الكتابة... أو الموت

الكتابة... أو الموت
TT
20

الكتابة... أو الموت

الكتابة... أو الموت

في التحقيق الذي ننشره هنا، يتحدث عدد من الكتاب العرب عن تجاربهم الخاصة، وهذه المرة في مواجهة الانتحار، أو بكلمة أدق فكرة الانتحار، التي قد تراود كثيراً من الكتاب في فترة ما لعوامل متباينة. ولحسن الحظ، إن الكتاب المنتحرين في تاريخنا الأدبي قليلون جداً، لأسباب كثيرة، وربما يكون العاملان الديني والاجتماعي في مقدمتها، فالانتحار فعل حرام، قد يجر على عائلة المنتحر تبعات عائلية واجتماعية كثيرة. وربما يكون «المختفون» الذين كتبنا عنهم سابقاً أكثر عدداً، وهو انتحار بشكل مختلف... انتحار أدبي، خفيف الوقع دينياً واجتماعياً أكثر من فعل التصفية الجسدية برصاصة واحدة، أو حبل مشنقة.
لكن تاريخ الأدب العالمي مليء بالكتاب المنتحرين، ولأسباب متباينة أيضاً، ومتداخلة مع بعضها البعض. وفي أمثلة كثيرة، وعلى الأقل من الظاهر، كان العجز عن الكتابة أحدها، أو لم تسفعهم الكتابة كبديل عن فعل الانتحار، كما فعلت مع الكتاب المشاركين في هذا التحقيق، لحسن الحظ.
ويبقى الانتحار، بكل أشكاله، ليس سوى تعبير عن عجز الإنسان عن تحقيق ذاته، كما يريدها أن تكون.
انتحر أرنست همنغواي برصاصة في رأسه، الذي كان قد تكلل بغار «نوبل»، وهو في الثانية والستين، لأنه عجز عن الكتابة. لم يعد يستطيع أن يكتب، بالرغم من أنه قد أوصانا بألا نكتب إذا استطعنا أن نفعل ذلك، وقبله نصح ريلكه الشعراء ألا يكتبوا إلا إذا شعروا أنهم سيموتون إذا لم يفعلوا. وليت معظم الشعراء أخذوا بنصيحته، خصوصاً نحن الشعراء العرب.
وكانت الكتابة للإيطالي تشيزاري بافيزي لبافيزي وسيلته الوحيدة لدفع شبح الانتحار، كما يقول الناقد الأميركي جون تايلور. لكنه انتحر أخيراً وهو في الثانية والأربعين. ولا نعتقد أنه انتحر لأنه لم يعد يستطيع أن يكتب، بل فعل ذلك لأنه لم يعد يستطيع أن يكتب كما يريد أن يكتب: بالطريقة التي كتب بها هوميروس ودانتي وشكسبير.
ولم يكن اللبناني خليل حاوي، المسكون بالرموز الأسطورية والثقافية، بعيداً، جوهرياً، عن دوافع بافيزي. أتخيله أنه، بعد الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، كان يطرح على نفسه يومياً الأسئلة نفسها: كيف أستطيع أن أكتب ما يوازي مأساة هذا الغزو لبلدي... كتابة ترتفع لمستوى الملحمة؟ وكيف يمكن أن تقل عن هذا المستوى أمام حدث هائل لا يقل تراجيدية عن التراجيديات الإغريقية؟ كتب كثيرون عن اجتياح بيروت قصائد مضت كالزبد. كان حاوي، كما نعتقد، بناء على كتاباته السابقة وشخصيته واحتداماته مع نفسه وواقعه، يريد شيئاً آخر... كتابة أخرى. هل كان تحقيق مثل هذه الكتابة سيعوض حاوي عن فعل الانتحار؟ يبقى سؤالاً افتراضياً.
أسئلة الكمال في الكتابة هي دائماً أسئلة الكبار من الكتاب، أسئلة عذبت هولدرين حتى قضى حوالي ثلاثين سنة في مستشفى المجانين. غاب بطريقته الخاصة. وهي الأسئلة نفسها التي قادت رامبو للهروب من الشعر إلى تجارة الأسلحة في اليمن. انتحر على طريقته الرامباوية.
مثال فرجينيا وولف لا يختلف كثيراً عن ذلك. لقد غرفت من الحياة كل ما تستطيع، لكن بقيت أسئلة الكتابة، و«غرفة لوحدها»، هاجسها الوحيد. وحين عجزت عن ذلك، اتجهت إلى مياه نهر التيمز، حيث يطل بيتها، واختفت إلى الأبد.
ومن سيرة سيلفيا بلاث، وقبل خيانات زوجها الشاعر تيد هيوز، الذي اتهم بأنه السبب وراء انتحارها، نعرف موجات الكآبة التي كانت تجتاحها، لأنها لا تستطيع أن تكتب. قال لها مرة هيوز: هل ترين تلك الشجرة في حديقة البيت؟ حدقي فيها جيداً... واكتبي! لم تستطع. كانت تريد أن تكتب عن شجرة الكون الكبرى. وجاء الانتحار المدوي... في فرن الغاز!
كل الحجج الأخرى التي وراء انتحار الكتاب الحقيقيين تبقى أعواد ثقاب. إما الكتابة الكبرى... أو الموت.



لوحة في البيت

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان
TT
20

لوحة في البيت

من أعمال الفنان
من أعمال الفنان

يعبث الرسّام بالخطوط، يمزج الألوان، يفردها، يسرح في الخيال، وفي الوقت نفسه يحضر إلى ذهنه الواقعُ بصورته المعتمة. لكن الفنان حرّ في اختياره المكانَ الذي يريد أن يقضي فيه يومه الفاني. ها هو يهجر الواقع لأنه يريد أن يتنفس، ويتلاشى عنده الواقع في الخيال كالماء في الخمر، وعندما يكتشف الجَمال الثرّ في الكون، يهبَه لنا دون مقابل حقيقيّ؛ لأن المال الذي ندفعه ثمناً للّوحة، لا يفي حقّ كثافة الحياة فيها.

أتأمل لوحة لكريم سعدون، وأفكّر في الزّوجين النّمساويين، السّعيدَين حتماً؛ لأنهما اقتنياها من معرض أقامه الفنان في فيينا هذا العام، كي تزيّن صالة المعيشة. هل اختلف ضياء الشّمس، في اليوم الذي دخلت فيه اللّوحة منزل العاشقَين، وهل تغيّر بالتالي في الليل نور القمر؟ إنها طبيعة جديدة أُضيفت إلى طابع الحياة في المنزل، فهو في سبيله إلى الانتقال من حال إلى حال.

تظهر في اللّوحة تقنيات جديدة وغريبة استعملها كريم سعدون، الرسام العراقي الذي يريد أن يبتكر طريقة جديدة، محمّلة بما في بلاده من خبرات قديمة وحديثة في الفن التشكيلي. «والصنعة التي تُبدع الشبيه» الشعر للرسام والشاعر والمعماري ويليام موريس (1876)، يشرح السبيل أو الإجراء الذي يتمكن الرسّام بواسطته أن يُصبح ناسخاً للوجود. المخلوق الذي يظهر في اللّوحة ليس كائناً من فضاء آخر، بل هو إنساننا المعاصر، أو هيئته التي يظهر بها أمام الناس، وأمام نفسه أيضاً. هناك مواضيعُ أو مهامُّ في طريقنا باهتة جداً، يكون التعبير عنها بواسطة الخطوط والفراغات، ومنها ما هو مفروش بالألوان الحارة التي تُعطي حياتنا، رغم هشاشتها ولا جدواها، فسحة من الأمل في أن يكون موضوع الجمال عزاءً فريداً لجدب الواقع.

جدير بالذكر، أن العشيقَين النمساويين يعملان رسّامَين، سحرتهما ألوان اللّوحة التي تُشيع الدفء، وسط صقيع من فوضى العيش صنعته الآلة في بلاد الغرب، وأنزلت لنا من سمائها غير الرّحيمة أصباغاً نراها حولنا في كلّ مكان، ونخالها طبيعيّة، وبالتالي صارت أبداننا ووجوهنا لا تعبّر عنا، مثلما كلّ شيء في البيئة التي نعيش فيها ليس حقيقياً، ومخلوقاً بواسطة القوى الخفيّة التي تتحكّم في مصيرنا.

كريم سعدون
كريم سعدون

في الماضي كانت تحفُ الفنّ والطبيعة مكنوزة لدى الملوك والأباطرة، واليوم صارت متاحة للجمهور الذي يحضر معارض الفنّ، كما أن لكلّ منّا الحقَّ في اقتنائها، مقابل لا شيء تقريباً. إننا نسرق الرّسّام والنّحّات والموسيقيّ في كلّ عمليّة تبادل تجري بيننا في السوق، والرابح الأكبر هو الجمهور والطبيعة، الأول لأنه زيّن بيته ومكتبه بأفانين الحُسن التي لا تُخمّن، والطبيعة لأنها اتّسعت وصارتْ أكثر غِنًى. دون أن يوصَفَ عملُه باللّعب الفني الزائف، بإمكان الفنّان أن يحوّل كلّ شيء يلمسه عملاً فنياً، وبهذه الطريقة يقوم بإكثار ما في الطبيعة من حيوات، ويجمع ما قام به في صرح ندعوه معرضاً فنيّاً، يحتاج زائره قبل كلّ شيء إلى نفاذَ البصيرة وحبّ المعرفة، بالإضافة إلى الطلب الحثيث على الجَمال الجديد المُكتَشف.

الإنسان الرقمي

لوحة أخرى هي من مقتنياتي، معلّقة في فسحة حرصتُ على أن يمرّ بها أهل بيتي مرّات في اليوم، وكانت محاولة منّي لخلق جسر من التواصل بين داخل البيت وخارجه. الفرشاة الملوّنة تُرغم العين على مشاهدتها؛ لأنها بديلة عن الشجرة والريح والفضاء الذي يسبحان فيه. تراكم للحواسّ يُجيد الرسّام جمعه من الطبيعة ومن ذاته وثقافته، مع إرث أسلافه الذي لا نعرف شيئاً عنه، والمجهول بالنسبة إلى الفنان أيضاً. وكي يجعل الأمر واقعياً؛ أعطى الفنان مساحة مساوية للعالم الرقميّ الذي نعيش فيه. يظهر العدد 20 وسط اللوحة تِعلّةً سعيدة في يوم حافل بالأشغال والمعنى. العدد الذي يحمله كلّ منّا في جوازه أو هاتفه، وفي بطاقته البنكية وغير ذلك، هو ليس تسلسلاً من أرقام مجرّدة، عمياء وخالية من المحتوى، إنه «العلامة الأكثر وضوحاً، والأكثر تحدّياً لتطوّرنا: إنها القدرة على التواصل، وفهم بعضنا بعضاً، والقدرة على التّعبير بلغتنا وفكّ رموزها، والقدرة على العيش»، بتعبير النّاقد الإسباني ثيسار مولينا. القرب من عالم الأرقام والأعداد في حياتنا يشبه البعد. إنها حاضرة بجبروتها، حيث يظهر الزّمن فيها، وقد تخثّر سحرياً، وخُزّن. فالإنسان في العصر الحديث عبارة عن (كائن رقميّ)، والعدد 20 في اللّوحة يمثّل في حياتنا ما هو مشتت ومبتذل، وما هو تافه ولا قيمة له، ويعني أيضاً الجميل والبليغ والكامل. وتجتمع فيه، وفق هذا المعنى، التناقضات المعروفة في حياة الإنسان؛ كالتعب والراحة، والحبّ والحرب، والحياة والموت... هناك ألف شاشة وشاشة تُظهر الأرقام في عالمنا، زاهية (بواسطة الفرشاة) وملمّعة، وتنقل إلى الكائن الرقمي طبيعتها الوامضة، المترددة بين الرسوخ والزوال، وبين الخلود والفناء... الوجود الذي يضمّنا يُوثَّق بالعدد أيضاً، لا بغيره. هل نقول إنه بات دين الإنسان في العصر الحديث، في عالم التكنولوجيا والحروب بواسطة المسيَّرات والذكاء الاصطناعي؟ ومثلما تقوم الطبيعة في كلّ ساعة بإنتاج حشرات وحيوانات ونباتات جديدة، ويتفنّن صانعها - أي بارئها بلغة الدين - في خلقه المستحدَث، يراكم الفنّان التشكيلي من عطاياه الشيء فوق الشيء، والمهمّة بعد الأخرى، ويأتينا بكائنات جديدة، لكن من قام بصنعها هو بشر مثلنا وأمام أعين الجميع، ودون حسّ أسطوريّ أو تفسير ميتافيزيقيّ أو غير عقلانيّ. ليس ثمة خوارق في مختبر الفنان، فهو يقوم بعمله بواسطة موادَّ أولّيةٍ متاحةٍ للجميع. التّجديد في الفنّ هو الالتزام الوحيد الذي يتفانى الكادحون في دنياه في سبيل تحقيقه، وليس ثمّة أصالةٌ وانتماءٌ إلى الحاضر لا يمرّان عبر هذا الرّاووق معقّد التّكوين؛ لأن مبدأ الإبداع الوحيد هو الإضافة وليس التّراكم، وهذا الأخير يذكّرنا بمخزن تُجمع فيه السّلع التّالفة التي خرجت عن الخدمة. هنالك قاعات في الفنّ التّشكيلي، (ومكتبات أيضاً!) تشبه المخزن، فيه كلّ عتيق وما صار خارج الخدمة. يقول الشّاعر اليوناني جورج سيفيريس: «كلّما قلّت العيون قلّ ما تبصره، ولهذا القانون الهندسي تخضع الحواسّ الأخرى الأربع».

«(أنا) بحجم ما أراه... لا بحجم قامتي»

بيسوا