ما بين القادة والإعلام

ما بين القادة والإعلام
TT

ما بين القادة والإعلام

ما بين القادة والإعلام

«لا أحبك... ولا أقدر على بُعدك»؛ ربما يقدم هذا المثل الوصف الأكثر تجسيداً لطبيعة العلاقة التي تجمع ما بين معظم القادة السياسيين ووسائل الإعلام؛ فمن جانب يرى قطاع من هؤلاء القادة أن وسائل الإعلام تلعب دوراً كبيراً في تعزيز مصالحهم، أو مصالح أوطانهم، ومن جانب آخر، فإن عدداً كبيراً منهم يعتقد أن بعض الممارسات التي ترد عبر هذه الوسائل يمكن أن يضرهم أو يقوض جهودهم، والأخطر من ذلك أن بعضهم يغير آراءه تلك باستمرار.
ومن ذلك أن الزعيم السوفياتي الراحل خروتشوف اعتبر الصحافة «سلاحاً» في المعارك التي تخوضها بلاده، كما أن جوبلز، وزير دعاية هتلر الشهير، رأى أنها مثل «المدفعية» التي تقصف المجتمعات المستهدفة، فتوطئ للهجوم المادي، وتشل القدرة على المقاومة.
لا يقتصر الأمر على مديح الصحافة فقط عندما تمعن في لعب الأدوار الدعائية التي تساند طموحات بعض السياسيين، لكن ثمة من أظهر الإخلاص في الدفاع عن مناقبها وأهميتها للمصلحة العامة؛ ومن بين هؤلاء الزعيم التاريخي الأميركي جورج واشنطن، الذي قال في هذا الصدد: «إذا سُلبنا حرية التعبير عن الرأي، فسنصير مثل الدابة البكماء التي تُقاد إلى المسلخ».
وعلى الجانب الآخر، عبّر ساسة كبار عن عداء شديد للصحافة؛ منهم السلطان عبد الحميد، الذي قال من منفاه بعد عزله: «لو عدت إلى يلدز، لوضعت محرري الجرائد كلهم في أتون من الكبريت»، وكذلك فعل القيصر نيقولا الثاني؛ الذي قال: «جميل أنت أيها القلم، لكنك أقبح من الشيطان في مملكتي».
أما القائد الفرنسي الأسطوري نابليون بونابرت فقد نُسب إليه في إطار رؤيته للصحافة هذا القول: «أخشى ثلاث جرائد أكثر من خشيتي لمائة ألف حربة»، بينما شنت رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت تاتشر هجومها الأشهر على وسائل الإعلام، في ظل مواجهة بلادها هجمات مسلحة من الجيش الجمهوري الإيرلندي، حين قالت: «الصحافة توفر الأكسجين للإرهاب».
يبدو أن معظم هؤلاء القادة لم ينظروا إلى الإعلام سوى من زاوية واحدة تبدو شديدة الضيق، وهي زاوية تتعلق بقدرتها على خدمة مصالحهم الآنية ورؤاهم الصارمة في أوقات محددة.
يعطينا الرئيس ترمب، الذي أربك العالم بأنشطته الاتصالية الكثيفة والمثيرة للجدل، المثل الأوضح على العلاقة الحادة والمتذبذبة بين القائد السياسي ووسائل الإعلام، فنحن ندرك أن معركته طاحنة ومستدامة على وسائل الإعلام الجماهيرية الرئيسية في بلاده، التي يعتبرها «شوكة في حلقه»، و«أداة لأعدائه ونقاده»، لكننا كنا نعرف أنه يعتبر وسائل التواصل الاجتماعي «عوناً وظهيراً» له، عبر تأمينها تواصلاً مباشرا غير خاضع للتأطير بينه وبين جمهوره.
ألم يعلن ترمب، في 2017، أنه لم يكن يصل إلى البيت الأبيض لولا «تويتر»؟ ألم يصف «السوشيال ميديا» بأنها «منصة هائلة»؟ ألا يتابعه على «تويتر» 80 مليون حساب؟ ألم يقل إن بقاءه على «تويتر» يعود لكون بلاده «لا تملك صحافة محايدة ونزيهة»؟ ألم تصدر عنه على هذه المنصة أكثر من 17 ألف تغريدة منذ انتخابه رئيساً؟ ألم تصل تغريداته عبرها إلى نحو 76 في المائة من الأميركيين؟ فلماذا يشن عليها حرباً شعواء اليوم؟
يوم الخميس الماضي، وقع ترمب أمراً تنفيذياً يمكن أن يحد من تمتع وسائل التواصل الاجتماعي بالحماية والحصانة القانونية، التي يرى كثيرون أنها ضرورية لصيانة حرية الرأي والتعبير، بعدما قامت إدارة «تويتر» بتنبيه مستخدميها إلى أن إحدى تغريدات الرئيس قد تحوي «تمجيداً للعنف»، وأن تغريدة أخرى يمكن أن تكون احتوت على «مزاعم غير مدعمة بحقائق».
موقف «تويتر» مثير للجدل، وربما يحتاج إلى مراجعة، وسلوك ترمب حاد ومفاجئ ومُفرط كالعادة، والأمر التنفيذي قد يصبح «قراراً رمزياً» في ظل الاعتبارات المؤسسية الأميركية، لكن الثمن، أياً كان قدره، ستدفعه حرية الرأي والتعبير، في ظل معركة جديدة بين السياسي والإعلام، وهي معركة ستتوالى فصولها لاحقاً، ولن تنقصها الإثارة، ولن تتفادى التكاليف والخسائر.



شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)
TT

شركات التكنولوجيا ووسائل الإعلام الليبرالية تتجه يميناً

إيلون ماسك (رويترز)
إيلون ماسك (رويترز)

استقالت رسامة الكاريكاتير الأميركية -السويدية الأصل- آن تيلنيس، الحائزة على جائزة «بوليتزر»، من عملها في صحيفة «واشنطن بوست» خلال الأسبوع الماضي، بعد رفض قسم الآراء في الصحيفة رسماً كاريكاتيرياً يصوّر مالك الصحيفة، الملياردير جيف بيزوس مع مليارديرات آخرين من عمالقة التكنولوجيا، وهم ينحنون أمام تمثال للرئيس المنتخب دونالد ترمب. وفور إعلان الخبر رأى كثيرون أن الواقعة الجديدة تختصر صورة المرحلة المقبلة في الولايات المتحدة.

مارك زوكربيرغ (آ ب)

إعادة تموضع

خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، بعدما بدا أن ترمب يتجه إلى العودة مجدداً إلى البيت الأبيض، بدأ الكثير من مسؤولي الشركات الكبرى ووسائل الإعلام الأميركية، رحلة «إعادة تموضع» تماشياً مع العهد الثاني لترمب. وهو ما تُرجم بداية بامتناع وسائل إعلام كانت دائماً تُعد رمزاً لليبرالية، مثل: «واشنطن بوست» و«لوس أنجليس تايمز»، عن تأييد أي من المرشحين الرئاسيين، فضلاً عن تغيير غرف التحرير في محطات تلفزيونية عدة، ومراجعة الكثير من سياسات الرقابة والإشراف والمعايير الناظمة لعملها، إلى إعادة النظر في تركيبة مجالس إدارات بعض شركات التكنولوجيا.

وبعيداً عن انحياز الملياردير إيلون ماسك، مالك تطبيق «إكس»، المبكر لترمب، واتجاهه للعب دور كبير في إدارته المقبلة، كانت الاستدارة التي طرأت على باقي المنصات الاجتماعية والإعلامية مفاجئة وأكثر إثارة للجدل.

ان تيلنيس (جائزة بوليتزر)

خضوع سياسي أم تغيير أعمق؟

البعض قال إنه «خضوع» سياسي للرئيس العائد، في حين عدّه آخرون تعبيراً عن تغيير أعمق تشهده سياسات واشنطن، لا يُختصر في ترمب، بل يشمل أيضاً كل الطبقة السياسية في الحزبَيْن الجمهوري والديمقراطي، وحتى المزاج الشعبي الذي أظهرته نتائج الانتخابات.

في بيانها الموجز، قالت تيلنيس التي تعمل في «واشنطن بوست» منذ عام 2008، إن قرار الصحيفة رفض رسمها الكاريكاتيري «مغيّر لقواعد اللعبة» و«خطير على الصحافة الحرة». وكتبت: «طوال ذلك الوقت لم يُمنع رسم كاريكاتيري قط بسبب مَن أو ما اخترت أن أوجّه قلمي إليه حتى الآن». وأدرجت تيلنيس مسوّدة من رسمها الكاريكاتيري في منشور على موقع «سبستاك»، يظهر بيزوس، مؤسس «أمازون» ومالك الصحيفة، مع مؤسس شركة «ميتا» مارك زوكربيرغ، وسام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي»، وباتريك سون شيونغ مالك صحيفة «لوس أنجليس تايمز»، و«ميكي ماوس» التميمة المؤسسية لشركة «والت ديزني»، ينحنون أمام تمثال ترمب.

وطبعاً كان من الطبيعي أن «يختلف» ديفيد شيبلي، محرّر الآراء في الصحيفة، مع تقييم تيلنيس، وبالفعل قال في بيان إنه يحترم كل ما قدمته للصحيفة، «لكن يجب أن يختلف مع تفسيرها للأحداث»، معتبراً قرار منع نشر رسم الكاريكاتير «تفادياً للتكرار»، بعدما نشرت الصحيفة مقالات عن الموضوع.

... وزوكربيرغ يعود إلى أصوله

بيد أن تزامن منع الكاريكاتير مع الخطوة الكبيرة التي اتخذتها شركة «ميتا» يوم الثلاثاء، عندما أعلن مارك زوكربيرغ أن «فيسبوك» و«إنستغرام» و«ثريدز» ستُنهي عملية التدقيق في الحقائق من قِبل أطراف ثالثة، قرأها العالم السياسي بوصفها نوعاً من الاستسلام؛ إذ قال زوكربيرغ في مقطع فيديو نشره على «فيسبوك» إن «(ميتا) ستتخلّص من مدقّقي الحقائق، وستستعيض عنهم بملاحظات مجتمعية مشابهة لمنصة (إكس)»، وهو ما رآه البعض «تضحية بقيم الشركة على (مذبح) دونالد ترمب وسياسة (حرية التعبير)» للحزب الجمهوري الجديد. بالنسبة إلى المحافظين اليمينيين، الذين يعتقدون أن المشرفين ومدققي الحقائق ليبراليون بشكل شبه موحّد، واثقون بأن النهج الأكثر تساهلاً في تعديل المحتوى سيعكس الواقع بشكل أكثر دقة، من خلال السماح بمجموعة أوسع من وجهات النظر. وعدّ هؤلاء، ومنهم بريندان كار الذي اختاره ترمب لإدارة لجنة الاتصالات الفيدرالية، قرار «ميتا» انتصاراً.

في المقابل، أعرب الليبراليون عن «فزعهم»، وعدّوه «هدية لترمب والمتطرّفين في جميع أنحاء العالم». وقال معلقون ليبراليون إن من شأن خفض معايير التأكد من الحقائق من قِبل أكبر منصة في العالم يُنذر بمجال رقمي أكثر غرقاً بالمعلومات الكاذبة أو المضللة عمداً مما هو عليه اليوم.

ابتعاد عن الليبرالية

هذا، ومع أنه من غير المتوقع أن يؤدي قرار زوكربيرغ بالضرورة إلى تحويل الإنترنت إلى «مستنقع للأكاذيب أو الحقائق»؛ لأن الخوارزميات هي التي تتحكم بما يُنشر في نهاية المطاف. فإن قراره يعكس، في الواقع، ابتعاد شركات التكنولوجيا عن الرؤية الليبرالية لمحاربة «المعلومات المضلّلة». وهذه مسيرة بدأت منذ سنوات، حين تراجعت «ميتا» عام 2019 عن التحقق من صحة الإعلانات من السياسيين، وعام 2023 عن تعديل الادعاءات الكاذبة حول انتخابات 2020.

وحقاً، كان إعلان يوم الثلاثاء هو الأحدث في سلسلة من تراجعات الشركة، واتجاهها نحو اليمين منذ إعادة انتخاب ترمب. ففي الأسبوع الماضي، عيّنت الشركة الجمهوري جويل كابلان رئيساً عالمياً للسياسة، وعيّنت، يوم الاثنين، دانا وايت، حليفة ترمب التي لعبت دوراً رئيساً خلال المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري، في مجلس إدارة الشركة. وفي السياق نفسه تضمّن إعلان يوم الثلاثاء نقل فريق الثقة والسلامة في الشركة من ولاية كاليفورنيا «الليبرالية»، إلى ولاية تكساس «الجمهورية»؛ مما يعكس دعوات من قادة التكنولوجيا اليمينيين مثل إيلون ماسك إلى تركيز الصناعة في بيئات «أقل ليبرالية» من «وادي السيليكون».

ترمب ممثلاً للأكثرية

في مطلق الأحوال، مع أن كثيرين من النقاد والخبراء يرون أن هذا التغيير يعكس بالفعل حقيقة ابتعاد شركة «ميتا» وغيرها من شركات ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرؤية الليبرالية للحوكمة الرقمية، لكنهم يشيرون إلى أنه ابتعاد مدفوع أيضاً بالقيم الأساسية للصناعة التي جرى تبنيها إلى حد كبير، تحت الإكراه، استجابة للحظات سياسية مشحونة.

ومع تحوّل ترمب تدريجياً من كونه متطفلاً دخيلاً على الحياة السياسية الأميركية، إلى الممثل الأبرز للأكثرية التي باتت تخترق كل الأعراق -وليس فقط البيض- فقد بدا أن هذا النهج الذي يشبه نظام المناعة بات أقل ملاءمة، وربما، بالنسبة إلى شركات مثل «ميتا»، أكثر ضرراً سياسياً وأقل ربحية.