شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

عبد الحفيظ طايل في ديوانه «عائلة يموت أفرادها فجأة»

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»
TT

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

شعرية الضحك و«اللحظات الحميمة»

تهيمن شعرية «اللحظات الحميمة» على أجواء ديوان «عائلة يموت أفرادها فجأة» للشاعر عبد الحفيظ طايل، حيث يذهب للشعر وكأنه خفقات أجنحة، وجريمة بيضاء تبحث عن شر عاقل يرتكبها بحنكة أكثر بياضاً في فضاء اللغة والحياة. هكذا يطالعنا المعنى في الديوان الصادر حديثاً عن دار «ميريت» بالقاهرة، وهو معنى لا يخلو من مراوغة ملتبسة تعززها لطشة زمنية مباغتة تأتي على سبيل التوكيد المباغت (فجأة)، حول واقعة مفترضة ومتخيلة، تاركة الدلالة تراوح في دورانها فنيّاً بين الواقع والخيال.
يتسع فضاء هذه المراوحة في الديوان بصفحاته الـ88، وفي مشهدية متوترة صاخبة في العمق، هادئة فوق السطح؛ يتنوع إيقاعها بدفق اللحظات الحميمة ملامساً مناخات القرية والمدينة، الأسرة والعائلة والأصدقاء، فيكتب عن «عمتي سميحة» و«ستي خضرة»، وضحكَتَيْ صديقه وأخيه، ويكتب عن الثورة والتمرُّد ومتاهة الواقع.
يتشكل ذلك المزيج الإنساني الحميم من خلال عنوانين رئيسيين ينفتحان على تخوم النهايات والبدايات، كل عنوان بمثابة كتلة شعرية، تنضوي تحتها مجموعة من النصوص، تتراوح ما بين الومضة الخاطفة والنص الطويل نسبيّاً... ويبدو أن الشاعر قصد من خلال هذا البناء الاعتماد على ما يمكن تسميته «مراوحة الأضداد»، التي تتجسد ما بين العنوان الأول «البعوضة الضخمة التي خطفت أكياس المعرفة»، والثاني «الأشياء لم تزل على حالها»، فكلاهما يضمر شكلاً من المراوحة بين الحركة والسكون، تتجسد الحركة في فعل الخطف، والفاعل «البعوضة الضخمة»، بينما تجسّد «أكياس المعرفة» رمزيّاً «المصير الإنساني»، في تشتته بين ما هو كائن بالفعل، وما يجب أن يكون. ويكشف النص عن حالة من العبث تشتبك فيها الفانتازيا بروح المزاح والتهكُّم والسخرية، فيما يبرز الولع بالموسيقي والغناء كمحاولة لإكساب الكائن البشري معنى الخفة والتحليق والأمل... تحت وطأة هذه المفارقات يقول النص:
«يخبئ نطفاً
سرقها من حبال الغسيل
ومن محطات إعادة تدوير المياه
وعويل الريح الذي نسمعه
هو صراخ أجنَّة محرومة من لعب الأطفال
المعروضة في الفتارين».
ثمة أحساس ساخر بالمرارة والحرمان من تحوُّل جوهر الحياة إلى مادة هشة قابلة للسرقة وإعادة التدوير، ويبدو النص وكأنه هو الذي يمارس هذا التلصص على نفسه، من نافذته الخاصة ونافذة الخارج معاً، في محاولة لاستجلاب ضحكة مفتَقَدة ومهزومة تتناثر فوق حواف الذكريات واللحظات الحميمة المنقضية... إنها الضحكة الشارة والعلامة، تتراءى كسؤال عصي عن الإجابة والطرح، لكنه يمشي في طوايا الداخل محمَّلاً بانكسارات الذات وآلامها... يمشي كأغنية شجية أحياناً، وكمرثية لم تنضج بعدُ، أحياناً أخرى... يقول الشاعر في النص الذي وسم العنوان:
«كانوا يضحكون
يلقون النكات ويضحكون
يتوسَّطُهم طبق فاكهة وإبريق شاي
وبينما يضحكون يصعد أحدهم بيسر
كأنما صعد مع أبخرة الشاي
وكان المارة يميزونهم بضحكاتهم
ثمة ضحكة مكتومة
ضحكة للداخل
كزغرودة
ترنّ في فضاء القلب
ضحكة واضحة
ثمة ضحكة بالعين الوسيعة
ملؤها فدان قطن
ولا تصدر صوتاً
وكان المارة كلما مرَّت لحظة صمت
قالوا: إنه يضحك
كانوا كلما غابت ضحكة
عرفوا مَن صَعَد».
يبدو الضحك هنا، وكأنه رحلة صعود فوق حجر الموت، متخففاً من أعباء الحياة وضغوطها، بل من أعباء الضحك نفسه، حين يصبح مجرد صدى للصمت. وتشف اللغة عن تراسلات بصرية لافتة، مسكونة بروح الحكاية، بينما تتواتر حركة الداخل والخارج وكأنها محاولة للإمساك بالزمن في ضحكة، تتناثر في زوايا المشهد، بإيقاع كتوم، لكنه يضفي على فعل الصعود معنى السر، والحقيقة المضطربة الناقصة دوماً، حقيقة العائلة التي لم تعد أبخرة الشاي والضحكات تدل عليها.
لكن... ما الذي يمكن أن يؤنس الروح، وينتشلها من هذه العتمة؟! هنا تؤكد الذات الشاعرة على الخلاص بالموسيقى والغناء، فالأشياء مستقرة في ظلالها، تدور على نفسها ببطء... هكذا تبدو أجواء القسم الثاني من الديوان، وتطل من هذا النص:
«أغني قليلاً قبل دخولي البيت
أرفو نصيحتين ألقاهما صديق
وأغني
ليس للهواء نافذة تطل عليه
ربما سلم طائرة
أغني قليلاً
ربما أوقف حريقاً
سوف ينشب في الطريق إلى البيت
أو أجعل غيمة ترقص
للهواء أغني فربما أصنع نافذة
تطل على غياب
كاختفاء رائحة،
كهيكل عظمي يدندن وحيداً في مقبرة».
تخف وتيرة الدراما في هذا القسم وتتحول إلى ما يشبه الذبذبة الشعرية في النصوص، وعلى عكس القسم الأول تتخلص عناوين القصائد هنا من ثقل ألف التعريف المسكون بإشارات إلى أشياء ودلالات محددة، ويبدو الفصل وكأنه «فصل الخفة»، في مقابل أقدام الزمن والواقع بخطاهما الغليظة... وتغادر شعرية اللحظات الحميمة حجر الضحك، أو على العاقل تضعه في خلفية المشهد، لتصبح القصائد، وكأنها مسامرة للسكون المشمس، تتبدى ثمارها عل شكل: «فوتوغرافيا - أوهام - محبة - ثورة - جنون - حنين - يحدث - يقع - لا شيء».
بروح هذه المسامرة، واللعب على حبائل الاسم والرائحة واللون كمقوم معرفي دال، يصنع الشاعر تناصّاً حميماً من الخفة مع الشاعر عبد المقصود عبد الكريم، أحد شعراء جيل السبعينات في مصر، موجّهاً الخطاب له في نص طويل بعنوان «حنين» يقول فيه:
«لماذا أحنّ إلى قصائد عبد المقصود عبد الكريم؟
هل لأنني أيضاً دلقتُ حليب القبيلة؟
لكن كيف عرف هو؟
كيف عرف أنني العبد اللئيم؟
نتشارك أنا وهو في المقطع الأول من الاسم
عبد
كيف عرف إذن أن لؤماً ما يكمن في اسمي
أنا عبد الحفيظ السيد
وسموني بالعبودية
وحاولوا جاهدين أن يدربوني على حفظ الحليب
(حليب القبيلة)
لتتأكد سيادة أبي
أبي المسكين.
أنا العبد اللئيم:
دائماً كنت أردد بيني وبين نفسي هذه المقولة
ولكن كيف يكون العبد لئيماً؟
كنت (أرعي الغنم وأجتزّ صوفها) وأحلبها
كنتُ خازن القبيلة
كان حليب القبيلة محتفظاً بمكوناته حين اندلق
لكن القبيلة كانت قد تفككت»
يشير هذا النص إلى آلية التناص الشعري، وهي من مناطق الجدارة اللافتة في الديوان، فالذات الشاعرة لا تتعامل مع التناص كمعطى دلالي ورمزي منتَج سلفاً. إنما تتعامل معه كمفتاح للنص، ضمن مفاتيح وأبواب جمة، تشي ضمنيّاً بأن النصّ حمالُ أوجهٍ ومعارف ورؤى، قابلة للأخذ والعطاء، للحذف والإضافة. إنه التناص العابر المقيم، وهذا سر تجدده وحيويته، ومقدرته على أن يصنع نوعاً من الموازاة مع الحياة. وعلى سبيل المثال، يأتي «أثر الفراشة» لمحمود درويش، وتأتي ممازحة بشار ابن برد لخادمته:
«ربابة ربّةُ البيتِ
تصب الخلِّ في الزيت»، ودعبل الخزاعي:
«إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدا»، وأيضاً أبو فراس الحمداني:
«أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»... وغيرهم.
وبعد... في غبار هذه الحميمية التي صنعها الديوان بثراء وتنوع ولغة سلسلة موحية، لا يخلو المشهد من بعض الأشياء جانَبَها الصواب، ألفتُ إليها هنا، حتى يصفو النصُّ لنفسه من دون الوقوع في الاستطراد والتكرار... من أبرزها ضرورة إعادة النظر في علاقة التشبيه، وتخليص الصورة الشعرية برتوشها وزخمها من قبضة ثنائية رخوة تنهض على تبعية طرف للآخر، فتصبح الصورة أسراً لعلاقة عير متكافئة، بين المشبَّه والمشبه به، حبذا لو حُذِف أحد طرفي العلاقة أو جرى إخفاؤه والتمويه علية بنسق دلالي آخر، يكسر تراتبيتها. أيضاً هناك بعض الاستطراد والترهُّل في بنية النصوص الطويلة يُفقِد المشهد الانسجام والتماسك الفني، خاصة بين لطشتي البداية والنهاية.
على سبيل المثال نص «سأمضي دون ملاحظة» وهو من النصوص الجيدة، كان يمكن أن تقف لطشة النهاية على عتبة «وجميعهم يرددون نفس المقاطع من خطب الرئيس»، فما عدا ذلك وقع في الاجترار لرذاذ السخرية السياسية، خاصة أنه تم التلميح له بشكل مكثف ومتهكم في الجزء الأول من النص... رغم هذا يبقى أن أؤكد أن هذا الديوان يستحق الاحتفاء والفرح بالشعر.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.