ماذا وراء الشائعات المتكررة حول رحيل المبدعين والمشاهير؟

بعضهم قرأ حياً نبأ وفاته وبعضهم اضطر غير مرة إلى دحضه

ماذا وراء الشائعات المتكررة حول رحيل المبدعين والمشاهير؟
TT

ماذا وراء الشائعات المتكررة حول رحيل المبدعين والمشاهير؟

ماذا وراء الشائعات المتكررة حول رحيل المبدعين والمشاهير؟

تحدثت في مقالة سابقة عن أن الازدياد المطرد لسكان الأرض، قد لا يتسبب فقط في حالة اللامبالاة التي يشعر بها الكثيرون إزاء الموت، بل في رغبة البعض في إنقاص عدد الأحياء الذين يتقاسمون بفعل هذا الازدياد هواء الكوكب المريض، وخبزه المتناقص، ومياهه الملوثة. ولعل الكثير من البشر يتمنون في سريرتهم أن تتكفل الحروب والأوبئة والكوارث الطبيعية، بإنجاز هذه المهمة، شرط أن يصيب الموت أحداً غيرهم، وأن يظلوا هم ومن يحبون بمنأى عن الكارثة. ولعل الكاتب اليوناني الشهير نيكوس كازانتازاكيس كان أكثر جرأة من سواه حين تحدث في مذكراته المشوقة «تقرير إلى غريكو»، عن المشاعر الغريبة والمتناقضة التي انتابته، إثر زلزال عنيف ضرب جزيرة كريت اليونانية وقتل الآلاف من سكانها. فقد اعترف صاحب «زوربا اليوناني» بأن شعوره التلقائي بالحزن على المصير المأساوي لمواطنيه، ما لبث أن اختلط بمتعة غامضة متأتية عن عدم وجوده في مكان الزلزال. ذلك أن موت الآخرين وإن كان يحمل في طياته قدراً متفاوتاً من المرارة والألم، إلا أنه يوفر للأحياء من جهة أخرى لذة غامضة متأتية من كونهم قد أفلتوا، ولو إلى حين، من ملاقاة المصير نفسه. أما المصدر الآخر للمتعة، فيقر كازانتازاكيس بأنه جاء مختلطاً بالشعور بالذنب؛ لأن أنانيته المفرطة هي التي دفعته إلى الاعتقاد بأن تناقص سكان الأرض، لا بد أن يضمن له فرصاً أوفر للتمتع بثرواتها وأطايبها وطبيعتها الخلابة.
لا شك بأن الفضائيات المعولمة والعابرة للقارات، قد أسهمت إلى حد بعيد في الكشف عن النوازع السادية العميقة التي يستبطنها البشر في لاوعيهم الجمعي، لا إزاء أعدائهم فحسب، بل إزاء من يفترض أنهم يقفون معهم في الخندق نفسه. وهو ما ظهر جلياً في حرب الخليج الثانية، حيث نجحت هذه الفضائيات في تنفيس مشاعر الاحتقان والغضب المتأتية من فظاعة الحرب على العراق وعنفها اللاأخلاقي، وتحويل كل ذلك إلى متعة بصرية ومشاهد مثيرة للفضول. لكن حتى قبل ذلك بسنوات، وقبل أن أتحدث عن الأسباب الكامنة وراء مطاردة الفنانين والمشاهير، وبخاصة الذين يتجاوزون المعدل الوسطي للأعمار، بإشاعات الموت، لا بد من التوقف قليلاً عند ما حدث للشاعر الفلسطيني علي فودة، إبان الاجتياح الإسرائيلي الواسع للبنان عام 1982. فقد أصيب صاحب «عواء الذئب» بشظية بارجة إسرائيلية أثناء توزيعه مجلة «رصيف» التي كان قد أسسها مع الكاتب الفلسطيني رسمي أبو علي، لتكون منبراً لحركات الرفض الأدبي والسياسي في ذلك الحين. ومع أن فودة كان لا يزال يرقد حياً في أحد مستشفيات بيروت، فإن رفاقه وزملاءه من الشعراء والكتاب لم ينتظروا جلاء الحقيقة عن وضعه الصحي، قبل أن ينبروا إلى رثائه عبر عشرات النصوص والمقالات وقصائد التأبين. ولما كان الشاعر الشاب، ذو السنوات الستة والثلاثين، لا يزال بعد في كامل وعيه، فقد أتيح له أن يقرأ كل ما كتب في رثائه، قبل أن يغمض عينيه إلى الأبد، بعد ذلك بأيام قليلة.
وإذا كان لهذه الحادثة من دلالات، فهي لا تكشف فقط عن تعلق المثقفين بصديقهم المصاب وحبهم له، بل تكشف في الآن ذاته عن «استعجالهم» استشهاده؛ لأن المعركة مع العدو تحتاج إلى ذخيرة دموية دائمة من جهة؛ ولأنهم يحتاجون من جهة أخرى إلى مواد ملائمة لتدبيج المقالات وتوليد القصائد. وقد روى لي ممدوح عدوان، أنه حين التقى محمود درويش، بُعيد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت بأشهر قليلة، سأله الأخير: «هل تكتب شعرا هذه الأيام؟»، فأجاب صاحب «للريح ذاكرة ولي» بالنفي. ولما سأله درويش عن السبب، أجاب ممدوح على طريقته في الدعابة، بأن قصيدته تحتاج لكي تولد إلى شهيد «طازج»، باعتبار أن الشعراء العرب، وهو من بينهم، قد قاموا بواجبهم تجاه الشهداء القدامى. فما كان من درويش إلا أن صاح على طريقة أرخميدس: «وجدتها، لماذا لا تجعل من هذه الفكرة موضوعاً لقصيدتك العتيدة؟». وهكذا كان، وكتب ممدوح عمله الملحمي «قصيدة ينقصها شهيد» الذي جاء فيه: «يا أيها الأصحاب والأطفال والأزهار \ والشجر المغرد في دمي \ ما زال ينقصني شهيدْ \ وأريده من غير من دُهسوا \ وغير الغارقين \ وغير من ماتوا بغيظٍ \ أو بأطواق الحديدْ \ هل كنتُ محتاجاً إلى جثثٍ لأكمل صورتي؟ \ هل كنت محتاجاً إلى هذي الدماء لكي أوضّح بصمتي؟ \ إني أريد بأن يكون معي شهيدٌ من بلادي \ كي أشارك إن تفاخرت المصائبُ بين أسماءٍ وخنساءٍ وهندٍ \ حين ضاع الندبُ في حمّى المزاد».
غير أن الشعراء الذين طالما أتعبهم البحث عن شهداء جدد لتوفير «وقود» إضافي لقصائدهم، لم يكونوا يعلمون أن للصورة وجهها الآخر، وأن ثمة من سيستعجل رحيلهم هم، بمجرد أن يطول بهم العمر أو يرقدوا منهكين على أسرة المرض. وما حدث لعلي فودة، تكرر مع سواه مرات ومرات. وما زلت أذكر في هذا السياق كيف أشاع البعض نبأ رحيل نزار قباني، قبل رحيله الفعلي بعامين اثنين. وإذ تزامنت إحدى هذه الإشاعات مع انعقاد معرض الكتاب السنوي في بيروت، اضطر سهيل إدريس، الذي كانت تربطه صداقة وطيدة بصاحب «طفولة نهد»، إلى الاتصال الهاتفي بنزار والتأكد من بقائه حياً، قبل أن يعمد إلى تكذيب الخبر ودحضه. وما حدث لنزار حدث لسواه من الشعراء العرب الكبار، كالجواهري والبياتي. كما تم نعي محمد الفيتوري، الذي كان قد استقر في المغرب في سنوات مرضه الأخيرة، غير مرة، وانبرى الكثير من الصحافيين إلى نشر خبر وفاته مصحوباً ببعض التعليقات ومقالات التأبين. والأمر نفسه تكرر مع مظفر النواب، الذي ما انفك البعض يلحّ منذ سنوات عدة على «إماتته» بشكل دوري، ويصر على تعميم الخبر في الصحف والفضائيات، لمجرد غيابه عن الإعلام وانقطاع أخباره، بفعل الشيخوخة والوهن الجسدي.
لم يكن السياسيون من جهتهم بمنأى عن مثل هذه الإشاعات التي لا يكف خصومهم عن إطلاقها، لأسباب تتعلق بالنزاع على السلطة، أو بسبب تقدمهم في السن، أو بسبب الأمرين معاً، كما في حالة الرئيس اللبناني ميشال عون. إلا أن الأمور تأخذ في الأنظمة الاستبدادية طابعاً أكثر حدة، حيث لا سبيل إلى إزاحة الحاكم الأبدي «المتأله» إلا بالموت الطبيعي، كما حدث لفرانكو، أو بالقتل كما حدث لسواه، وإلا فبالدعاء والتمني واستعجال الفرج عن طريق الشائعات. وإذا كان الترويج المختلق لرحيل القادة والزعماء يجد بعض مبرراته في الأداء البغيض لبعض الطغاة والفاسدين والملطخة أيديهم بدماء الشعوب، فإن ما لا يمكن فهمه على الإطلاق هو الإشاعة التي تم ترويجها في الأسبوع الفائت حول وفاة فيروز، والتي سارعت ابنتها ريما إلى نفيها بعد ذلك. ذلك أن فيروز ليست طرفاً في معارك اللبنانيين وحروبهم المتواصلة، أو في صراع أحزابهم وطوائفهم على النفوذ، لكي يروج المروجون لرحيلها ويفرح بموتها المتشفون. بل هي الحضور الأيقوني وسفيرتنا إلى النجوم وشاعرة الصوت، كما سماها أنسي الحاج في مقالة له. وهي تأتي من الجهة الطيفية للأشياء، ومن حنين اللبنانيين والعرب، الذين ينوؤ معظمهم تحت نير الاستبداد والحروب الأهلية الطاحنة، إلى زمن البراءة الخالصة والنزاعات الفولكلورية التي سرعان ما تؤول إلى نهاياتها السعيدة. فما الذي يدفع البعض إلى اختلاق نبأ رحيلها، وهي أحد آخر الرموز المضيئة وسط ظلام العرب المستتب؟. إن الأمر لا يعود بالطبع إلى رغبة البعض في الانتقام من فيروز، كما هو الشأن مع الطغاة الذين تفشل الثورات وحركات الاعتراض في إزاحتهم، بل هو يعكس في ظل الانهيار التام والعجز عن التغيير، رغبة ملحة في جلد الذات ومعاقبتها على المآل الكارثي الذي لم تبذل الجهد اللازم لتفاديه. وإذا كانت الشعوب في لحظات التدهور والتخلي، قد عملت على تصفية الحساب مع رموزها ونماذجها العليا، عبر تحويلها إلى أضحيات وقرابين على مذبح الواقع المأزوم، كما حدث للمتنبي وبوشكين ولوركا، فإن الترويج المتكرر لرحيل المبدعين والفنانين والشعراء، ما هو إلا انعكاس لرغبة الجماعة المغلوبة في تدمير ما تبقى لها من كنوز، وفي إسدال الستار على آخر أساطيرها المؤسسة. فإن لم يحصل ذلك بالقتل المتعمد، فبالرغبة والتمني وإطلاق الإشاعات!



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

 

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.