أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

الوزير الخريج من «جونز هوبكنز» انتصر في مواجهاته مع «الكوليرا» و{حمى الوادي المتصدع» و{الإخوان»

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار
TT

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

أكرم التوم يقود معركة السودان ضد «كورونا» بنظام صحي منهار

حوّلت تصريحات عفوية لوزير الصحة السوداني الدكتور أكرم علي التوم، إلى «بطل» عند البعض لشفافيته الصادمة، وإلى «فاشل» مثير للغضب عند سودانيين رأوا فيها استفزازاً غير مسبوق. وكان كلام الوزير قد جاء في أحد إيجازاته اليومية، وفيه حذّر المواطنين من انتشار فيروس «كوفيد - 19»، إذ قال: «هذا مرض لا علاج له، كل ما نفعله هو أن نصرف لك محاليل وريدية (دربات) ومسكّن للألم (بنادول)، وإذا اختنقتَ نعطيك أكسجين، وإن ضاقت عليك فستموت».

تصريحات الوزير أكرم التوم الصادمة حول جائحة «كوفيد - 19» شغلت وسائل الإعلام الدولية والإقليمية، التي اعتبرتها بعضها «شفافية مطلوبة». وفي المقابل، داخل السودان، بينما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي ناقمة على هذه الصراحة المُفرطة، واستقبلها بعض السودانيين بموجة من السخرية، اعتبرها آخرون جدية غير معهودة في المسؤولين السودانيين، وغرّد عدد من النشطاء المؤيدين للتوم. ومن بين التغريدات تغريدة لناشط في موقع «تويتر» جاء فيها: «في كل الأزمات والأوبئة من الملاريا إلى الكورونا (الكوفيد - 19)، فإن سعادة الوزير كان واقعياً وقوياً ومقاتلاً وإنسانياً، بذات البساطة والسماحة والاحترام».

«سوابق» صراحة الوزير

في الواقع كلام التوم الجريء والصادم لم يبدأ بتصريحه المخيف بشأن الجائحة، فلقد سبق له أن صدم التقاليد الصحية السودانية، عندما أعلن بعد زهاء شهر من تسميته وزيراً للصحة عن وصول الأوضاع في ولاية النيل الأزرق (جنوب الخرطوم) مع بلوغ مرض الكوليرا مرحلة الوباء، وأبلغ «منظمة الصحة العالمية» بأمر المنطقة الموبوءة، فتدخلت وقدمت المساعدات لوزارته، وقضت على الكوليرا المزمنة في تلك الولاية... مع العلم بأن السلطات الصحية في عهد حكم المعزول عمر البشير كانت تقلل من شأنها، وتعتبرها مجرد «إسهال مائي».
أيضاً، «صدم» الوزير التوم في أكتوبر (تشرين الأول) أوساط مصدّري اللحوم السودانيين بكشفه عن تفشي «حمّى الوادي صالمتصدع» في القطيع الحيواني في ولاية نهر النيل (شمال البلاد)، صوهو القرار الذي لقي استهجاناً كبيراً للخسائر التي سببها لرعاة الماشية ومصدّري اللحوم والماشية، استغله إعلام الجماعات الإسلامية في شن حملات مناوئة قاسية ضده، إلا أنه لم ينحنِ لها، بل واصل جهوده لمواجهة الوباء مستعيناً بعلاقاته بالمنظمات الدولية. وبالفعل بعد أشهر قليلة أفلح الرجل في مواجهة الوباء، وكان أن أعلنت «منظمة الصحة العالمية» خلو القطيع السوداني من «حمى الوادي المتصدع» التي تصيب الإنسان والحيوان، وعادت صادرات اللحوم والمواشي السودانية إلى أسواقها مجدداً.

خلفية عائلية

بالمناسبة، تعدّ حاجة كاشف، والدة أكرم التوم، واحدة من أشهر النساء اللاتي تبنين قضية المرأة في السودان، وبسبب شهرتها تحوّلت إلى «أيقونة» في الاتحاد النسائي السوداني، الذي تُعد واحدة من مؤسساته إلى جانب فاطمة أحمد إبراهيم وخالدة زاهرة وأخريات من الرائدات.
وشكلت هذه النخبة من الرائدات أول مكتب تنفيذي للاتحاد، وبما يخصها، تقديراً لجهودها التعليمية وفي قضية المرأة، منحت درجة وزير.
أما والده علي التوم، الذي تُوفي في عام 2005، ونقلت نعيه «الشرق الأوسط» في حينه؛ فهو أحد خبراء الاقتصاد السوداني، وشغل إلى جانب ذلك منصب وزير الزراعة في إحدى حكومات الرئيس الأسبق جعفر النميري. ويُعدّ أحد رواد الحركة الوطنية السودانية، وشغل عدداً من الوظائف في «منظمة الأغذية العالمية».
واختير أكرم المولود وسط هذه الأسرة المستنيرة والمتنفذة وزيراً للصحة، ليكمل تسلسل الاستيزار الموروث في أسرته، كأنه وزير بالوراثة يصدق عليه قول الشاعر الشهير سيف الدين الدسوقي: «مُذ كنتُ غراماً في عيني أمي وأبي... وحملتُ الحُبّ معي بدمي».
وفي يوم 9 سبتمبر (أيلول) 2019 أدى «الوزير الابن» اليمين الدستورية وزيراً للصحة في الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، ليتوّج وزيراً ابن وزير وابن وزيرة.

البداية والنشأة

ولد الوزير أكرم على التوم في أم درمان 18 سبتمبر (أيلول) 1961. وتخرج بشهادة بكالوريوس الطب والجراحة في جامعة الخرطوم عام 1985، وعمل طبيبا عمومياً في السودان، قبل أن ينال منحة «فولبرايت» للدراسات العليا في 1993. ويحصل على الماجستير في الصحة العامة من جامعة جونز هوبكنز الأميركية الشهيرة 1993.
وحقاً، يحتكم الرجل على سيرة باذخة في مجاله، فلقد عمل في «منظمة الصحة العالمية»، ونال جائزة أفضل مدير للصحة في إقليم أفريقيا عام 2009، ثم انتخب عام 2015 «زميلاً متميزاً» في كلية الصحة العامة، في الكلية الملكية للأطباء الباطنيين في المملكة المتحدة.
اشتهر أكرم التوم بأنه الشخص الذي تولّى صياغة «استراتيجية الصحة للقارة الأفريقية 2016 - 2030. لصالح (منظمة الصحة العالمية)، التي أجازها وزراء الصحة الأفارقة، واعتمدت كاستراتيجية صحية لأفريقيا من قبل رؤساء دول الاتحاد الأفريقي».
عمل التوم طبيباً لمدة 6 سنوات في السودان، ولمدة 24 سنة في مجال الصحة العامة مع «منظمة الصحة العالمية». وإبان فترة عمله هناك، كان من الملتزمين بمشاريع «التنمية المستدامة» في بلاده وفي أفريقيا، إضافة إلى نشر التغطية الصحية الشاملة للفئات المهمّشة والمُستَلبة في المجتمع، من خلال عمله في تطوير وتنسيق وسن السياسات الصحية في المجتمعات الأفريقية، بما فيها إجراء إصلاحات في سياسات الصحة العامة والتخطيط الصحي الاستراتيجي.
‏وللوزير التوم خبرات ثرية في مجالات برامج الصحة الإنجابية المتكاملة، وصحة الأم والطفل والمراهقين، والتغذية، ومكافحة الأمراض السارية وغير السارية، بالإضافة إلى خبرته في إدارة البرامج الصحية والتنموية، وتقديم الاستشارات الفنية لبلدان ثرية وأخرى منخفضة ومتوسطة الدخل، بجانب الدول الهشة في مجال الصحة، في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وأميركا الشمالية.
فضلاً عما تقدم، اشتغل التوم خلال عمله مع «منظمة الصحة العالمية» في العديد من دول العالم، وعمل مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، و«اليونسيف» و«البنك الدولي» و«صندوق الأمم المتحدة للسكان» و«برنامج الغذاء العالمي». وكذلك عمل التوم مع الجهات المانحة مثل «الأمم المتحدة»، و«الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا»، فضلاً عن الحكومة الأميركية، وغيرها. ومن ثم، أسهم في استقطاب الموارد للدول الفقيرة من المانحين، وأنشأ شراكات استراتيجية بين القطاعين العام والخاص في المجال الصحي في الدول التي عمل بها.

نظام صحي مهترئ

أما في السودان، فقد ورث التوم نظاماً صحياً مهترئاً خربه النظام المعزول، وقضى تماماً على قطاعه العام لصالح سماسرته من «تجار الصحة». وهو ما فرض على الوزير الجديد منذ أيامه الأول الاصطدام مع «لوبيات» الاتجار في الدواء... وتعهَّد بإعادة العافية إلى القطاع الصحي العام، وإنشاء بنية صحية مؤسسية تتيح العلاج المجاني للمواطنين، وتفكيك «كارتيلات» الإسلاميين الصحية الخاصة.
ولكن قبل أن يكمل التوم مخططه، داهمت السودان والعالم جائحة «كوفيد - 19»، فأربكت حسابته الصحية وخططه. إذ تركته الجائحة، التي شلت الأنظمة الصحية في بلدان العالم المتقدمة والثرية، شبه أعزل، سلاحه مثلوم، والمؤسسات الصحية في البلاد تفتقر إلى كل شيء. لكنه قاد بصراحته المعهودة مواجهة الجائحة. ومع أنه لقي ما لقي من عنت، فإنه أفلح في استقطاب دعم مقدّر.
لم تعجب طريقته المتحدّية في إدارة الشأن الصحي الكثيرين، فسارع كثيرون، وبالأخص، قطاع المستثمرين في الصحة والدواء من أنصار النظام القديم، لوضع الحواجز أمامه، وإثارة الحنق ضده. غير أن الرجل صمد في المواجهة، إلى أن جاءت الطامة الكبرى، حين تسرّبت شائعات عن وجود «اتفاق» بين مكوّنات الحكم الانتقالي لإقالته من الوزارة.

شائعات الإقالة

لقد دأب التوم على تسمية تدابيره لمواجهة الجائحة الحالية، ففي 12 مايو (أيار) الحالي، نقلت «العين الإخبارية» عن مصادر أن اجتماعاً لشركاء الحكم (مجلس السيادة، مجلس الوزراء، قوى إعلان الحرية والتغيير) أوصى بإقالته بعد حملته الفاشلة في مواجهة أزمة تفشي الجائحة، بيد أن «قوى الحرية والتغيير» نفت أن تكون قد أوصت بذلك، فسارع مجلس السيادة إلى نشر خبر في مواقعة الرسمية على الإنترنت، وأكد فيه توافق الأطراف الثلاثة على إقالته، ثم سُحب الخبر من المواقع، وبعدما أعلن رئيس مجلس الوزراء عبد الله حمدوك ومجلسه تجديد ثقتهما في وزير الصحة، ونفيا عزمهم على إقالته، أعاد المجلس السيادي نشر الخبر مجدداً.
جاء هذا الارتباك حول الخبر، لصالح أكرم التوم. إذ أعلنت «لجان المقاومة» (تنظيمات شبابية في الأحياء نظمت المواكب التي أسقطت نظام البشير) دعمها غير المحدود للرجل، وهدّدت بخرق حظر التجوال والإجراءات الاحترازية التي قررتها وزارة الصحة، وتسيير المواكب الاحتجاجية وحرق الإطارات في الشوارع تضامناً مع الوزير، باعتباره أحد وزراء حكومة الثورة... بل وخرجت مواكب احتجاجية محدودة في بعض أنحاء العاصمة الخرطوم لتأييد الوزير.
أكثر من هذا، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي دعماً للتوم، ونشط «تريند» في موقعي «تويتر» و«فيسبوك» تحت «هاشتاغ»: «شكراً دكتور أكرم، شكراً لجيشنا الأبيض»، معتبرين إقالته مؤامرة من «فلول نظام الإسلاميين»، وتضمّنت تغريدات من قبيل «دكتور أكرم من ضمن أفضل الأطباء حول العالم، من الذين استطاعوا التصدي لفيروس كورونا».
في المقابل، أخذ عليه أنصار النظام السابق تصريحات إبان الأيام الأولى لبدء تفشي الجائحة قال فيها: «نحن قدرنا على نظام البشير، ولن تغلبنا (الكورونا) الصغيرة هذه». ولكن، حين انتشر الوباء في البلاد، اتخذوا منها مادة سخرية للتقليل منه ضمن صراعهم مع الحكومة الانتقالية، واستغلوا تهديده بالموت لمصابي الجائحة حال عدم الالتزام بالحظر، بمقولة منسوبة لوزير الصحة السابق بحر أبو قرادة قال فيها: «نحن نصرف أموالاً طائلة على مرضى السرطان، وفي الآخر يموتون».
وهكذا انقسم المغردون إلى فريقين: الأول ضمّ منتقدين رفضوا تصريحاته الصادمة وكونها أول مرة ينتقد فيها وزير المواطنين بهذه الطريقة (وعلى الوسائط كافة)، ومع هؤلاء جماعات رأوا فيها محاولة لتغطية عجز الحكومة عن وقف انتشار الوباء. والثاني، ضم فئة مناصرة له اعتبرته أفضل وزير يمكن أن يتوفر للبلاد، استناداً إلى دوره في صياغة استراتيجية الصحة العالمية في أفريقيا، وجائزة بوصفه أفضل مدير طبي في الإقليم.
وبينما تتباين الآراء بشأن الوزير، وتسخر من ضعف نظامه الصحي، جاءت التوم «تزكية غير متوقعة» من «منظمة الصحة العالمية»، إذ جرى انتخابه واحداً من نواب الجمعية «العامة لهيئة الصحة العالمية»، ممثلاً لمنطقة الشرق الأوسط ولمدة عام، في دورتها الـ73، وقالت المنظمة إنه أحد 34 شخصاً يمتلكون مؤهلات فنية في ميدان الصحة معيّنين من قبل دولة عضو انتخبوا لعضوية المجلس من قبل جمعية الصحة.
ولكن، رغم هذا، ومع كل خبراته، فإن مستقبل الوزير أكرم التوم مرتبط بمدى نجاحه في الحد من انتشار «كوفيد - 19»، مثل فارس بلا جواد؛ إذ انتشرت الجائحة في كل ولايات البلاد، وتصاعدت أعداد المصابين بصورة كبيرة خلال فترة الحجر الصحي، بينما يقلل أعداد من السودانيين من مخاطر المرض، ولا يقيمون اعتباراً للإجراءات الصحية، بما فيها حظر التجوال وإغلاق العاصمة الخرطوم... ويقف على رأسهم رموز النظام المعزول الذين خرجوا في مظاهرة احتجاجية هتفوا خلالها «ما في كورونا... ما تغشونا»، وتهدف لإضعاف الحكومة الانتقالية، من خلال استهداف الوزير.
أيضاً لقي التوم انتقادات حادة على طريقة إدارته للأزمة وطريقة تعامله مع عائدين إلى البلاد، سُمِح لهم بالدخول دون الخضوع للإجراءات الصحية رغم إغلاق المطارات والمعابر والموانئ. ومن ناحية ثانية، يواجه التوم أزمة السودانيين العالقين خارج البلاد، الذين رفض السماح لهم بدخول البلاد، خاصة من مصر، وهو أحد محرّكات تصريحه المثير للجدل، الذي قال فيه: «لن أسمح بعودة العالقين في مثل هذه الظروف، ولو رغبتم في عودة أحبائكم، فعليكم بالالتزام بالحظر والإغلاق».
ولأن التحدّي مثل تنين يضع هدية على فمه، وضع التوم كمّامته الطبية على فمه، مواجهاً الصعاب التي تعيشها حكومة «الفترة الانتقالية»، والجائحة التي فاقمتها، وغدر بعض الرفاق الذين أداروا له الأكتاف الباردة.
وحتى الآن، ظَلّ الوزير، ابن الوزيرة حاجة كاشف، وابن الوزير علي التوم، محتفظاً بكرسيه القَلِق رغم أنف الراغبين بإزاحته.


مقالات ذات صلة

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

شمال افريقيا «الصحة» المصرية تنفي رصد أمراض فيروسية أو متحورات مستحدثة (أرشيفية - مديرية الصحة والسكان بالقليوبية)

متحور جديد لـ«كورونا» في مصر؟... نفي رسمي و«تخوف سوشيالي»

نفت وزارة الصحة المصرية رصد أي أمراض بكتيرية أو فيروسية أو متحورات مستحدثة مجهولة من فيروس «كورونا».

محمد عجم (القاهرة)
الولايات المتحدة​ أظهر المسح الجديد تراجعاً في عدد الأطفال الصغار المسجلين في الدور التعليمية ما قبل سن الالتحاق بالمدارس في أميركا من جراء إغلاق الكثير من المدارس في ذروة جائحة كورونا (متداولة)

مسح جديد يرصد تأثير جائحة «كورونا» على أسلوب حياة الأميركيين

أظهر مسح أميركي تراجع عدد الأجداد الذين يعيشون مع أحفادهم ويعتنون بهم، وانخفاض عدد الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى الدور التعليمية في أميركا.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الزحام من أسباب انتشار العدوى (تصوير: عبد الفتاح فرج)

مصر: تطمينات رسمية بشأن انتشار متحور جديد لـ«كورونا»

نفى الدكتور محمد عوض تاج الدين مستشار الرئيس المصري لشؤون الصحة والوقاية وجود أي دليل على انتشار متحور جديد من فيروس «كورونا» في مصر الآن.

أحمد حسن بلح (القاهرة)
العالم رجلان إندونيسيان كانا في السابق ضحايا لعصابات الاتجار بالبشر وأُجبرا على العمل محتالين في كمبوديا (أ.ف.ب)

الاتجار بالبشر يرتفع بشكل حاد عالمياً...وأكثر من ثُلث الضحايا أطفال

ذكر تقرير للأمم المتحدة -نُشر اليوم (الأربعاء)- أن الاتجار بالبشر ارتفع بشكل حاد، بسبب الصراعات والكوارث الناجمة عن المناخ والأزمات العالمية.

«الشرق الأوسط» (فيينا)

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.