من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية
TT

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

من التاريخ: القرم وصراع القوى الأوروبية

أصبحت القرم اليوم كما كانت منذ 160 عاما بالتمام والكمال مركزا للاهتمام الدولي رغم تغير الظروف، فقد اندلعت حرب القرم عام 1854 بين روسيا من ناحية وكل من الدولة العثمانية وبريطانيا وفرنسا وبعض الحلفاء الأوروبيين غير المؤثرين من ناحية أخرى، فكانت أول حرب كبرى منذ الحروب النابليونية كما أنها مثلت أول تحد حقيقي لتوازن القوة الأوروبية منذ اتفاقية فيينا الشهيرة في 1815، فلقد وضعت هذه الاتفاقية نوعا من التوازن كما ذكرنا في مقالات سابقة، بحيث لا تستطيع أي دولة أوروبية الانفراد بالسلطة والنفوذ في النظام الإقليمي الأوروبي، فمنحت روسيا قسطا من الأراضي في شرق القارة ونفس الشيء للنمسا في هذه المنطقة وفي الجنوب، وأعادت فرنسا الثورية المتوسعة إلى عهدها السابق دون القضاء عليها، ومنحت بريطانيا بعض الامتيازات البحرية حول القارة لتضمن مثل هذا التوازن، وقد استمرت أوروبا تنعم بالسلام النسبي، ولكن الدولة العثمانية ظلت نقطة الضعف الأساسية في هذا النظام، فلقد بدأت عناصر الضعف تضربها بقوة، ولكن القوى الأوروبية رأت الإبقاء عليها كما هي بلا أي تعديلات في حدودها خاصة الأوروبية والتي كانت تقدر بنحو 284 ألف كيلومتر مربع في شرق القارة الأوروبية، حيث رئي أن أي فراغ سياسي في هذه المنطقة كان من شأنه أن يخلق حالة تنافس وصراع بين القوى الكبرى في القارة. ولذا فمن أجل الإبقاء على التوازن السياسي في هذا الجزء من المسرح السياسي، لذلك قرر الساسة الأوروبيون الإبقاء على الدولة العثمانية كما هي دون أي تغيير مع عدم السماح لروسيا بالاستيلاء على المضايق العثمانية (البسفور والدردنيل) أو تهديد الملاحة في المتوسط.
على الرغم من ذلك، فإن روسيا رفضت هذه السياسة حيث كانت لها مطامعها في الدولة العثمانية خاصة في شرق أوروبا، وكانت عيناها معقودتان على المضايق التركية لمنافسة بريطانيا وفرنسا في المتوسط، وبالتالي فإن محاولات روسيا تحقيق هذا الهدف لم تكن لتخفى مدة طويلة، فسرعان ما بدأ القيصر الروسي نيقولا الأول يستعد لبدء مغامرته مع الدولة العثمانية، حيث استدعى السفير البريطاني في سان بطرسبورغ وبدأ مفاوضاته مع لندن لمحاولة إعادة توزيع التوازن شرق النظام الأوروبي من خلال اقتراح مباركة استيلاء بريطانيا على مصر وكريت مقابل استيلاء روسيا على المقاطعات العثمانية في شرق أوروبا، وهنا أطلق وصفه الشهير على الدولة العثمانية والذي أصبح فيما بعد رمزا سياسيا مهما عندما نعتها بأنها «رجل أوروبا المريض»، ولكن بريطانيا لم تكن على استعداد لإعادة توزيع التوازن داخل النظام، وأصبح الأمر متروكا للقيصر لحسم مستقبل الصراع الخفي، فأعلن الرجل عام 1853 الحرب على الدولة العثمانية وعبرت جيوشه إلى شرق أوروبا لبدء الحرب، كذلك قام بتقوية أسطوله في البحر الأسود تحت قيادة قائده Nikimov ووجهه للاشتباك مع الأسطول العثماني والذي لقي هزيمة قاسية في معركة «سينوب» الشهيرة والتي كان من نتائجها منح روسيا السيطرة الكاملة على هذا البحر الاستراتيجي، وهو ما لم يكن مقبولا للقوى الأوروبية الأخرى.
وعند هذا الحد لجأت بريطانيا وفرنسا والنمسا لمحاولة السيطرة على الوضع دون جدوى فلقد كانت روسيا عاقدة العزم على تحقيق حلمها، فباتت الحرب وشيكة خاصة وأن التحالف الغربي لم يكن بلا أهدافه أو مطامعه أيضا، فلقد كانت بريطانيا عاقدة العزم على منع الروس من السيطرة على المضايق بأي ثمن حتى لا تنافسها روسيا في المتوسط، كذلك فإن الاستفزازات الروسية مثلت في حقيقة الأمر قضية صارت لها أبعادها الداخلية تؤثر مباشرة على الرأي العام الداخلي والذي كان يتشوق لحرب مع روسيا، أما فرنسا فلقد كان الوضع مختلفا بعض الشيء، فلقد مثلت هذه الحرب فرصة مواتية لإمبراطورها الجديد «نابليون الثالث» ابن أخ نابليون الكبير لإثبات الذات بعدما أصبح حاكما لفرنسا، فلقد كان الرجل يريد أن يثبت لكل الفرنسيين أنه جدير بلقب الأسرة، فكان في حاجة إلى حرب لإثبات هذا الأمر، وذلك على الرغم من أنه أعلن مرارا وتكرارا على الرأي العام أن بناء الإمبراطورية الفرنسية سيكون من خلال السلام لا الحرب، وقد عقب المفكر الفرنسي العظيم «أليكسيس دي توكفيل De Toqueville» على سلوك الإمبراطور الفرنسي بجملة شهيرة قال فيها «... كل آرائه وشعاراته وحتى مؤامراته مستعارة من أسوأ المنابع... وقد يكون من المفيد له أن ينسى تاريخ عمه»، ولكن الرجل لم يتغير ولم ينس تاريخ عمه، وكان يحتاج لحرب ينتصر فيها، ناسيا أنه ليس عمه ولا يملك ولو جزءا صغيرا من مقوماته العسكرية وبدرجة أقل السياسية.
إزاء تجمع كل هذه العوامل، فإنه كان من المتوقع أن تبدأ العمليات العسكرية لدول التحالف في أي لحظة، وتمثلت القشة التي قسمت ظهر البعير في الخلاف الفرنسي - الروسي على رعاية الأماكن المقدسة في القدس والتي كانت جزءا من ممتلكات الدولة العثمانية، فلقد استغلت روسيا إحدى الفقرات الخاصة باتفاقية بينها وبين الدولة العثمانية لتفرض حمايتها على الأقليات الأرثوذكسية فيها، ولكن الإمبراطور الفرنسي رأى في بلاده حامية الأقليات الكاثوليكية في الدولة العثمانية، ورفض إخضاع هذه الأماكن للحضانة الروسية، وعندما فشلت المفاوضات بين روسيا من ناحية وفرنسا وبريطانيا والنمسا من ناحية أخرى، وتوغلت قوات القيصر في شرق أوروبا، أعلنت كل من فرنسا وبريطانيا في مارس (آذار) 1854 التضامن مع الدولة العثمانية ودخلت في الحرب في صفها لوقف العدوان الروسي، لتبدأ حربا من أغرب الحروب في التاريخ الأوروبي الحديث كما سنرى.
لقد وصل الأسطولان الفرنسي والبريطاني إلى إسطنبول لحماية المضايق كخطوة أولى، وكانت جيوش الحلفاء تستعد لدخول شرق أوروبا في محاولة لتقديم العون للجيش العثماني الذي بدأ حربه على حدوده الشرقية مع روسيا، ولكن الجيش العثماني تحت قيادة «عمر باشا» استطاع أن يوقف الزحف الروسي قبل وصول الدعم العسكري الأوروبي بعد معارك فاصلة اضطرته للعودة خلف حدود نهر الدانوب، وقد سجل الكاتب العظيم «ليو تولستوى» الذي شارك في هذه الحرب بعض ملامح هذه المعارك كما استغل هذه الحرب ليكتب 3 روايات جديدة، وأصبح على جيش وأسطول التحالف أن يقرر خطوته التالية، فكان القرار المشترك بنقل مسرح العمليات إلى القرم في البحر الأسود لتحقيق الهدف المشترك الثاني بتقليم أظافر روسيا بحريا في هذا البحر المهم حتى لا تمثل تهديدا لهما ولتجارتهما وللدولة العثمانية على حد سواء.
حقيقة الأمر أن جزءا كبيرا من سوء التخطيط لهذه الحرب من قبل الحلفاء يكمن في ضعف القيادة البريطانية ممثلة في «لورد راجلان Raglan» والذي لم يكن على دراية كاملة بالطوبوغرافيا الخاصة بشبه جزيرة القرم، كما أنه لم يدرك أيضا خطورة انتشار وباء الكوليرا بين جنوده وأن الجيش غير مستعد للدخول في معركة بلا وجود إمدادات كافية أو حتى خطة واضحة المعالم قابلة للتنفيذ، ولكن الغطرسة وضغط الرأي العام البريطاني جعلاه يندفع نحو فتح جبهة جديدة في صراع بحري وأرضي هو غير مؤهل لدخوله دون التجهيزات اللازمة، وأن الانتصار كان سيأتي بثمن باهظ للغاية، خصوصا مع تواضع قدراته القيادية والعسكرية كما سنرى.



«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
TT

«الشرق الأوسط الجديد» كما يريده نتنياهو

نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)
نتنياهو في مرتفعات جبل الشيخ (آ ف ب)

بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على إحدى قمم جبل الشيخ التي احتلها جيشه للتو، وأعلن عن بقاء إسرائيل في هذا المكان لفترة طويلة. وبعد ثلاثة شهور، في مارس (آذار) 2025، عاد إلى هناك ليقول: «لقد غيّرنا وجه الشرق الأوسط». أثار هذا التصريح ردوداً ساخرة من خصومه نتنياهو، الذين تساءلوا إن كان التغيير في صالح إسرائيل أم ضد مصالحها؟ لكن جوقة أنصاره النشيطين على الشبكات الاجتماعية احتفلوا بـ«الانتصار الكامل». أما أجهزة الأمن، ففتحت الجوارير وأخرجت الخرائط القديمة، التي أُعدت وفق خطط لتمديد النفوذ الإسرائيلي في المنطقة. ولا غرابة؛ فإسرائيل تعِد خطط هيمنة واحتلال بعيدة المدى لكل دولة من «دول الجوار». وفي الحكومة الحالية أحزاب لا تكتفي بتلك الخطط، بل تريد أكثر. وهذه وإن بدت أحزاباً صغيرة ومتطرفة، فإنها ذات تأثير كبير على نتنياهو وعلى السياسة الإسرائيلية. وهي التي تمنع التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وإلى صفقة تنهي ملف المحتجزين، وهي التي تمنع تنفيذ اتفاق وقف النار في لبنان، وتفرض «أمراً واقعاً» يمهد لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.

خطط التوسع الإسرائيلية، بالمناسبة، لا تقتصر على اليمين، بل تأتي أيضاً من الأجهزة الأمنية وأيضاً تحظى بدعم القيادة السياسية.

بعضها خطط جديدة، لكنها مستنبطة من التاريخ، حين كانت الحركة الصهيونية تخطّط لبسط حدود الدولة «من النيل حتى الفرات»، والعَلم الإسرائيلي الذي يتألف من خطين أزرقين تتوسطهما «نجمة داوود» يرمز إلى هذه الحدود. إلا أنهم عندما «تواضعوا»، اكتفوا بضم مقاطع من الجنوب السوري والجنوب اللبناني والغور الأردني (شرقي النهر) وحتى غزة ومقاطع من سيناء المصرية.

الفكرة

معهد «مسغاف» للأبحاث وضع في مارس (آذار) الماضي، خطة لإسرائيل الجديدة، أطلق عليها اسم «إسرائيل 2.0».

هذا ليس مجرد معهد دراسات، بل هو تابع لنتنياهو. وأُسس فقط عام 2023، ويترأسه مئير بن شبات، الذي عمل مستشار الأمن القومي في الحكومة وكان «رجل المهمات الخاصة» عند لنتنياهو ومبعوثه إلى الدول العربية والغربية.

يقول المعهد في مقدمة المشروع «هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ليس أقلّ من جرس إنذار لدولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي. يدور الحديث عن حدث يغيّر قواعد اللعبة ويُلزم الدولة والمجتمع لإعادة التفكير السريع واستيعاب الضرورة في التكيّف والتغيير. على دولة إسرائيل أن تشهد عملية إعادة تنظيم شاملة، إلى جانب تغيير الأسطورة القومية وتكييفها مع الظروف المتغيرة. إسرائيل، التي كانت قائمة حتى السابع من أكتوبر، بروح التقاليد السيادية اليهودية على مرّ الأجيال، لنحو ثمانية عقود – عليها الآن أن تتجدّد، أن تُحدّث نفسها، وأن تعيد صياغة هويتها من جديد استعداداً للعقود المقبلة. من نواحٍ عديدة، يجب اعتبار هذه الحرب حربَ نهوض، حيث ينبثق من وسط الظلمة الشديدة نور كبير وتنبعث دولة جديدة، من بين الأنقاض».

كيف يرون النهوض؟

النهوض يعني أنه «لا بدّ من بلورة الأهداف الاستراتيجية التي تسعى إسرائيل إلى تحقيقها ضمن إطار سياسي واسع النطاق قدر الإمكان، أي بمشاركة المعارضة في الكنيست، مع تنسيق منظومة تفاهمات استراتيجية شاملة قدر الإمكان مع الولايات المتحدة. ويجب أن تتضمن، بالضرورة، اتفاقات في القضايا الرئيسة التالية: القضاء على الخيار النووي الإيراني، والتوصل إلى تفاهمات مع تركيا بشأن البنية الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط وتقاسم المصالح في سوريا، ووضع حد لخرق مصر لاتفاقية السلام، واستغلال الفرصة التاريخية للعمل بمزيد من الاستقلالية، الحزم والمبادرة من أجل التأثير في رسم ملامح منطقة الشمال الإسرائيلية مستقبلياً. وبجانب العمليات العسكرية الناجحة لتدمير ما تبقّى من الجيش السوري، وتعزيز الوجود الإسرائيلي على الحدود مع سوريا، ينبغي التحرّك سياسيّاً لضمان ألّا يُشكّل النظام القادم في سوريا تهديداً لأمن إسرائيل».

أيضاً، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يشغل اليوم منصب وزير ثان في وزارة الدفاع، أيضاً نشر «خطة الحسم» (مجلة «هشيلواح») عام 2017، وأوضح أنه يرى في الأردن «دولة فلسطينية».

وفي بداية الحرب تحدث نتنياهو نفسه عن ضرورة «إعادة هندسة الوعي العربي» ليتقبلوا إسرائيل، كما حصل مع اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية وكذلك مع الألمان. إذ كره اليابانيون جيشهم وكره الألمان النازيين، وراح الشعبان يشيدان بالولايات المتحدة «التي خلصتهم من أعباء هذا الإرث»، وإسرائيل القوية الممتدة على النطاق الواسع الحالي (أي أيضاً في سوريا ولبنان)، هي أقصر الطرق لتحقيق هذه القناعة».

الترجمة العسكرية

الجيش من جهته، تلقف أجواء الحكومة، وأعلن تعديل عقيدته الحربية في ضوء الإفادة من تجربة «7 أكتوبر»، فقرّر أن هجوماً على إسرائيل شبيهاً بهجوم «حماس» في ذلك اليوم، يمكن أن يُشَن من جميع «دول الجوار». ولذا؛ ثمة شكوك وقلق إزاء جميع الجبهات، وبناءً عليه ستكون حماية أمن إسرائيل بالاعتماد على الذات، وبتعزيز آلية الانتقال من الردع والدفاع، إلى الدفاع الهجومي، أي الهجمات الاستباقية.

كذلك تقرّر إنشاء ثلاث «دوائر أمنية» مع «دول الجوار»:

- الدائرة الأولى، «خط دفاع» قوي داخل الحدود الإسرائيلية مع حشود قوات وحفر خط دفاع على طول الحدود وتوفير شبكة إلكترونية محبوكة.

- الدائرة الثانية، «حزام أمني» داخل «أرض العدو» على طول الحدود يحظر دخول أي إنسان إليه من دون ترخيص إسرائيلي («حزام أمني» كهذا موجود في الجنوب اللبناني وفي سوريا وفي غزة).

- الدائرة الثالثة، إعلان «منطقة منزوعة السلاح» في عمق الدولة المجاورة (في سوريا حُددت من دمشق وحتى الجنوب والغرب، وفي لبنان من نهر الليطاني وجنوباً، وفي غزة كل القطاع). وبدأ بشكل عملي تطبيق الخطة.

هكذا مهّد الجيش الطريق للقيادة السياسية اليمينية كي تتخذ القرارات السياسية التي تبين أن إسرائيل غيّرت نهجها، وتريد لنفسها مكانة مؤثرة في دول الجوار. وهي تفعل هذا على النحو التالي:

آثار غارة إسرائيلية استهدفت موقعاً في محافظة حماه السورية (آ ف ب)

سوريا

بالنسبة لسوريا، عادوا لفتح الجوارير القديمة ليستلوا المشروع الصهيوني العتيق للسيطرة على أرض الجولان السوري ومنابع المياه فيها. ذلك المشروع طرحته القيادة الصهيونية عام 1919، إبان «مؤتمر فرساي»؛ في محاولة لتعديل «اتفاقيات سايكس بيكو». وعام 1925، طرحت الصهيونية فكرة تقسيم سوريا (ولبنان) إلى دويلات، بحيث تكون «جارة» إسرائيل العتيدة من الشرق دولة درزية. واشترت الحركة الصهيونية 450 ألف دونم من أراضي الجولان؛ تمهيداً لتطبيق الفكرة. ويوم 9 يناير (كانون الثاني) من 2025، قال مسؤول إسرائيلي كبير لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، إن «العالم يعمي أبصاره عن رؤية الخطر الكامن في النظام السوري الجديد؛ فقيادته، رغم ما تبديه من رغبة للتقرّب إلى الغرب، تعدّ جزءاً أصلياً من الجهاد الإسلامي العالمي. والرسائل الإيجابية في التعامل مع مصالح الغرب وحتى إسرائيل جزء من مخطط بعيد المدى (تتمسكن لتتمكّن)، وعندما تتمكّن ستظهر حقيقتها المعادية لإسرائيل وللغرب. قد يستغرق الأمر سنة أو سنتين أو 10 – 20 سنة، لكنها لن تحيد عن أهدافها الاستراتيجية».

ويوم 8 مارس (آذار)، أعلن نتنياهو، وفق صحيفة «معاريف»، أن الجيش الإسرائيلي «لن يسمح لقوات الهيئة بالتمركز في أي منطقة جنوب دمشق، وسيحافظ على نفوذه هناك حتى توقيع اتفاق إسرائيل - سوري دولي ينهي حالة العداء ويؤسس السلام التام معنا، بكل ما يتطلب هذا من ضمانات لأمننا». وهنا بيت القصيد. إذ يكشف نتنياهو عن أن الضغط على سوريا اليوم يرمي إلى الوصول إلى «اتفاق سلام» ينهي حالة الحرب، وحالة الـ«لا حرب ولا سلم». وحتى ذلك الحين، يدير نتنياهو مفاوضات مع تركيا لتقاسم النفوذ بينهما على سوريا.

إنه يريد سحب اعتراف من إدارة الحكم الجديدة في سوريا ومن تركيا بأنها - أي تل أبيب - كانت صاحبة التأثير الأكبر لسقوط نظام بشار الأسد، وبالتالي تطلب مكافأتها على ذلك. وعندما اكتفى أحمد الشرع بالإعلان أنه غير معني بالحرب ويلتزم باتفاق فصل القوات من عام 1974، قرّرت إسرائيل مخاطبته بلغتها المألوفة: الحديد والنار. فشنّت أكثر من 500 غارة حربية على مواقع الجيش السوري ودمرت «نحو 85 في المائة من قدراته الدفاعية»، كما زعمت. وواصلت شن الغارات من مطار حمص حتى قلب دمشق واحتلت كل قمم جبل الشيخ و400 كلم مربع من الأراضي الواقعة شرقي الجولان المحتل من سنة 1967.

البروفسور آفي برئيلي، المؤرّخ في جامعة بن غوريون بالنقب، يقول: «إن أقل ما يمكن أن تقبله حكومة بنيامين نتنياهو من سوريا اليوم هو تقاسم النفوذ مع تركيا». ويتابع في صحيفة «يسرائيل هيوم» (عدد الثلاثاء) إن «المصلحة الواضحة لإسرائيل هي تجنب الصراع المباشر مع تركيا، الآن طبعاً، ما دام لا يزال التهديد الإيراني قائماً، ولكن أيضاً في المستقبل. لا نريد أن نواجه دولة قوية وعضواً في (ناتو). كما أن للولايات المتحدة مصلحة في منع صراع بين حليفين رئيسين لها، تأمل من خلالهما تحقيق الاستقرار في المنطقة. ومن أجل تجنب الصراع، يتطلب الأمر تقسيماً واضحاً: تركيا والنظام الذي أنشأته في دمشق سيتفهمون وجودنا وتأثيرنا في الشام وجبل الدروز، ولن يثيروا ضدنا السُّنة في محافظة درعا كما حدث أخيراً؛ بينما ستتجنب إسرائيل دعم الأكراد السوريين، أعداء تركيا، في الشمال والشرق. هذا التقسيم الواضح بين تركيا وإسرائيل في سوريا هو مفتاح استقرار المنطقة».

ولكن بنيامين نتنياهو، كان قد ألمح لأمر آخر هو «جلب» سوريا بقيادتها الجديدة الى «اتفاقيات إبراهيم». والهدف ليس التوصل إلى السلام القائم على احترام حدود وموارد كل دولة للأخرى، بل انتهاز الفرصة التي تبدو فيها سوريا في أضعف أحوالها كي يضم أكبر قدر من الأراضي السورية لإسرائيل بدءاً بالجولان الغربي وحتى الجنوب.

حكومة تل أبيب مقتنعة بأن «العرب لا يتألمون ولا يشعرون بنتائج هجماتهم البدائية إلا إذا أخذت منهم أرضاً». وبالإضافة للأراضي التي يسيطرون عليها اليوم يتكلم الإسرائيليون عن «محور داوود»، من جنوب الجولان وحتى التنف، ومن هناك إلى دير الزور والحدود مع كردستان العراق، وتريد إسرائيل السيطرة عليه في حال غادر الأميركيون المنطقة.

الجيش الإسرائيلي أعلن تعديل عقيدته

الحربية بعد «7 أكتوبر» خوفاً

من هجوم واسع

لبنان

لا يختلف الموقف من لبنان كثيراً عن الموقف من سوريا. فبحسب الرسالة المذكورة إلى فرساي طلبت الصهيونية قبل أكثر من 100 عام ضم الجنوب اللبناني من الليطاني إلى تخوم الدولة العبرية العتيدة. وعندما طرحت فكرة «الدولة الدرزية» عام 1925، قصدت تفتيت الطائفة العربية عملياً، وهي التي كانت موحّدة مع عرب الشام تحت قيادة زعيم الثورة السورية سلطان باشا الأطرش، وهو الدرزي الذي سارت وراءه وتحت قيادته جميع الطوائف. وعام 1946 اقترحت مجدداً إنشاء دولة درزية، وأوضحت أنها تقصد ضم العرب الدروز من لبنان ومن سوريا معاً. ولما أفشلت القيادة الدرزية ذلك المخطط، راحت تخطط للبنان أن يكون «دولة مسيحية» منسلخة عن بقية الطوائف. وتدخّلت بعمق في السياسة اللبنانية، حتى قبل حراك الثورة الفلسطينية في لبنان.

وإبّان الحرب الأهلية تحوّلت إسرائيل لاعباً فاعلاً ونشطاً. وحتى عندما انسحبت إسرائيل من لبنان، بشكل أحادي الجانب، عام 2000، لم تترك لبنان لحاله، بل واصلت التدخل والعبث بشؤونه الداخلية. ولعل أكبر مثل لعمق هذا التدخل، هو جمع المعلومات الاستخبارية وتنفيذ عمليات اختراق من «الموساد» لأدق المواقع والأطر، وعلى رأسها «حزب الله»، والتي مكَّنتها من القيام بعملية الاغتيال الجماعي لنشطائه بواسطة أجهزة الاتصال المفخخة وتصفية قياداته العليا والوسطى، من حسن نصر الله ونازلاً. وهي تحتل راهناً تسع مناطق في الجنوب اللبناني «لفترة طويلة»، إلى حين تقتنع بأن الجيش يسيطر على المنطقة.

الأردن

على الرغم من اتفاقيات السلام والتنسيق الأمني مع الأردن منذ عام 1994، لم يتنازل اليمين الإسرائيلي عن حلمه تحويل الأردن دولة فلسطينية بدلاً من أن يكون المملكة الهاشمية. وطموحه هو أن تطرد إسرائيل أكبر عدد من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة إليه. وهو لا ينفي ذلك، بل يتحدث عنه علناً ويجعله جزءاً من مشروعه السياسي الرسمي.

مصيبة

إن مصيبة إسرائيل أنها تؤمن بأن قوتها العسكرية تجعلها قادرة على تحقيق هذه الطموحات. ولقد انتقد هذا التوجه، حتى البروفسور أفرايم عنبار، مدير المعهد الأورشليمي للاستراتيجية والأمن، الذي يعتبر معقلاً للعقائديين اليمينيين، وقال في دراسة نُشرت مطلع الشهر الحالي: «قدرة إسرائيل أو جهات فاعلة من خارج المنطقة، وحتّى قوى عظمى، على هندسة دول في الشرق الأوسط سياسيّاً قدرة محدودة جدّاً. لقد فشلت إسرائيل عند دخولها إلى بلاد الأرز في عام 1982 في محاولة لتغيير الحكومة في لبنان. ولم تنجح الولايات المُتّحدة، التي تملك جيشاً ضخماً وموارد هائلة، على فرض نظام ديمقراطيّ موالٍ للغرب في أفغانستان والعراق. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى الاتّحاد السوفياتيّ، الذي عمل في أفغانستان عسكريّاً».
وأخيراً، يقول اللواء احتياط يسرائيل زيف، المعلّق في «القناة 12» في التلفزيون الإسرائيلي، إن «العجلة تدور. بينما يصرّ نتنياهو على الحرب، يعيد العالم ترتيب الشرق الأوسط من دوننا... لقد فاتنا القطار».

عاجل إسرائيل ستستأنف إدخال المساعدات لغزة عبر القنوات القائمة (أكسيوس)