غابي أشكنازي... جنرال يسير على الجمر

وزير الخارجية الإسرائيلي يبدأ عملية السلام مع نتنياهو أولاً

غابي أشكنازي... جنرال يسير على الجمر
TT

غابي أشكنازي... جنرال يسير على الجمر

غابي أشكنازي... جنرال يسير على الجمر

عندما بلغت المفاوضات الحكومية الإسرائيلية أوجها بين معسكر اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو والمعسكر المقابل بقيادة بيني غانتس، وضع نتنياهو شرطاً هو أن تبقى مسؤولية العلاقات مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ضمن مسؤوليات رئيس الحكومة.
كثيرون رأوا أن هذا الطلب يدل على أن نتنياهو يريد تقزيم وزارة الخارجية وسحب مزيد من صلاحياتها، التي كان قد سحبها من قبل في زمن الحكومة السابقة. واعتبرت المسألة نكاية، بل «عملية ثأر» ضد وزير الخارجية الجديد، غابي أشكنازي. لكن أشكنازي لم يتعنّت في رفضه. بل قبل بهذا الحكم وهو يوضح: سنضع حدوداً لا يجوز لأحد أن يتجاوز فيها صلاحيات وزير الخارجية. وفهم البعض هذا الكلام على أنه تحذير لنتنياهو وفهمه آخرون على أنه إبداء نيات طيبة للتفاهم على الحدود حتى لا يحدث سوء فهم في المستقبل.
الجنرال السابق غابي أشكنازي، سعى بقوة إلى تشكيل الائتلاف الحكومي مع بنيامين نتنياهو وساهم في إقناع بيني غانتس، زميله في قيادة حزب «كحول لفان» (أزرق - أبيض) بذلك. وهو يدرك أن مهمته الأولى بصفته وزير خارجية، لن تكون بناء السلام مع العالم العربي... بل إقامة السلام أولا مع نتنياهو.
السبب أن بين الرجلين ثأراً شخصياً قديماً. وهناك من يقول إن أشكنازي هو أقوى شخصية كانت تهدّد مكانة نتنياهو في قيادة إسرائيل، لكن الأخير أدار معركة سياسية محسوبة بدقة قطعت الطريق عليه... وأبقته بعيدا عن حلبة القيادة السياسية. كذلك عند أشكنازي خصم لدود ثان في الحكومة هو الجنرال يواف غالانت، وزير التعليم المقرّب جداً من نتنياهو. ولقد بدأت «الحرب» بينهما إبان خدمتهما العسكرية المشتركة، وطالت لسنين عديدة.
وفوق هذا وذاك، يوجد لأشكنازي أجندة سياسية مختلفة عن أجندة نتنياهو وغالانت وحزب الليكود كله. وهي ليست أجندة شخصية فحسب، بل أيضا أجندة الجنرالات الذين أرسلوه إلى الحلبة السياسية. ذلك أن غابي أشكنازي «ابن المؤسسة العسكرية»، التي قام حزب «كحول لفان» ليمثل مصالحها، وتألفت من عدة جنرالات بينهم أربعة رؤساء أركان سابقون للجيش. ولذلك عرف «كحول لفان» بـ«حزب الجنرالات».
إلا أنه منذ اللحظة الأولى التي قامت فيها حكومة نتنياهو - غانتس عبّر أشكنازي عن مواقفه المختلفة. فهو، مثلاً، يؤيد خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للتسوية السياسية في الشرق الأوسط، لكنه يريدها تسوية سياسية فعلاً، ويعتبر أن التسوية يجب أن تجري مع الفلسطينيين وليس بتجاهلهم.
وهو يؤيد ضم المستوطنات لإسرائيل، لكنه يؤيد منح الفلسطينيين تعويضاً بالأرض عن كل قطعة يصار إلى ضمها.
وهو يؤيد محاربة إيران و«حزب الله» وحركة حماس، لكنه يقول إن على إسرائيل أن تعمل كل ما في وسعها لجعل الحرب آخر الحلول... واللجوء إليها فقط عند استنفاد بقية الوسائل.
وهو سعيد بوجود رئيس أميركي مؤيد بقوة لإسرائيل، لكنه يريد أن تقيم حكومته علاقات جيدة مع أوروبا وبقية دول العالم. كذلك، مع أنه أيضا مرتاح من تعصّب الحزب الجمهوري الأميركي لإسرائيل، فإنه لا يؤيد التدخل في السياسة الأميركية المحلية، ويريد علاقات حميمة أيضا مع الحزب الديمقراطي.
لكل هذا، يدخل أشكنازي وزارة الخارجية الإسرائيلية كمن يسير على جمر.

معظم حياته في الجيش
أتمّ غبريال «غابي» أشكنازي السادسة والستين من عمره فقط قبل ثلاثة أشهر. وكان قد أمضى معظم سنيه في خدمة المؤسسة العسكرية. إذ ولد في تعاونية تدعى «حاجور»، أسست عام 1949، وبنيت على أرض قرب بلدة رأس العين (شرق مدينة يافا).
أبوه من بلغاريا في أوروبا الشرقية، وقد هاجر لإسرائيل خلال الحرب العالمية الثانية بعد نجاته من المحرقة النازية، وانخرط في صفوف التنظيمات العسكرية الصهيونية، ثم الجيش الإسرائيلي. أما أمه فمن مدينة حلب السورية. وهو متزوج من سيدة اسمها رونيت، وأب لولدين ويعيش اليوم في مدينة كفار سابا (القريبة من تل أبيب - يافا)، وأخوه الأصغر آفي، أيضا ضابط في الجيش برتبة عميد.
منذ سن الرابعة عشرة انخرط أشكنازي في الحياة العسكرية، عندما التحق بمدرسة عسكرية داخلية. وبقي في الجيش حتى عام 2011، بعد خدمة 43 سنة، أمضى آخر أربع سنوات منها رئيساً لأركان الجيش.
أولى المعارك الحربية خاضها في «حرب الاستنزاف» مع مصر، ضمن «لواء جولاني». ثم شارك في «حرب أكتوبر (تشرين الأول)» 1973. وفي عملية تحرير الرهائن الإسرائيليين في طائرة بمطار إنتيبي في أوغندا عام 1976. وفي «غزوة الليطاني» في لبنان عام 1978. وفيها أصيب بجروح بليغة على مشارف بلدة جديدة مرجعيون لكنه شفي وعاد للخدمة. وفي تلك السنة قرّر التحرّر من الجيش وتوجه للتعليم الجامعي، لكن رئيس أركان الجيش رفائيل إيتان استدعاه للخدمة تمهيداً لـ«حرب لبنان الأولى». وفي عام 1996 حصل على رتبة جنرال وتولى قيادة المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. ثم، في عام 2000 أشرف على عملية إخلاء قوات الجيش الإسرائيلي من لبنان، الذي اتخذه رئيس الوزراء، إيهود باراك.

مرارة... وعودة
عام 2005، خلع أشكنازي بزته العسكرية بمرارة، لأنه لم يعين رئيسا للأركان. إلا أنه وافق على أن يتولى مهمة المدير العام لوزارة الدفاع، بطلب من الوزير عمير بيرتس. وبعد ما اعتبرت «إخفاقات» الجيش الإسرائيلي في «حرب لبنان الثانية» عام 2006 واستقالة رئيس الأركان دان حالوتس، مطلع 2007، قرر رئيس الوزراء - يومذاك - إيهود أولمرت ووزير الدفاع عمير بيرتس، إعادة أشكنازي للجيش وتعيينه رئيسا للأركان.
استقر أشكنازي في المنصب أربع سنوات، قاد خلالها عدة عمليات حربية، منها: قصف المفاعل النووي السوري قرب دير الزور عام 2007، وعملية «الشتاء الساخن» على قطاع غزة، التي استغرقت يومين وأسفرت عن توقيع أول اتفاق هدنة بين إسرائيل وحركة حماس، والحرب التي سُمّيت «عملية الرصاص المصبوب» في نهاية 2008 وبداية 2009.
لقد حظي أشكنازي بالإطراء على دوره في تصحيح إخفاقات الحرب وإعادة بناء الجيش وتعزيز قوة سلاح اليابسة، واستيراد كمية هائلة من الميرة والعتاد (جلب قسماً منها من معسكرات الجيش الأميركي في أوروبا)، وبذل جهودا كبيرة في تطوير آليات الصواريخ المضادة للصواريخ (القبة الحديدية). لكنه، رغم تمتعه بتقدير أولمرت، دخل في اشتباك مع وزير الدفاع إيهود باراك ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.
فلقد كان موقفه حاداً ضد فكرة إعلان الحرب على إيران عام 2010؛ لاعتقاده بأن الجهود السياسية لم تستنفد بعد. وشاركه الرأي - في حينه - جميع رؤساء أجهزة الاستخبارات؛ ولذا، انتقم منه نتنياهو وباراك فعارضا تمديد مدة خدمته لسنة خامسة في رئاسة الأركان، بل اختارا بديلا عنه خصمه اللدود يواف غالانت، واتخذا قراراً رسمياً بتعيين غالانت. لكن الحكومة اضطرت لإلغاء هذا التعيين بعد يوم واحد فقط. وكان السبب، الكشف عن فضائح تتعلق به. واتهم أشكنازي بالوقوف وراء إحداها، وفتح معه تحقيق في الموضوع. وفي هذه الأثناء كشف عن فضائح لغالانت تتعلق بقضية فساد، إذ استولى على أرض ملك عام. ولذلك لم يصحح القرار بشأنه وسُرح من الجيش. وجرى انتخاب رئيس آخر للأركان، هو صديق أشكنازي، بيني غانتس.

الحياة المدنية
من هنا انتقل غابي أشكنازي إلى الحياة المدنية، وبدا واضحا اتجاهه للعمل السياسي والترشح لرئاسة الحكومة والإطاحة ببنيامين نتنياهو. فقد ساد شبه إجماع على أنه صاحب شخصية قوية ومميزة وله تاريخ عسكري غني يجعله أقوى المرشحين وأكثرهم قدرة على تولي زمام القيادة. لكن نتنياهو استبق الأمور ودخل في معركة أبقت أشكنازي تحت التحقيق في الشرطة من قضية إلى قضية، حتى عام 2016، عندما أعلن المستشار القضائي للحكومة عن إغلاق الملفات ورفض تقديمه للمحاكمة. ويؤكد المقربون من أشكنازي أن الأسلوب الذي استخدم ضده من السياسيين، أصابه بإحباط لفترة طويلة. ولذا امتنع عن قبول العروض لقيادة أحزاب قديمة أو جديدة. وكان يقول إن «السياسة الإسرائيلية ملوّثة بالأوساخ والفساد لدرجة لا قدرة له على احتمالها».
فقط في مطلع العام الماضي، وبعد تجمّع عدد من كبار الجنرالات السابقين في الجيش والاستخبارات والشرطة وتشكيلهم حزبا، وافق أشكنازي على المشاركة. إذ اتفق هؤلاء على أن سياسة نتنياهو باتت تشكل خطراً استراتيجياً على إسرائيل، بحجة أنه يدير سياسة في مركزها مصلحة نتنياهو. ثم إنه متهم بلائحة اتهام خطيرة بالفساد، ويخشى أن تكون حساباته السياسية والأمنية محكومة بمصالحه في المحكمة. والجيش الإسرائيلي، الذي اعتاد على شن حرب أو عملية حربية كل ثلاث أو أربع سنوات على الأكثر، امتنع عن القيام بأي عملية حربية طوال 6 سنوات (منذ الحرب الأخيرة على قطاع غزة في عام 2014) خوفا من تجيير مسارها وفقا لمصالح نتنياهو الشخصية.

الانعطاف نحو الحكومة
من يتابع قصة أشكنازي مع نتنياهو، يكاد لا يصدق أنه دخل إلى حكومة تحت قيادته. فلقد كان الجنرال السابق في طليعة المحاربين لإسقاط نتنياهو. إلا أنه في أكتوبر الماضي، فاجأ رفاقه في «كحول لفان»، باقتراح «حكومة وحدة» مع نتنياهو، معتبراً أن هذه هي الفرصة الوحيدة لإسقاط غريمه. ذلك أن حزب الليكود اقترح أن يتسلم نتنياهو رئاسة الحكومة فقط لستة أشهر، وبعدها يتسلم الرئاسة بيني غانتس. ورأى أشكنازي أنه في حال رفض الاقتراح فسيضطر الجميع للذهاب لانتخابات جديدة يعود نتنياهو بعدها أقوى. يومها هبوا جميعا ضده. فصمت وقبل رأي الأكثرية.
ولكن بعد انتخابات مارس الأخيرة، علا صوته. وقال: «هذه المرة إذا ذهبنا للانتخابات للمرة الرابعة، فسيفوز نتنياهو بالحكم وحده ويشكل حكومة يمين تبقيه رئيساً حتى آخر يوم في محاكمته، وهذا ما لن أسمح به». فانقسم حزب «كحول لفان» إلى قسمين، هو وغانتس انضما لحكومة نتنياهو، والنصف الآخر بقي في المعارضة. وما زال حلم أشكنازي هو «الاستفادة من هذه الفرصة للتخلص من نتنياهو وإعادة بناء قوة معسكرنا من جديد، بواسطة النجاح في عملنا الوزاري المسؤول».
فضلاً عن ذلك، أصر أشكنازي على تولي حقيبة الخارجية، رغم «قصقصة» أجنحتها وسحب عدة دوائر منها، لكون حاملها يمثّل وجه إسرائيل في الخارج. وهو يخطط لاستغلال مدته فيها، 18 شهرا، ليكون شخصية معروفة دولياً ويدفع إلى الأمام بأجندة يبدو فيها مختلفاً عن سياسة نتنياهو بقدر الإمكان. وهو، مثل غانتس، يقول إن خطة الرئيس ترمب، المعروفة باسم «صفقة القرن»، تشكل فرصة سياسية تاريخية لتغيير وجه منطقة الشرق الأوسط إلى الأفضل. وهذا، مع أن أشكنازي يتحفظ كثيراً عن نية الحكومة تنفيذ ضم غور الأردن وشمال البحر الميت لإسرائيل، وينسجم مع آراء القيادة العسكرية والأمنية التي ترى أن «تنفيذ الضم بشكل أحادي الجانب، من دون تنسيق مع الفلسطينيين يمكن أن يفجّر الأوضاع». وهو يعتبر أن وجوده وغانتس وحزبهما في الحكومة «صمام أمان» يمنع اتخاذ قرارات مغامرة كهذه. كما يقول إنه ومن معه سيحاولون استغلال وجودهم في الحكومة على الأقل لتخفيف وطأة سياسة نتنياهو والتفاهم مع واشنطن على مسار أقل فظاظة وأضراراً.
أخيراً، يستعد أشكنازي للمهمة التالية، التي يطمح إليها وهي أن يصبح وزيرا للدفاع، عندما يتولى غانتس مهمة رئيس الحكومة وفقا للاتفاق الائتلافي مع نتنياهو. غير أن السؤال هو: هل سينفذ نتنياهو هذا الاتفاق ويسلّم رئاسة الحكومة فعلا إلى غانتس؟ وإن لم يفعل، وتوجهت إسرائيل لانتخابات رابعة، فكيف سيكون حال أشكنازي؟ هل سيبقى مع غانتس أم أنه سيطرح نفسه بديلا له؟ هل سيستعيد شعبيته؟ وإن استعاد هذه الشعبية، فهل سيتفوق على نتنياهو؟
استطلاعات الرأي تشير حالياً إلى أن هذه مهمة مستحيلة، وأن نتنياهو سيفوز في المرة القادمة ويحقق انتصاراً ساحقاً. لكن السياسة لا تعرف المستحيل. ولذلك فالمعركة مفتوحة في كل الاتجاهات.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.