعا حتى لا تقوم بالتنفس والزفير في وجوه بعضكما البعض. ويتعين عليكما غسيل الأيادي بعد ذلك على الفور.
ومع ذلك، لا بد من مقاومة العاطفة ومحاولة عدم البكاء أثناء العناق، إذ أن الدموع ورشح الأنف يزيد من مخاطر التلامس مع المزيد من السوائل الجسدية التي تحتوي على الفيروس.
وقالت الدكتورة جوليا ماركوس، أستاذة علم الوبائيات والأمراض المعدية والأستاذ المساعد في كلية الطب بجامعة هارفارد: «إنه في حين أن بعض الاحتياطات قد تبدو من زاوية الجهود الكبيرة من أجل عناق بسيط للغاية، فإن الناس في حاجة لإتاحة المزيد من الخيارات على اعتبار أن الوباء سوف يستمر تواجده بيننا لفترة مطولة من الوقت».
وأضافت الدكتورة ماركوس تقول: «هناك تحديات حقيقية حاليا بالنسبة إلى كبار السن الذين يستشعرون المزيد من القلق بأنهم لن يتمكنوا من التواصل مع أفراد الأسرة أو التفاعل معهم مجددا وحتى نهاية حياتهم. ولكن العناق الموجز للغاية هو من الأهمية القصوى بصفة خاصة لأن مخاطر انتشار العدوى الفيروسية تزداد كثيرا مع طول فترات الاتصال مع الآخرين من حولنا».
- المعايير والمحاذير الواجب احترامها
> ممنوع العناق وجها لوجه: تقول الدكتورة مار: «تعتبر وضعية العناق المباشر هي الأكثر خطورة بسبب تقارب الوجوه تماما. عندما ينظر الشخص القصير إلى الأعلى في مواجهة من يعانقه، فإن أنفاس الزفير تنتقل بسبب الدفء والطفو إلى مجال تنفس الشخص الأطول، وإذا ما كان الشخص الأطول ينظر إلى الأسفل أثناء العناق، هناك فرصة كبيرة لأن تختلط الأنفاس بينهما بين الزفير والاستنشاق».
> ممنوع ملامسة الوجنتين أثناء العناق في نفس الاتجاه: في وضعية العناق هذه، ومع كلا الشخصين المتعانقين ينظران في نفس الاتجاه، تزداد مخاطر الإصابة بالعدوى لأن زفير كل منهما موجود في مجال التنفس لدى بعضهما البعض.
> لا بد من العناق في مواجهة الاتجاه المعاكس: من أجل المعانقة الآمنة بكامل الجسد، لا بد من إدارة الوجهين في اتجاهين متعاكسين تماما، الأمر الذي يمنع الشخصين المتعانقين من استنشاق جزيئات الزفير المنبعثة من تنفس كل شخص منهما. ولا بد من ارتداء الكمامات الواقية احتياطا للأمر.
> اترك الأطفال يعانقونك حول الركبة أو حول الخصر: العناق عند مستوى الركبتين أو عند الخصر يقلل كثيرا من مخاطر التعرض المباشر للرذاذ المنبعث والهباء الجوي نظرا لأن الوجوه تكون متباعدة تماما في وضعية العناق هذه. وهناك احتمال أن تتلوث ملابس الكبار من وجه الطفل أو قناعه الواقي، لذلك يمكن التفكير سريعا في تغيير الملابس بعد العناق مع غسيل اليدين جيدا إثر العودة من الزيارة التي تشمل العناق. ويتعين على الشخص البالغ أيضا أن ينظر إلى الاتجاه المعاكس أثناء العناق حتى لا يصل زفيره إلى الطفل الذي يعانقه.
> قم بتقبيل حفيدك - حفيدتك على مؤخرة الرأس: في هذه الوضعية، يتعرض الجد بدرجة منخفضة للغاية للزفير المنبعث من تنفس الأطفال. لكن يمكن أن يتعرض الطفل إلى زفير أنفاس الشخص الأطول، ولذلك لا بد من التقبيل مع ارتداء الكمامة الواقية.
تقول السيدة تانغ: «تستمر فترة العناق لمدة 10 ثوان على الأقل، ولذلك ينبغي أن يتمكن الناس من التحكم في العناق. ثم الرجوع مسافة لا تقل عن مترين قبل التحدث مرة أخرى من أجل السماح للجميع بالتقاط أنفاسهم بحرية عبر مسافة آمنة. إذ أن التوقف عن التنفس مؤقتا يمنع من وصول أي فيروس إلى مجال تنفس الآخرين، هذا إن كنت مصابا بالفيروس ولا تعلم بذلك، كما يحول بينك وبين استنشاق الفيروسات من الأشخاص الآخرين، إن كانوا مصابين ولا يعلمون أيضا».
يقول يوغو لي، بروفسور الهندسة في جامعة هونغ كونغ وكبير مؤلفي الدراسة الحسابية التي استعانت بها الدكتور مار في حساباتها المذكورة: «ربما يشكل العناق خطرا أقل من المحادثة وجها لوجه لفترة أطول. غير أن فترة التعرض تكون قصيرة للغاية في العناق، على العكس من المحادثات، والتي يمكن أن تطول مدتها كما يروق لنا، ولكن لا داعي أبدا لتقبيل الوجنتين».
وأضاف البروفسور لي يقول إن مخاطر التعرض للفيروس مع بدء العناق، عندما يقترب الشخصان المتعانقان من بعضهما البعض مع إمكانية اختلاط الزفير الصادر عنهما. وكذلك مع نهاية العناق أثناء ابتعاد بعضهما عن بعض. وارتداء الكمامة الواقية من الأهمية بمكان، تماما كغسيل اليدين بعد العناق، لأن مخاطر التقاط العدوى من أيادي أو بشرة أو ملابس الآخرين منخفضة نوعا ما.
ولاحظت الدكتورة مار ذلك نظرا لأن مخاطر العناق السريع مع اتخاذ الاحتياطات الواقية منخفضة للغاية ولكنها ليست منعدمة، فلا بد على الناس أن يمارسوا العناق بمزيد من التحفظ.
وقالت الدكتورة مار أخيرا: «ربما أحاول معانقة الأصدقاء المقربين مني، ولكنني سوف أتجاوز المزيد من فرص العناق غير اللازم. وربما أتخير المعانقة التي تبعث بالفرح والسعادة في النفس دون سواها من العناق العرضي».
- خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».