الاحتجاجات التي اجتاحت الولايات المتحدة من شرقها إلى غربها جاءت على خلفية مقتل جورج فلوريد، لكنها لم تكن المرة الأولى؛ فقد شهدت الأعوام ما بين 1955 و1968 احتجاجات وعصياناً مدنياً، قادتهما «حركة الحقوق المدنية» التي طالبت بضمانات الحقوق القانونية والتسجيل للتصويت في الانتخابات للأميركيين الأفارقة وإنهاء الفصل والتمييز العنصري في المدارس والمواصلات والأماكن العامة وفي مقرات العمل.
واتسمت فترة رئاسة الرئيس الأميركي ليندون جونسون (من عام 1963 إلى عام 1969) ببروز الحركات الليبرالية والحقوق المدنية، التي تزعمها القسّ والناشط السياسي مارتن لوثر كينغ. وتبنى كينغ مبدأ اللاعنف والمقاومة السلبية وقيادة المظاهرات السلمية، ودخل في مفاوضات شاقة حصل بمقتضاها على برنامج لتنفيذ إلغاء التفرقة. إلا إن دعاة التفرقة ألقوا القنابل على قادة الحركة، مما أدى إلى اندلاع المظاهرات، التي حافظت على طابعها السلمي، من قبل الأميركيين السود. وقاد كينغ أكبر مظاهرة في تاريخ الحقوق المدنية اشترك فيها 250 ألف شخص؛ منهم 60 ألفاً من البيض، في مسيرة نحو نصب لينكولن التذكاري في العاصمة واشنطن، وهناك ألقى كينغ خطابه المشهور «لديّ حلم». وأدى اغتياله في 4 أبريل (نيسان) 1968 من قبل أحد المتعصبين البيض في مدينة ممفيس إلى اندلاع المظاهرات، وعمّت الاحتجاجات كثيراً من الولايات الأميركية، وبعضها نُظّم أمام البيت الأبيض.
لكن كيف تعامل الرئيس جونسون مع المظاهرات وأعمال الشغب عام 1968؟ قاوم الرئيس الديمقراطي جونسون مطالب مواجهة المظاهرات بالقوة، ودعا إلى ضبط النفس ومعالجة الأسباب الكامنة وراءها. ويقول المؤرخون إن رد فعل جونسون الفوري لم يكن هو إرسال قوات؛ وإنما وضع حلول للقضية الأساسية التي تثير الغضب.
وعقد لقاءات مع قادة حركة الحقوق المدنية في البيت الأبيض في اليوم التالي لمقتل مارتن لوثر كينغ، واتخذ مقاربة متوازنة بين التعاطف وشجب العنف، ووجه نداءات من أجل الهدوء. ورافق قادة الحقوق المدنية إلى كاتدرائية واشنطن الوطنية لتأبين مارتن لوثر كينغ، وألقى خطاباً من البيت الأبيض وهو محاط بقادة الحركة، وأعلن جونسون لأول مرة عن خطة بقيمة مليار دولار لتحسين حياة الأميركيين من أصول أفريقية. وكان يأمل في إيجاد طرق لقمع الاحتجاجات دون اللجوء للقوة وإسالة الدماء.
ورغم جهود جونسون للتهدئة، فإن الاحتجاجات العنيفة استمرت، مما جعله يدفع بقوات الجيش، لكنه أعطى أوامره بعدم إطلاق الرصاص، منذراً بأنه إذا بدأ إطلاق الرصاص، فإنه لن يتوقف، وأبدى استعداده للعمل مع حكام الولايات والمسؤولين المحليين.
ويشير المؤرخون إلى أن جونسون كان يخشى من عدم انضباط الشرطة المحلية أو الحرس الوطني. وكان مصمماً على عدم إراقة الدماء، وانتشرت قوات الجيش وقامت بتكديس أكياس الرمل حول البيت الأبيض ومبنى الـ«كابيتول» في واشنطن.
وانتقد السيناتور الديمقراطي روبرت بيرد آنذاك عدم تسليح الجنود بالذخيرة الحية، وقال: «يجب إطلاق النار على اللصوص»، مضيفاً أن «وقت ضبط النفس قد انتهي»، لكن جونسون كان حاسماً في مقاومة هذه الضغوط، وساعد انضباط قوات الجيش في استعادة النظام. وفي غضون أسبوع؛ تراجعت معظم أعمال العنف. في المقابل، جرى تصوير جونسون على أنه رئيس ضعيف من قبل المرشحين الرئاسيين في ذلك الوقت ريتشارد نيكسون وجورج والاس، اللذين دَعَوَا إلى إقرار القانون والنظام، وأدى تصاعد تلك النبرة إلى تقويض جهود جونسون في معالجة الأسباب الكامنة وراء الانتفاضات، وكان نجاحه التشريعي الوحيد هو قانون للإسكان العادل. ويقول المحللون إن تعامل جونسون مع الأزمة عام 1968 كان حكيماً اعتمد على خطة إدانة العنف والتركيز على علاج المظالم التي تغذّي الانتفاضة، وبينما استخدم القوة العسكرية؛ إلا إنه سعى لتهدئة كثير من الأميركيين وحاول بنشاط معالجة الأسباب الجذرية لأعمال الشعب. وأحدث إصراره على ضبط النفس فارقاً كبيراً، حيث كانت الضغوط لكي يستخدم خطاباً يرضي أنصار الجنوب المحافظين ستؤدي إلى مزيد من القتلى وأعمال العنف والصدامات.
ويشير المحللون إلى أن ذكريات مظاهرات 1968 قد تعمل لصالح الرئيس ترمب، وقد يسترد شعبيته مع الناخبين البيض أنفسهم الذين تراجعوا عن مساندة الحزب الجمهوري خلال فترة رئاسته. وتقول جريدة «بوليتكو» إنه تاريخياً يستفيد الحزب الجمهوري، وليس الحزب الديمقراطي، من أي أعمال شغب وعنف، وإن ذكريات 1968 قد تعمل لصالح ترمب وإعادة انتخابه.
لكن الجريدة تشير إلى أن نظرة فاحصة للتاريخ قد تغير هذه التنبؤات، ففترة الستينات شهدت مستويات تضخم عالية، واضطرابات عرقية، ومظاهرات بالجامعات، وطفرة عالية في الجريمة، وغضباً من حرب فيتنام. وكشفت الأيام القليلة الماضية نمطاً أوسع من الغضب السياسي والاجتماعي؛ فقد وصلت البطالة إلى 14.7 في المائة، وتوفى أكثر من 100 ألف أميركي بسبب «كوفيد19»، ولا نهاية قريبة للوباء... حالة من الانقسام والاستقطاب العرقي والحزبي لم يسبق لها مثيل منذ الحرب الأهلية، مع هجمات وتوجيه سهام ضد الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، وسط تراجع اقتصادي كبير قد يستمر لسنوات. وهناك من يرى أن الحزب الحاكم (الجمهوري) فشل في توفير السلام والازدهار والنظام الاجتماعي.
وتقول الصحيفة إن ترمب؛ على عكس جونسون، ركز على الانقسام، ففي حين سعى جونسون إلى جعل أميركا مكاناً أكثر ترحيباً بالأميركيين السود والفقراء واليسار بصفة عامة، ركز ترمب على خطاب القوة والانقسام؛ بما قد يهدد حظوظه في الانتخابات المقبلة، خصوصاً مع الغضب من استمرار التراجع الاقتصادي.
التشابه والاختلاف بين اضطرابات 1968 و2020
التشابه والاختلاف بين اضطرابات 1968 و2020
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة