بوادر أزمة دواء في سوريا

كلية طب الأسنان في جامعة دمشق (إ.ب.أ)
كلية طب الأسنان في جامعة دمشق (إ.ب.أ)
TT

بوادر أزمة دواء في سوريا

كلية طب الأسنان في جامعة دمشق (إ.ب.أ)
كلية طب الأسنان في جامعة دمشق (إ.ب.أ)

بالتزامن مع تنامي القلق من تأثيرات تطبيق «قانون قيصر» الأميركي منتصف الشهر الحالي، بدأت أزمة صناعة الأدوية في سوريا بالتفاقم، على وقع تدهور قيمة الليرة السورية، حيث حذر النائب في مجلس الشعب السوري وضاح مراد من إغلاق معامل الأدوية بعد انتهاء موادها الأولية، خلال فترة أسبوع.
وقال أمام مجلس الشعب (البرلمان) مخاطباً الحكومة: «الدواء والغذاء خط أحمر وخطير على الشعب (...) أنتم فشلتم حتى الآن في الغذاء، وماضون بطريقكم لغلق مصانع الأدوية السورية التي كانت تغطي احتياجات السوق المحلية، وبأرخص الأسعار، وتصدّر إنتاجها إلى أكثر من ثمانٍ وخمسين دولة (...) أسبوع آخر وستُغلق جميع معامل الأدوية، بعد أن تنتهي المواد الأولية الباقية فيها! فكيف تطلب الحكومة، من مصانع الأدوية تسعير الأدوية على سعر صرف الدولار بأربعمائة ليرة، وتقول لهم دبّروا أموركم بشراء الدولار من السوق، وسعره فوق الألف وسبعمائة؟ وكأنك تقول لهم أغلقوا مصانعكم (...) أعطهم الدولار بثلاثمائة وطالبهم بتخفيض سعر الدواء للسوق المحلية». وتعد صناعة الأدوية في سوريا من القطاعات الاستثمارية الأكثر نمواً منذ تأسيس «الشركة العربية لصناعة الأدوية» أول شركة لتصنيع وتصدير الأدوية عام 1968، ومن ثم شركتي «الديماس» و«تاميكو» اللتين جرى تأميمهما عام 1970 حيث تبع معمل «الديماس» لوزارة الدفاع وينتج الأدوية والمصول من مضادات حيوية وأدوية تخدير، وتبعت شركة «تاميكو» لوزارة الصحة وهي تنتج أدوية السيتامول وأدوية السكري والضغط إضافة إلى السيرومات. كما شهدت تلك الفترة تأسيس شركة «بركات للصناعات الدوائية» عام 1972.
في عام 1987 سُمح للقطاع الخاص بالاستثمار في الصناعة الدوائية، وحصلت شركة «أوبري للصناعات الدوائية» عام 1989 على أول ترخيص لصناعة الأدوية من القطاع الخاص، لتحصل بعدها قفزة في الصناعة الدوائية السورية فتم إنشاء أكثر من 28 معملاً، ليصل عدد معامل الأدوية السورية إلى نحو 70 معملاً عام 2011 تنتج أكثر من 8000 صنف، تغطي 93% من احتياج السوق المحلية مع فائض يصدر إلى أكثر 44 دولة.
حسب الأرقام الرسمية، فإن هذه الصناعة تضررت في الحرب كباقي القطاعات الأخرى، وكان نصيبها خروج أكثر من 19 معملاً من الخدمة، وتراجع الإنتاج بنسبة 75%، مع توقف عشرات من المعامل وما استمر منها عمل بربع طاقته الإنتاجية، وخلال العامين الماضيين ومع عودة الاستقرار إلى محيط العاصمة دمشق ومدينة حلب بدأ بعض المعامل بالعودة تدريجياً إلى الإنتاج كما منحت الحكومة نحو 92 ترخيصاً لإنشاء معامل جديدة لا تزال حبراً على ورق بسبب العقوبات والحصار الاقتصادي، وما زال السوريون يعانون من نقص حاد تتجاوز نسبته 70% من حاجة السوق من الأدوية والمنتجات الصيدلانية، إضافةً إلى مشكلة تدني فعالية الدواء المحلي.
وجاءت مداخلة النائب وضاح مراد التي تم تداولها بين السوريين عبر السوشيال ميديا لتفجر المخاوف في الشارع السوري من الافتقار إلى الدواء وارتفاع أسعاره. ويقول صيدلاني: «أزمة الدواء موجودة في سوريا منذ عدة سنوات والسبب هو تمسك وزارة الصحة بسياسة تسعير غير منطقية بزعم أن الدواء خط أحمر، إذ تُلزم مصنعي الأدوية بأسعار مخفضة تتماشى مع متوسط الدخل أو القدرة الشرائية للسوريين في حين تزداد تكاليف الإنتاج بشكل مضاعف، بدءاً من المواد الأولية التي تُستورد عن طريق دول وسيطة بسبب العقوبات، ومروراً بأجور الشحن وارتفاع أجور الأيدي العاملة، وليس انتهاءً بأجور المستودعات، وأجور الصيدليات في الوقت الذي تلزم وزارة الصحة الصيدليات بأسعار شبه رمزية لغالبية الأدوية مع تقليص هامش الربح للصيدلاني لا يتجاوز 16%، هناك أدوية بسعر 200 و300 ليرة، علماً بأن كلفة العبوة والتغليف والحفظ أكثر من هذا المبلغ، فالدولار الأميركي الواحد يعادل 1650 ليرة!» (ارتفع سعر الصرف أمس ووصل أحياناً لنحو 1900) ويضيف أن «قطعة بسكويت سعرها 300 ليرة وعلبة حبوب ضغط بنفس السعر، علماً بأن قطعة البسكويت ذاتها قبل الحرب كانت بعشر ليرات سورية، وقد ارتفع ثمنها خلال الحرب كسائر المواد الأخرى ما عدا الدواء المصنّع محلياً الذي لا تزال وزارة الصحة مصرّة على تسعيره حسب سعر صرف 425 ليرة» ويقرّ الصيدلاني بأن الأرباح التي يجنيها هذا القطاع هي من الأدوية المستوردة والمهربة، وذلك على حساب الصناعة المحلية.



أصحاب المصالح التجارية في ضاحية بيروت الجنوبية وتحدّي الاستمرار

جانب من الدمار في حارة حريك بالضاحية الجنوبية في بيروت (أ.ف.ب)
جانب من الدمار في حارة حريك بالضاحية الجنوبية في بيروت (أ.ف.ب)
TT

أصحاب المصالح التجارية في ضاحية بيروت الجنوبية وتحدّي الاستمرار

جانب من الدمار في حارة حريك بالضاحية الجنوبية في بيروت (أ.ف.ب)
جانب من الدمار في حارة حريك بالضاحية الجنوبية في بيروت (أ.ف.ب)

غادرت لينا الخليل ضاحية بيروت الجنوبية، بعد بدء إسرائيل قصفاً مدمّراً على المنطقة قبل نحو شهرين، لكنها تعود كل يوم لتخوض تحدّياً، يتمثل بفتح أبواب صيدليتها ساعتين تقريباً، ما لم تمنعها الضربات الجوية من ذلك، وفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

وتصف المرأة الخمسينية الصيدلية التي أنشأها والدها في الضاحية الجنوبية في عام 1956 بأنّها «أهم من بيتي... ففيها يمكن أن تشتمّ رائحة أدوية صُنعت منذ 60 عاماً».

في كثير من الأحيان، تسارع الخليل إلى إقفال أبواب الصيدلية، عندما يُصدِر الجيش الإسرائيلي إنذارات للسكان للإخلاء قبل البدء بشنّ غارات.

وبات عملها يقتصر على بيع ما تبقى في الصيدلية من أدوية وسلع، بعدما نقلت 70 في المائة من موجوداتها إلى منزلها الصيفي في إحدى القرى.

وهي مقيمة حالياً داخل العاصمة، وتتوجّه يومياً إلى بلدة عالية الواقعة على بُعد نحو 20 كيلومتراً من بيروت، لإحضار أدوية تُطلب منها، وتوصلها إليهم أو يحضرون إلى الصيدلية في حال تمكّنوا من ذلك لأخذها.

وحال لينا الخليل كما حال كثير من سكّان الضاحية الجنوبية لبيروت الذين غادروها واضطرّوا إلى البحث عن بدائل لأعمالهم أو مواصلتها بما تيسّر من قدرة أو شجاعة.

وتؤكد الخليل أنّ «الخسائر المادية كبيرة»، مشيرة إلى أنّها تعطي موظفيها حالياً نصف مرتّب، بسبب تزايد المصروف وتضاؤل المدخول.

«عائدون من الموت»

مع استمرار الحرب، لا يزال من غير الواضح حجم الدمار الذي طال المصالح التجارية في الضاحية الجنوبية التي كان يسكنها 600 - 800 ألف شخص قبل الحرب، وفق التقديرات، وباتت شبه خالية من سكانها.

في الضاحية، خاض علي مهدي مغامرته الخاصة مع شقيقه محمد بعد انتهاء دراستهما الجامعية، فعملا على تطوير تجارة والدهما التي بدأها قبل 25 عاماً. ووسّعا نطاقها من متجر لبيع الألبسة بالجملة إلى مستودع ومتجرين، إضافة إلى متجرين آخرين في صور والنبطية (جنوب) اللتين تُستهدفان بانتظام بالغارات في جنوب البلاد. وكل هذه المناطق تُعتبر معاقل لـ«حزب الله» الذي يخوض الحرب ضد إسرائيل.

لكن مهدي اضطر أن يبحث عن بديل لمشروع العائلة بعد اندلاع الحرب المفتوحة بين «حزب الله» وإسرائيل.

ويقول الشاب الثلاثيني إنّه تمكّن بصعوبة من نقل البضائع الموجودة في المتاجر الـ4 والمستودع، إلى 3 مواقع داخل بيروت وفي محيطها.

ويشير إلى أنّ عمّال النقل كانوا يرجعون من النبطية وصور، وكأنهم «عائدون من الموت»، بعد سماعهم بالإنذارات للسكان لإخلاء مناطق والغارات الجوية والتفجيرات المدمّرة التي تليها.

كان يعمل لدى علي وشقيقه 70 موظفاً نزح معظمهم إلى مناطق بعيدة؛ ما دفع الشابين إلى التخلّي عن كثيرين منهم. وبهدف الحفاظ على عملهما، تخلَّيا عن آخرين، وبدآ بدفع نصف الرواتب لمن بقي.

ويؤكد مهدي أنّ تجارته تتمحور حالياً حول «تصفية ما لدينا من بضائع»، مضيفاً أنّ حركة البيع خفيفة.

وتأثر القطاع التجاري في لبنان بشدة جراء الصراع الذي بدأ بين «حزب الله» وإسرائيل قبل أكثر من عام، وشهد تصعيداً في سبتمبر (أيلول).

وفي تقرير صدر عن البنك الدولي، الخميس، تُقدّر الأضرار اللاحقة بالقطاع التجاري بنحو 178 مليون دولار والخسائر بنحو 1.7 مليار دولار.

وتتوقع المؤسسة أن تتركّز نحو 83 في المائة من الخسائر في المناطق المتضرّرة، و17 في المائة منها في بقية أنحاء لبنان.

«لم تبقَ إلا الحجارة»

ويترقّب علي مهدي المرحلة التي ستلي نفاد البضائع الموجودة لديه. ونظراً إلى عدم استقرار الأوضاع المالية والاقتصادية والأمنية والسياسية، يتساءل عمّا إذا كان عليه «مواصلة الاستيراد أو الحفاظ على السيولة التي يملكها».

ويقول بينما يجلس بين بضائع مبعثرة نُقلت إلى متجره الجديد في شارع الحمرا داخل بيروت: «هناك خسائر كبيرة».

بشكل رئيسي، يُرجع التقرير الصادر عن البنك الدولي الخسائر التي مُني بها قطاع التجارة في المناطق المتضرّرة، إلى نزوح كلّ من الموظفين وأصحاب الأعمال؛ ما تسبب في توقف شبه كامل للنشاط التجاري وانقطاع سلاسل التوريد من وإلى مناطق النزاع والتغييرات في سلوك الاستهلاك بالمناطق غير المتضرّرة، مع التركيز على الإنفاق الضروري.

وتنطبق على عبد الرحمن زهر الدين صفة الموظف وصاحب العمل والنازح، تُضاف إليها صفتان أخريان هما المتضرّر والعاطل عن العمل جراء الدمار الذي طال مقهاه في الرويس بالضاحية الجنوبية، في غارة إسرائيلية.

بعدما غادر، في نهاية سبتمبر (أيلول)، إلى وجهة أكثر أماناً، عاد قبل أيام ليتفقّد مقهاه الذي استحال حديداً وحجارة متراكمة.

على يساره، متجر صغير لبيع أدوات خياطة تظهر من واجهته المحطّمة كُتل من الصوف على رفّ لا يزال ثابتاً على أحد الجدران. وبجانبه، متجر آخر كان مالكه يصلح بابه الحديديّ المحطّم ليحمي ما تبقى بداخله.

يقول زهر الدين بينما يتحرّك بين أنقاض الطابق العلوي: «لم تبقَ إلا الحجارة».

ويعرب ربّ الأسرة عن شعور بـ«الغصّة والحزن»، جراء ما حلّ بـ«مصدر رزقه» الوحيد.

ويقول إنّه لم يبدأ بالبحث عن بديل، في ظل ارتفاع بدل الإيجار وأسعار الأثاث والمعدّات، مؤكداً أنّ الخسائر التي تكبّدها «كبيرة، وقد تبلغ 90 ألف دولار».