الملحمة السورية من خلال أجيال نسائية من عائلة واحدة

ديمة ونوس تكتب عن «العائلة التي ابتلعت رجالها»

الملحمة السورية من خلال أجيال نسائية من عائلة واحدة
TT

الملحمة السورية من خلال أجيال نسائية من عائلة واحدة

الملحمة السورية من خلال أجيال نسائية من عائلة واحدة

«الانتظار» هي تلك الكلمة التي تتردد تكراراً في رواية الكاتبة السورية ديمة ونوس الجديدة، التي تحمل اسماً دالاً هو «العائلة التي ابتلعت رجالها». الرجال حاضرون في العنوان، وكذلك في النص، إلا أنهم متوارون خلف النساء الست اللواتي تدور حولهن القصة. وإن تعمقت قليلاً في الرواية الصادرة حديثاً عن «دار الآداب» في بيروت، وجدت أنهما امرأتان اثنتان، تربطهما علاقة بقدر ما هي حميمة فإنها ملتبسة أيضاً. الأم التي لا تكف عن رواية أحلامها، وابنتها التي ارتأت أن تسجل ما تقوله الأم بكاميرا تثبتها وسط الغرفة، لتحمل عنها عبء الذاكرة، كشخص ثالث حيادي. وما بين الشخصيتين، هناك الجدة والخالة وبنات الخالة الاثنتان. نساء من جهة الأم يختصرن العائلة كلها، والعالم أيضاً، إذ باستثناء الحضور الضعيف للأب، وأزواج عابرين، تحتل النسوة بأمزجتهن وقصصهن جلّ الصفحات. لكن المحور الرئيسي هما هاتان السيدتان اللتان تسترجعان الماضي، وقد مزقهما الترحال، كل منهما على طريقتها، حتى تكتمل الحكاية باختلاط الرؤيتين معاً. «ضائعتان بين الماضي والحاضر»، بعد أن ضاقت المسافة بين الحلم والواقع. الأم دخلت سبعيناتها «وتشتاق إلى ما لا يمكنها استعادته. يعدوها الوهم بأنها لو عادت إلى دمشق لارتوى حنينها إلى ذاك الضجيج، ولا سبيل لإقناعها بعكس ذلك».
إنها حكاية الشتات السوري، والترحال الذي يجمع أحياناً ولا يفرق، وثمة للوصول إلى ذلك ألف حيلة. تقول الراوية «في غربتنا، أمي وأنا، قررت أن أسجن الزمن وأوثقه، اشتريت كاميرا وبدأت تصوير تلك الأيام الثقيلة. كأنني أردت أن أتخلص من عبء ذاكرتها، أن أجعلها حبيسة ذاكرة منفصلة» ولكن هل نجحت؟ على العكس، بدا أن الابنة تتورط هي الأخرى في استرجاع الذاكرة وفي تقاسم الألم. من دمشق وبيروت إلى أماكن أخرى «مع كل رحيل كانت تتلاشى أمي وتذوب روحها... صارت تريد أن تعود ولو ليوم واحد». الكاميرا ليست أمراً غريباً عن الأم الممثلة التي تعرف كيف تقف أمامها، لكنها هذه المرة تتلعثم، لأنها لا تعرف إن كانت حكايتها تستحق عناء أن تروى.
تظهر الخالة ماريان (من أب آخر) بحكاياها ومغامراتها الكثيرة التي توفي زوجها الثري، وبددت شركاته لجهلها في إدارة الأموال. ذات شخصية قوية وتقدير كبير من بناتها وابنة اختها الراوية، لكنها على علاقة سيئة بالرجال الذين إما يرحلون عنها يائسين أو يموتون. وماريان أصبحت كبيرة في السن، و«أمراضها تكفي عائلة بأكملها». ابنة الخالة شغف الدلوعة، الأنيقة، المحبة للحياة، التي تزوجت مرتين، ولها أجمل سيقان في العائلة، وتظهر عليها آثار المرض. هناك أيضاً ابنة شغف (ياسمينا) وكذلك ابنة الخالة الثانية نينار التي من أهم صفاتها التأخر عن المواعيد. إنها على عكس أختها تماماً «ملابسها فضفاضة، لا تحب مساحيق التجميل» ولا تجيد استخدامها. مرتاحة مع جسدها. تلبس السراويل العريضة، حيوية، لا تكف عن قص الحكايات. الجدة هيلانة التي تركت لمساتها في المطبخ ومهارتها في تحضير الطعام إرثاً لبناتها. «هي التي أسست ذائقة الجميع. طبخها هو معيار اللذة. كل الأحاديث التي تدور حول الأكل تبدأ من الجدة». لكن لماذا تحضر الجدة ويغيب الجد «تساءلت كثيراً عن سبب تجاهل أمي لأبيها»، تقول الراوية، «على الرغم من محبتها له... ربما اختصر رحيل أبي رحيل كل الرجال في حياتها. لا تريد لرجل آخر أن يتردد اسمه طول النهار وأن يزور أحلامها...». ليست مصادفة بالطبع أن تكون أم الراوية في القصة ممثلة، ووالدها كاتب، كما والدة ووالد صاحبة الرواية ديمة ونوس، حيث إنها ابنة الممثلة السورية فايزة شاويش والأديب المسرحي سعد الله ونوس.
قصص كثيرة تتفرع لنساء العائلة، علاقتهن ببعضهن البعض، وعلاقاتهن غير الموفقة عموماً مع الرجال. تفاصيل فائضة، لا تصب دائماً في صالح صلب الرواية وعصبها الرئيسي. هذا التفرغ يجعلنا ننتقل مع النساء في أماكن عديدة. تنقل غالبيته قسري، يصل إلى فقدان المكان الأول، من دمشق إلى سرمدا، إسطنبول، بيروت، وباريس ولندن. تعيش الشخصيات في جغرافيا متسعة، تتوسع معها الأحداث ويفقد الرجال، وتبقى المعاناة.
ماتت شغف رغم الآمال ودفنت فوق زوج جدتها هيلانة، الذي رحل قبل ثلاثين عاماً «وزرع القبر بالورود، وكأن جدي أزهرت روحه واستأنس بحفيدته». ثم رحلت الخالة ماريان، وكل واحدة من النساء في بلد تبكيها في وحدتها. كذلك تصاب ابنة الخالة نينار بفقدان جزئي في الذاكرة. نينار التي كانت ذات يوم قد حولت منزل والدتها في دمشق موقعاً لالتقاء الثوار، واضطرت تحت وطأة التهديد، إلى ترك كل شيء. وفي باريس حيث التجأت، تموت في غربتها هي الأخرى. «ثماني نساء فقدن الأب والزوج. ذلك الفقد كان رمزياً في حالات كثيرة. ثم بدأنا نفقد بعضنا بعضاً. هل انتهينا من أكل الرجال، كما قال بابا يوماً، فبدأنا ننهش بعضنا بعضاً؟».
حيلة الكاميرا والأم التي تروي، والابنة التي تشارك في استعادة الأحداث، تسمح للراوية بأن تلعب بخيط الزمن، أن تذهب في سيرة كل واحدة من النساء جيئةً وإياباً، أن تقتطع من القصص، أن تقوم بالمونتاج الذي يخطر لها. فالذاكرة حرة في استرجاع ما تريد، وفي إسقاط ما تشاء، في الانتقائية، وفي اختيار الأزمنة. الأم التي بدأت تفقد حيويتها، ويتسلل شيء من الشلل إلى جسدها، بفعل الضربات التي توالت عليها، حيث فقدت كل عائلتها خلال سنتين، هي الرمز الأبرز الذي تجتمع حوله المحن لتهشم صلابته، بفعل الموت العائلي المتوالي. إنها تنهار تحت وطأة الأرق، انتظار المجهول، وتوقع الأسوأ.
رواية سورية تضاف إلى روايات الثورة، وأن بدت أقل مباشرة، باستثناء الصفحات الأخيرة. يكتشف القارئ بمرور الأحداث، تلك الخلفية القاسية للثورة، التي دفعت بالنساء إلى حتفهن أو إلى نهاياتهن بأسرع مما كان متوقعاً.
ليس أفراد هذه الأسرة غير نموذج لما عاشه السوريون. «أصدقاء كثر لم يسقطوا في الموت، لكنهم فقدوا عقولهم، أو بعضاً منها. هناك من يعيش في المصح، وهناك من يعيش بيننا، ونشعر كل لحظة أنه هرب للتو من المشفى. أمي تخاف من فقدان ذاكرتها، وأنا أخاف من الجنون».
الملحمة السورية هذه المرة من خلال أجيال نسائية من عائلة واحدة، جاء عنف الحروب والصراعات، ليعصف بهن، ويضيف إلى آلامهن الشخصية، تلك المأساة الجماعية التي جعلت منهن مفتتات في الجغرافيا، أسيرات للتاريخ.


مقالات ذات صلة

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق المعرض يتضمّن برنامجاً ثقافياً متنوعاً يهدف إلى تشجيع القراءة والإبداع (واس)

انطلاق «معرض جازان للكتاب» فبراير المقبل

يسعى «معرض جازان للكتاب» خلال الفترة بين 11 و17 فبراير 2025 إلى إبراز الإرث الثقافي الغني للمنطقة.

«الشرق الأوسط» (جيزان)
يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟
TT

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

مجلة «الفيصل» السعودية: هل منع الرجل المرأة من التفلسف؟

صدر العدد الجديد من مجلة الفيصل وتضمن العديد من الموضوعات والمواد المهمة. وكرست المجلة ملف العدد لموضوع إقصاء المرأة من حقل الفلسفة، وعدم وجود فيلسوفات. شارك في الملف: كل من رسلان عامر: «غياب المرأة الفلسفي بين التاريخ والتأريخ». خديجة زتيلي: «هل بالإمكان الحديث عن مساهمة نسائية في الفلسفة العربية المعاصرة؟» فرانك درويش: «المرأة في محيط الفلسفة». أحمد برقاوي: «ما الذي حال بين المرأة والتفلسف؟» ريتا فرج: «الفيلسوفات وتطور الأبحاث الحديثة من اليونان القديمة إلى التاريخ المعاصر». يمنى طريف الخولي: «النساء حين يتفلسفن». نذير الماجد: «الفلسفة نتاج هيمنة ذكورية أم نشاط إنساني محايد؟» كلير مثاك كومهيل، راشيل وايزمان: «كيف أعادت أربع نساء الفلسفة إلى الحياة؟» (ترجمة: سماح ممدوح حسن).

أما الحوار فكان مع المفكر التونسي فتحي التريكي (حاوره: مرزوق العمري)، وفيه يؤكد على أن الدين لا يعوض الفلسفة، وأن الفلسفة لا تحل محل الدين، وأن المفكرين الدينيين الحقيقيين يرفضون التفلسف لتنشيط نظرياتهم وآرائهم. وكذلك تضمن العدد حواراً مع الروائي العربي إبراهيم عبد المجيد الذي يرى أن الحزن والفقد ليس مصدرهما التقدم في العمر فقط... ولكن أن تنظر حولك فترى وطناً لم يعد وطناً (حاوره: حسين عبد الرحيم).

ونطالع مقالات لكل من المفكر المغربي عبد العزيز بومسهولي «الفلسفة وإعادة التفكير في الممارسات الثقافية»، والكاتب والأكاديمي السعودي عبد الله البريدي «اللغة والقيم العابرة... مقاربة لفك الرموز»، وضمنه يقول إننا مطالبون بتطوير مناهج بحثية لتحليل تورط اللغة بتمرير أفكار معطوبة وقيم عدمية وهويات رديئة. ويذهب الناقد سعيد بنكراد في مقال «الصورة من المحاكاة إلى البناء الجمالي» إلى أن الصورة ليست محاكاة ولا تنقل بحياد أو صدق ما تمثله، لكنها على العكس من ذلك تتصرف في ممكنات موضوعاتها. وترجم ميلود عرنيبة مقال الفرنسي ميشال لوبغي «من أجل محبة الكتب إمبراطورية الغيوم».

ونقرأ مقالاً للأنثروبولوجي الفرنسي فرانك ميرمييه بعنوان «مسار أنثربولوجي فرنسي في اليمن». ومقال «لا تحرر الحرية» (أريانا ماركيتي، ترجمة إسماعيل نسيم). و«فوزية أبو خالد... لم يزل الماء الطين طرياً بين أصابع اللغة» (أحمد بوقري). «أعباء الذاكرة ومسؤولية الكتابة» (هيثم حسين). «العمى العالمي: غزة بين فوضى الحرب واستعادة الإنسانية» (يوسف القدرة). «الطيور على أشكالها تقع: سوسيولوجيا شبكة العلاقات الاجتماعية» (نادية سروجي). «هومي بابا: درس في الشغف» (لطفية الدليمي).

ويطالع القارئ في مختلف أبواب المجلة عدداً من الموضوعات المهمة. وهي كالتالي: قضايا: سقوط التماثيل... إزاحة للفضاء السيميائي وإعادة ترتيب للهياكل والأجساد والأصوات (نزار أغري). ثقافات: «هل يمكن أن تحب الفن وتكره الفنان؟» ميليسا فيبوس (ترجمة خولة سليمان). بورتريه: محمد خضر... المؤلف وسرديات الأسلوب المتأخر (علي حسن الفواز). عمارة: إعادة تشكيل الفضاءات العامة والخاصة في جدة بين التراث والحداثة (بدر الدين مصطفى). حكايتي مع الكتب: الكتب صحبة رائعة وجميلة الهمس (فيصل دراج). فضاءات: «11 رصيف برنلي»... الابنة غير الشرعية لفرنسوا ميتران تواجه أشباح الحياة السرية (ترجمة جمال الجلاصي). تحقيقات: الترفيه قوة ناعمة في بناء المستقبل وتنمية ثقافية مؤثرة في المجتمع السعودي (هدى الدغفق). جوائز: جوائز الترجمة العربية بين المنجز والمأمول (الزواوي بغورة). المسرح: الكاتبة ملحة عبد الله: لا أكتب من أجل جائزة أو أن يصفق لي الجمهور، إنما كي أسجل اسمي في تاريخ الفن (حوار: صبحي موسى).

وفي باب القراءات: نجوان درويش... تجربة فلسطينية جسورة تليق بالشعر الجديد (محمد عبيد الله). جماليات البيت وسردية الخواء... قراءة في روايات علاء الديب (عمر شهريار). «أغنية للعتمة» ماتروشكا الحكايات والأنساب تشطر التاريخ في صعودها نحو الأغنية (سمية عزام). تشكيل: مهدية آل طالب: دور الفن لا يتحقق سوى من خلال الفنان (هدى الدغفق). مسرح: المنظومة المسرحية الألمانية يؤرقها سوء الإدارة والتمييز (عبد السلام إبراهيم)

ونقرأ مراجعات لكتب: «وجه صغير يتكدس في كل ظهيرة» (عماد الدين موسى)، «مروة» (نشوة أحمد)، «خاتم سليمي» (نور السيد)، «غراميات استثنائية فادحة» (معتصم الشاعر)، «أبناء الطين» (حسام الأحمد)، «حساء بمذاق الورد» (جميلة عمايرة).

وفي العدد نطالع نصوص: «مارتن هيدغر يصحو من نومه» (سيف الرحبي)، «مختارات من الشعر الكوري» (محمد خطاب)، «سحر الأزرق» (مشاعل عبد الله)، «معرض وجوه» (طاهر آل سيف)، «سارقة الذكريات» (وجدي الأهدل)، «أوهام الشجر» (منصور الجهني).