عندما بلغت المفاوضات الحكومية الإسرائيلية أوجها بين معسكر اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو والمعسكر المقابل بقيادة بيني غانتس، وضع نتنياهو شرطاً هو أن تبقى مسؤولية العلاقات مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضمن مسؤوليات رئيس الحكومة.
كثيرون رأوا أن هذا الطلب يدل على أن نتنياهو يريد تقزيم وزارة الخارجية وسحب مزيد من صلاحياتها، التي كان قد سحبها من قبل في زمن الحكومة السابقة. واعتبرت المسألة نكاية، بل «عملية ثأر» ضد وزير الخارجية الجديد، غابي أشكنازي. لكن أشكنازي لم يتعنّت في رفضه. بل قبل بهذا الحكم وهو يوضح: سنضع حدوداً لا يجوز لأحد أن يتجاوز فيها صلاحيات وزير الخارجية. وفهم البعض هذا الكلام على أنه تحذير لنتنياهو وفهمه آخرون على أنه إبداء نيات طيبة للتفاهم على الحدود حتى لا يحدث سوء فهم في المستقبل.
الجنرال السابق غابي أشكنازي، سعى بقوة إلى تشكيل الائتلاف الحكومي مع بنيامين نتنياهو وساهم في إقناع بيني غانتس، زميله في قيادة حزب «كحول لفان» (أزرق - أبيض) بذلك. وهو يدرك أن مهمته الأولى بصفته وزير خارجية، لن تكون بناء السلام مع العالم العربي... بل إقامة السلام أولا مع نتنياهو.
السبب أن بين الرجلين ثأراً شخصياً قديماً. وهناك من يقول إن أشكنازي هو أقوى شخصية كانت تهدّد مكانة نتنياهو في قيادة إسرائيل، لكن الأخير أدار معركة سياسية محسوبة بدقة قطعت الطريق عليه... وأبقته بعيدا عن حلبة القيادة السياسية. كذلك عند أشكنازي خصم لدود ثان في الحكومة هو الجنرال يواف غالانت، وزير التعليم المقرّب جداً من نتنياهو. ولقد بدأت «الحرب» بينهما إبان خدمتهما العسكرية المشتركة، وطالت لسنين عديدة.
وفوق هذا وذاك، يوجد لأشكنازي أجندة سياسية مختلفة عن أجندة نتنياهو وغالانت وحزب الليكود كله. وهي ليست أجندة شخصية فحسب، بل أيضا أجندة الجنرالات الذين أرسلوه إلى الحلبة السياسية. ذلك أن غابي أشكنازي «ابن المؤسسة العسكرية»، التي قام حزب «كحول لفان» ليمثل مصالحها، وتألفت من عدة جنرالات بينهم أربعة رؤساء أركان سابقون للجيش. ولذلك عرف «كحول لفان» بـ«حزب الجنرالات».
إلا أنه منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها حكومة نتنياهو - غانتس عبّر أشكنازي عن مواقفه المختلفة. فهو، مثلاً، يؤيد خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للتسوية السياسية في الشرق الأوسط، لكنه يريدها تسوية سياسية فعلاً، ويعتبر أن التسوية يجب أن تجري مع الفلسطينيين وليس بتجاهلهم.
وهو يؤيد ضم المستوطنات لإسرائيل، لكنه يؤيد منح الفلسطينيين تعويضاً بالأرض عن كل قطعة يصار إلى ضمها.
وهو يؤيد محاربة إيران و«حزب الله» وحركة حماس، لكنه يقول إن على إسرائيل أن تعمل كل ما في وسعها لجعل الحرب آخر الحلول... واللجوء إليها فقط عند استنفاد بقية الوسائل.
وهو سعيد بوجود رئيس أميركي مؤيد بقوة لإسرائيل، لكنه يريد أن تقيم حكومته علاقات جيدة مع أوروبا وبقية دول العالم. كذلك، مع أنه أيضا مرتاح من تعصّب الحزب الجمهوري الأميركي لإسرائيل، فإنه لا يؤيد التدخل في السياسة الأميركية المحلية، ويريد علاقات حميمة أيضا مع الحزب الديمقراطي.
لكل هذا، يدخل أشكنازي وزارة الخارجية الإسرائيلية كمن يسير على جمر.
معظم حياته في الجيش
أتمّ غبريال «غابي» أشكنازي السادسة والستين من عمره فقط قبل ثلاثة أشهر. وكان قد أمضى معظم سنيه في خدمة المؤسسة العسكرية. إذ ولد في تعاونية تدعى «حاجور»، أسست عام 1949، وبنيت على أرض قرب بلدة رأس العين (شرق مدينة يافا).
أبوه من بلغاريا في أوروبا الشرقية، وقد هاجر لإسرائيل خلال الحرب العالمية الثانية بعد نجاته من المحرقة النازية، وانخرط في صفوف التنظيمات العسكرية الصهيونية، ثم الجيش الإسرائيلي. أما أمه فمن مدينة حلب السورية. وهو متزوج من سيدة اسمها رونيت، وأب لولدين ويعيش اليوم في مدينة كفار سابا (القريبة من تل أبيب - يافا)، وأخوه الأصغر آفي، أيضا ضابط في الجيش برتبة عميد.
منذ سن الرابعة عشرة انخرط أشكنازي في الحياة العسكرية، عندما التحق بمدرسة عسكرية داخلية. وبقي في الجيش حتى عام 2011، بعد خدمة 43 سنة، أمضى آخر أربع سنوات منها رئيساً لأركان الجيش.
أولى المعارك الحربية خاضها في «حرب الاستنزاف» مع مصر، ضمن «لواء جولاني». ثم شارك في «حرب أكتوبر (تشرين الأول)» 1973. وفي عملية تحرير الرهائن الإسرائيليين في طائرة بمطار إنتيبي في أوغندا عام 1976. وفي «غزوة الليطاني» في لبنان عام 1978. وفيها أصيب بجروح بليغة على مشارف بلدة جديدة مرجعيون لكنه شفي وعاد للخدمة. وفي تلك السنة قرّر التحرّر من الجيش وتوجه للتعليم الجامعي، لكن رئيس أركان الجيش رفائيل إيتان استدعاه للخدمة تمهيداً لـ«حرب لبنان الأولى». وفي عام 1996 حصل على رتبة جنرال وتولى قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. ثم، في عام 2000 أشرف على عملية إخلاء قوات الجيش الإسرائيلي من لبنان، الذي اتخذه رئيس الوزراء، إيهود باراك.
مرارة... وعودة
عام 2005، خلع أشكنازي بزته العسكرية بمرارة، لأنه لم يعين رئيسا للأركان. إلا أنه وافق على أن يتولى مهمة المدير العام لوزارة الدفاع، بطلب من الوزير عمير بيرتس. وبعد ما اعتبرت «إخفاقات» الجيش الإسرائيلي في «حرب لبنان الثانية» عام 2006 واستقالة رئيس الأركان دان حالوتس، مطلع 2007، قرر رئيس الوزراء - يومذاك - إيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس، إعادة أشكنازي للجيش وتعيينه رئيسا للأركان.
استقر أشكنازي في المنصب أربع سنوات، قاد خلالها عدة عمليات حربية، منها: قصف المفاعل النووي السوري قرب دير الزور عام 2007، وعملية «الشتاء الساخن» على قطاع غزة، التي استغرقت يومين وأسفرت عن توقيع أول اتفاق هدنة بين إسرائيل وحركة حماس، والحرب التي سُمّيت «عملية الرصاص المصبوب» في نهاية 2008 وبداية 2009.
لقد حظي أشكنازي بالإطراء على دوره في تصحيح إخفاقات الحرب وإعادة بناء الجيش وتعزيز قوة سلاح اليابسة، واستيراد كمية هائلة من الميرة والعتاد (جلب قسماً منها من معسكرات الجيش الأميركي في أوروبا)، وبذل جهودا كبيرة في تطوير آليات الصواريخ المضادة للصواريخ (القبة الحديدية). لكنه، رغم تمتعه بتقدير أولمرت، دخل في اشتباك مع وزير الدفاع إيهود باراك ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
فلقد كان موقفه حاداً ضد فكرة إعلان الحرب على إيران عام 2010؛ لاعتقاده بأن الجهود السياسية لم تستنفد بعد. وشاركه الرأي - في حينه - جميع رؤساء أجهزة الاستخبارات؛ ولذا، انتقم منه نتنياهو وباراك فعارضا تمديد مدة خدمته لسنة خامسة في رئاسة الأركان، بل اختارا بديلا عنه خصمه اللدود يواف غالانت، واتخذا قراراً رسمياً بتعيين غالانت. لكن الحكومة اضطرت لإلغاء هذا التعيين بعد يوم واحد فقط. وكان السبب، الكشف عن فضائح تتعلق به. واتهم أشكنازي بالوقوف وراء إحداها، وفتح معه تحقيق في الموضوع. وفي هذه الأثناء كشف عن فضائح لغالانت تتعلق بقضية فساد، إذ استولى على أرض ملك عام. ولذلك لم يصحح القرار بشأنه وسُرح من الجيش. وجرى انتخاب رئيس آخر للأركان، هو صديق أشكنازي، بيني غانتس.
الحياة المدنية
من هنا انتقل غابي أشكنازي إلى الحياة المدنية، وبدا واضحا اتجاهه للعمل السياسي والترشح لرئاسة الحكومة والإطاحة ببنيامين نتنياهو. فقد ساد شبه إجماع على أنه صاحب شخصية قوية ومميزة وله تاريخ عسكري غني يجعله أقوى المرشحين وأكثرهم قدرة على تولي زمام القيادة. لكن نتنياهو استبق الأمور ودخل في معركة أبقت أشكنازي تحت التحقيق في الشرطة من قضية إلى قضية، حتى عام 2016، عندما أعلن المستشار القضائي للحكومة عن إغلاق الملفات ورفض تقديمه للمحاكمة. ويؤكد المقربون من أشكنازي أن الأسلوب الذي استخدم ضده من السياسيين، أصابه بإحباط لفترة طويلة. ولذا امتنع عن قبول العروض لقيادة أحزاب قديمة أو جديدة. وكان يقول إن «السياسة الإسرائيلية ملوّثة بالأوساخ والفساد لدرجة لا قدرة له على احتمالها».
فقط في مطلع العام الماضي، وبعد تجمّع عدد من كبار الجنرالات السابقين في الجيش والاستخبارات والشرطة وتشكيلهم حزبا، وافق أشكنازي على المشاركة. إذ اتفق هؤلاء على أن سياسة نتنياهو باتت تشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل، بحجة أنه يدير سياسة في مركزها مصلحة نتنياهو. ثم إنه متهم بلائحة اتهام خطيرة بالفساد، ويخشى أن تكون حساباته السياسية والأمنية محكومة بمصالحه في المحكمة. والجيش الإسرائيلي، الذي اعتاد على شن حرب أو عملية حربية كل ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر، امتنع عن القيام بأي عملية حربية طوال 6 سنوات (منذ الحرب الأخيرة على قطاع غزة في عام 2014) خوفا من تجيير مسارها وفقا لمصالح نتنياهو الشخصية.
الانعطاف نحو الحكومة
من يتابع قصة أشكنازي مع نتنياهو، يكاد لا يصدق أنه دخل إلى حكومة تحت قيادته. فلقد كان الجنرال السابق في طليعة المحاربين لإسقاط نتنياهو. إلا أنه في أكتوبر الماضي، فاجأ رفاقه في «كحول لفان»، باقتراح «حكومة وحدة» مع نتنياهو، معتبراً أن هذه هي الفرصة الوحيدة لإسقاط غريمه. ذلك أن حزب الليكود اقترح أن يتسلم نتنياهو رئاسة الحكومة فقط لستة أشهر، وبعدها يتسلم الرئاسة بيني غانتس. ورأى أشكنازي أنه في حال رفض الاقتراح فسيضطر الجميع للذهاب لانتخابات جديدة يعود نتنياهو بعدها أقوى. يومها هبوا جميعا ضده. فصمت وقبل رأي الأكثرية.
ولكن بعد انتخابات مارس الأخيرة، علا صوته. وقال: «هذه المرة إذا ذهبنا للانتخابات للمرة الرابعة، فسيفوز نتنياهو بالحكم وحده ويشكل حكومة يمين تبقيه رئيساً حتى آخر يوم في محاكمته، وهذا ما لن أسمح به». فانقسم حزب «كحول لفان» إلى قسمين، هو وغانتس انضما لحكومة نتنياهو، والنصف الآخر بقي في المعارضة. وما زال حلم أشكنازي هو «الاستفادة من هذه الفرصة للتخلص من نتنياهو وإعادة بناء قوة معسكرنا من جديد، بواسطة النجاح في عملنا الوزاري المسؤول».
فضلاً عن ذلك، أصر أشكنازي على تولي حقيبة الخارجية، رغم «قصقصة» أجنحتها وسحب عدة دوائر منها، لكون حاملها يمثّل وجه إسرائيل في الخارج. وهو يخطط لاستغلال مدته فيها، 18 شهرا، ليكون شخصية معروفة دولياً ويدفع إلى الأمام بأجندة يبدو فيها مختلفاً عن سياسة نتنياهو بقدر الإمكان. وهو، مثل غانتس، يقول إن خطة الرئيس ترمب، المعروفة باسم «صفقة القرن»، تشكل فرصة سياسية تاريخية لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط إلى الأفضل. وهذا، مع أن أشكنازي يتحفظ كثيراً عن نية الحكومة تنفيذ ضم غور الأردن وشمال البحر الميت لإسرائيل، وينسجم مع آراء القيادة العسكرية والأمنية التي ترى أن «تنفيذ الضم بشكل أحادي الجانب، من دون تنسيق مع الفلسطينيين يمكن أن يفجّر الأوضاع». وهو يعتبر أن وجوده وغانتس وحزبهما في الحكومة «صمام أمان» يمنع اتخاذ قرارات مغامرة كهذه. كما يقول إنه ومن معه سيحاولون استغلال وجودهم في الحكومة على الأقل لتخفيف وطأة سياسة نتنياهو والتفاهم مع واشنطن على مسار أقل فظاظة وأضراراً.
أخيراً، يستعد أشكنازي للمهمة التالية، التي يطمح إليها وهي أن يصبح وزيرا للدفاع، عندما يتولى غانتس مهمة رئيس الحكومة وفقا للاتفاق الائتلافي مع نتنياهو. غير أن السؤال هو: هل سينفذ نتنياهو هذا الاتفاق ويسلّم رئاسة الحكومة فعلا إلى غانتس؟ وإن لم يفعل، وتوجهت إسرائيل لانتخابات رابعة، فكيف سيكون حال أشكنازي؟ هل سيبقى مع غانتس أم أنه سيطرح نفسه بديلا له؟ هل سيستعيد شعبيته؟ وإن استعاد هذه الشعبية، فهل سيتفوق على نتنياهو؟
استطلاعات الرأي تشير حالياً إلى أن هذه مهمة مستحيلة، وأن نتنياهو سيفوز في المرة القادمة ويحقق انتصاراً ساحقاً. لكن السياسة لا تعرف المستحيل. ولذلك فالمعركة مفتوحة في كل الاتجاهات.