كيف فقدت فرنسا أسلحتها أمام الوباء؟

أوكلت تصنيع الأقنعة وأجهزة الفحص إلى شركات في الخارج

عمال يصنعون أقنعة طبية في بلانتيل عام 2005 (غيتي)
عمال يصنعون أقنعة طبية في بلانتيل عام 2005 (غيتي)
TT

كيف فقدت فرنسا أسلحتها أمام الوباء؟

عمال يصنعون أقنعة طبية في بلانتيل عام 2005 (غيتي)
عمال يصنعون أقنعة طبية في بلانتيل عام 2005 (غيتي)

عندما أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون مراراً «الحرب» على فيروس «كورونا» في مارس (آذار)، تعهد بأن توفر فرنسا الدعم إلى العاملين بمجال الصحة «في الصفوف الأمامية» بـ«الأدوات والحماية».
ومع ذلك، كانت الحقيقة أن فرنسا تقف دون دفاعات تقريبا. وتركت السياسات المتخبطة التي انتهجتها الحكومة تجاه موجات أوبئة سابقة، المخزون الوطني الضخم من أقنعة الوجه مستنفدا تقريباً. إضافة لذلك، وعهد المسؤولون مهمة تصنيع الكمامات إلى جهات إمداد بالخارج، رغم تنامي التحذيرات منذ مطلع الألفية الجديدة بخصوص ارتفاع مخاطر وقوع أوبئة عالمية.
وترك ذلك فرنسا، على عكس ألمانيا منافستها على قيادة أوروبا، معتمدة على مصانع أجنبية وعاجزة عن تعزيز قدرتها المحلية على إنتاج الأقنعة الواقية للوجه ومعدات الاختبار وأجهزة التنفس الصناعي، بل وحتى أجهزة قياس الحرارة وأدوية تخفيف أعراض الحمى التي لا تحتاج لوصفة طبيب لشرائها. اليوم، ومع شروع فرنسا في تخفيف أحد إجراءات الإغلاق الأكثر صرامة على مستوى العالم، تعيد البلاد النظر في تعويلها على سلاسل الإمداد العالمية منخفضة التكلفة وسريعة الإنتاج. وحتى هذه اللحظة، لا تملك فرنسا ضمانات على قدرتها تأمين قدر كاف من الإمدادات خلال الأسابيع المقبلة، لحماية مواطنيها من موجة ثانية من الفيروس.
في هذا الصدد، شرح لوي غوتييه، المدير السابق للأمانة العامة لشؤون الدفاع والأمن الوطني، وهي وحدة قوية داخل مكتب رئيس الوزراء تتولى تنسيق جهود الاستجابة للأزمات الكبرى، خلال مقابلة أجريت معه أنه: «في أوقات الأزمات، لم يعد باستطاعتنا الانتقال من منطقة إنتاجية إلى أخرى للحصول على المنتجات الأساسية لنا. اليوم، أصبح من الضروري إعادة النظر في مسألة المخزونات الاستراتيجية وتأمين الإمدادات. ويتعين إعادة ابتكار نموذج جديد».
جدير بالذكر أن فرنسا أقرت منذ فترة بعيدة أن الأقنعة الواقية أداة لا غنى عنها في جهود مواجهة أي وباء. ومع ذلك، توقفت الحكومة عن تخزين الأقنعة خلال العقد الماضي، لأسباب تتعلق بالميزانية. في الوقت ذاته، انهار الإنتاج الداخلي مع انتقال الصناعة الدوائية الفرنسية إلى الخارج.
في هذا الصدد، قال وزير الصحة أوليفييه فيران، أمام البرلمان في مارس إن فرنسا قرّرت أنه «لم يعد من الضروري الاحتفاظ بمخزونات ضخمة داخل البلاد، بالنظر إلى أن المصانع قادرة على العمل بسرعة كبيرة للغاية، خاصة في الصين»، إلا أن نطاق وسرعة تفشي فيروس «كورونا» شكلا تحدياً لهذا المنطق. وبينما لا تزال تترنح تحت وطأة تفشي الوباء داخل أراضيها، تلقّت الصين، أكبر دولة مصنعة لأقنعة حماية الوجه على مستوى العالم، عددا هائلا من طلبات الشراء. أما الهند، وهي واحدة من كبريات الدول المصدرة للأدوية، ففرضت حظراً مؤقتاً على صادراتها خوفاً من حدوث نقص لديها. ومع انهيار سلسلة الإمداد العالمية، خسر مسؤولو الصحة الفرنسية وقتاً ثميناً بينما تهافتت الحكومة الوطنية ـ وكذلك المدن ـ على شراء الإمدادات مباشرة من الصين وغيرها. ونظّمت الحكومة عمليات نقل جوي لأقنعة قادمة من الصين حظيت بتغطية إعلامية واسعة، الأمر الذي كشف النقاب عن يأسها واعتمادها الشديد على الخارج.
من جهته، قال ماكرون في خطاب ألقاه أخيرا: «سيتعين علينا إعادة بناء استقلال فرنسا الزراعي والصحي والصناعي والتكنولوجي»، ويرى الكثير من النقاد أن وقوف فرنسا دونما دفاع في وجه الفيروس جاء بمثابة نتيجة منطقية لعملية إفراغ القاعدة التصنيعية الفرنسية، في تحول أدى إلى تعميق التفاوتات وإثارة مظاهرات عنيفة، مثل تلك التي قادتها «حركة السترات الصفراء».
جدير بالذكر في هذا الصدد أنه في مطلع الألفية الجديدة، كانت ألمانيا متفوقة قليلاً على فرنسا في مجال تصنيع وتصدير معدات اختبار تفاعل «البوليمراز» المتسلسل، الأوسع نطاقاً اليوم من حيث الاستخدام في رصد الفيروس ومعدات العلاج بالأكسجين، تبعاً لما تكشفه بيانات صادرة عن الأمم المتحدة. إلا أنه بحلول عام 2018، كان لدى ألمانيا فائض تجاري بقيمة 1.4 مليار دولار فيما يخص أجهزة اختبار تفاعل البوليمراز المتسلسل، بينما واجهت فرنسا عجزاً بقيمة 89 مليون دولار.
وفي الوقت الذي تمكنت ألمانيا من تعبئة صناعتها بسرعة لمحاربة الوباء، أصيبت فرنسا بالشلل. ولم تتمكن فرنسا من إجراء اختبارات على نطاق واسع لافتقارها إلى مسّاحات القطن والكواشف، وهي عناصر منخفضة التكلفة لكنها محورية من حيث أهميتها وجرى تحويل إنتاجها إلى آسيا. في هذا الصدد قال فيليب أغيون، العالم الاقتصادي المدرّس في هارفارد: «تخلّت فرنسا عن تصنيع الكثير للغاية منذ بداية القرن ـ واليوم تدفع ثمن ذلك».
وفي دراسة لم تنشر بعد، توصل أغيون وخبراء اقتصاديون في جامعة بروكسل الحرة إلى أنه بوجه عام، سجّلت الدول التي تملك قدرة تصنيع معدات الاختبار والأدوات المتعلقة بها، مثل ألمانيا والنمسا، عدد وفيات بنسبة أقل أثناء فترة الوباء عن غيرها من الدول. أما فرنسا، فقد واجهت نقصا حتى في السلع الأساسية، ونفدت أجهزة قياس الحرارة من الصيدليات، وتراجعت إمدادات «باراسيتامول»، المسكّن شائع الاستخدام، على نحو خطير لدرجة أجبرت السلطات على فرض قيود على بيعه.
وكان آخر مصنع أوروبي ينتج هذا العقار في فرنسا، قرب مدينة ليون، لكنه أغلق أبوابه عام 2008، تبعاً لما ذكرته الأكاديمية الوطنية الفرنسية للصيدلة. وتحذر الأكاديمية من جانبها منذ فترة طويلة من اعتماد فرنسا المتنامي على شركات إنتاج أدوية أجنبية، مشيرة إلى أن ما بين 60 في المائة إلى 80 في المائة من المكونات الدوائية الفاعلة داخل أوروبا مستوردة من الخارج، مقارنة بـ20 في المائة فقط منذ ثلاثة عقود.
في هذا السياق، قالت ماري كريستين بيليفي، عضو الأكاديمية: «لم تبذل الحكومة أية جهود لوقف هذا الأمر».
وفي الواقع، جرى إطلاق تحذيرات لسنوات. ففي أعقاب تفشي وباء «سارس» في آسيا عام 2003، حلل مسؤولون فرنسيون المخاطر التي تواجهها البلاد عبر سلسلة من التقارير وبنوا مخزوناً وطنياً من أقنعة حماية الوجه ومعدات حمائية أخرى صنّعها موردون محليون، بما يتوافق مع التقليد المتوارث من عهد شارل ديغول القائم على الحفاظ على صناعة دفاعية محلية قوية تصدر أيضاً طائرات «رافال» مقاتلة وغواصات وكاسحات ألغام وفرقاطات إلى العالم.
وفي عام 2006، أوصت خطة حكومية لمواجهة الأوبئة بسلسلة من الإجراءات، منها بناء مخزونات من الأقنعة الواقية. وبعد عام، وقع وزير الصحة الفرنسي على عقد لمدة خمس سنوات لشراء 180 مليون قناع سنوياً، كان من المقرر أن تنتجها شركة «باكو دالوز»، أكبر مصنع للأقنعة في فرنسا آنذاك، داخل مصنع في بلينتل، على بعد 280 ميلاً من باريس. وتكشف تفاصيل العقد، الذي حصلت «ذي نيويورك تايمز» على نسخة منه عن التفكير الاستراتيجي للحكومة آنذاك. وأشار العقد إلى أن الاستعانة بمورد محلي سيعين فرنسا على تجنب «الاعتماد حصرياً على الواردات التي قد تتعرض لتعطيل حال تفشي وباء».
ونص العقد على تجديد الحكومة لمخزوناتها من الأقنعة، مع وصول المخزونات الأقدم لتاريخ انتهاء صلاحيتها، وحال تفشي وباء بمقدور الحكومة الاستحواذ على إنتاج المصنع.
من جانبه، قال جان جاك فوان، المدير السابق للمصنع، إن الحكومة أمرت بـ«احتكار كامل إنتاج مصنع بلينتل». وبحلول عام 2008، أصدرت الحكومة تقريراً يشير للمرة الأولى إلى الأوبئة باعتبارها تهديدا وطنيا محتملا، ووضعها في المرتبة الرابعة بعد الإرهاب والحروب السيبرانية والهجوم بصواريخ بالستية. وحذر التقرير من أنه: «في غضون 15 عاماً، يبدو تفشي الوباء أمراً ممكن الحدوث». وأضاف أن الوباء قد يكون فتاكاً ومعدياً بدرجة هائلة، وقد ينتشر في شكل موجات تمتد لأسابيع أو شهور.
ومع ذلك، سرعان ما شرع سياسيون في انتقاد سياسات تخزين أقنعة للوجه والأدوية باعتبارها إهداراً للأموال. وبعد إنفاق حوالي 383 مليون يورو عام 2009 على شراء 44 مليون جرعة مصل ضد إنفلونزا «إتش1 إن1»، اشتعلت فضيحة سياسية بعدما جرى تطعيم أقل عن 9 في المائة فقط من أبناء الشعب الفرنسي.
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

صحتك «كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

«كوفيد طويل الأمد»: حوار طبي حول أحدث التطورات

يؤثر على 6 : 11 % من المرضى

ماثيو سولان (كمبردج (ولاية ماساشوستس الأميركية))
صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا الطبيب البريطاني توماس كوان (رويترز)

سجن طبيب بريطاني 31 عاماً لمحاولته قتل صديق والدته بلقاح كوفيد مزيف

حكم على طبيب بريطاني بالسجن لأكثر من 31 عاماً بتهمة التخطيط لقتل صديق والدته بلقاح مزيف لكوفيد - 19.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد السعودية تصدرت قائمة دول «العشرين» في أعداد الزوار الدوليين بـ 73 % (واس)

السعودية الـ12 عالمياً في إنفاق السياح الدوليين

واصلت السعودية ريادتها العالمية بقطاع السياحة؛ إذ صعدت 15 مركزاً ضمن ترتيب الدول في إنفاق السيّاح الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

رئيسة «الجنائية الدولية» تنتقد أميركا وروسيا بسبب التهديدات الموجّهة للمحكمة

خارج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا 26 يونيو 2024 (أ.ب)
خارج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا 26 يونيو 2024 (أ.ب)
TT

رئيسة «الجنائية الدولية» تنتقد أميركا وروسيا بسبب التهديدات الموجّهة للمحكمة

خارج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا 26 يونيو 2024 (أ.ب)
خارج المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بهولندا 26 يونيو 2024 (أ.ب)

انتقدت رئيسة المحكمة الجنائية الدولية، الولايات المتحدة وروسيا، بسبب تدخلهما في تحقيقات المحكمة، ووصفت التهديدات والهجمات على المحكمة بأنها «مروعة».

وقالت القاضية توموكو أكاني، في كلمتها أمام الاجتماع السنوي للمحكمة الذي بدأ اليوم (الاثنين)، إن «المحكمة تتعرض لتهديدات بعقوبات اقتصادية ضخمة من جانب عضو دائم آخر في مجلس الأمن، كما لو كانت منظمة إرهابية»، وفق وكالة «أسوشييتد برس».

وأضافت: «إذا انهارت المحكمة، فإنّ هذا يعني حتماً انهيار كلّ المواقف والقضايا... والخطر على المحكمة وجودي».

وكانت أكاني تشير إلى تصريحات أدلى بها السيناتور الأميركي، ليندسي غراهام، الذي سيسيطر حزبه الجمهوري على مجلسي الكونغرس الأميركي في يناير (كانون الثاني) المقبل، والذي وصف المحكمة بأنها «مزحة خطيرة»، وحض الكونغرس على معاقبة المدعي العام للمحكمة.

القاضية توموكو أكاني رئيسة المحكمة الجنائية الدولية (موقع المحكمة)

وقال غراهام لقناة «فوكس نيوز» الأميركية: «أقول لأي دولة حليفة، سواء كانت كندا أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا: إذا حاولت مساعدة المحكمة الجنائية الدولية، فسوف نفرض ضدك عقوبات».

وما أثار غضب غراهام إعلان المحكمة الجنائية الدولية الشهر الماضي، أن قضاة المحكمة وافقوا على طلب من المدعي العام للمحكمة كريم خان بإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق، والقائد العسكري لحركة «حماس» بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية فيما يتصل بالحرب المستمرة منذ ما يقرب من 14 شهراً في غزة.

وقوبل هذا القرار بإدانة شديدة من جانب منتقدي المحكمة، ولم يحظَ إلا بتأييد فاتر من جانب كثير من مؤيديها، في تناقض صارخ مع الدعم القوي الذي حظيت به مذكرة اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العام الماضي، على خلفية تهم بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.

كما وجهت أكاني، اليوم (الاثنين)، أيضاً انتقادات لاذعة لروسيا، قائلة: «يخضع كثير من المسؤولين المنتخبين لمذكرات توقيف من عضو دائم في مجلس الأمن».

وكانت موسكو قد أصدرت مذكرات توقيف بحق كريم خان المدعي العام للمحكمة وآخرين، رداً على التحقيق في ارتكاب بوتين جرائم حرب بأوكرانيا.