متحف «القرارة» في غزة... مزار تراثي شاهد على تاريخ القطاع

زاوية في المتحف تضم قطعاً نحاسية (الشرق الأوسط)
زاوية في المتحف تضم قطعاً نحاسية (الشرق الأوسط)
TT

متحف «القرارة» في غزة... مزار تراثي شاهد على تاريخ القطاع

زاوية في المتحف تضم قطعاً نحاسية (الشرق الأوسط)
زاوية في المتحف تضم قطعاً نحاسية (الشرق الأوسط)

«جولة واحدة داخل المتحف، أتفقد خلالها القطع الأثرية والتّراثية، وأمسح الغبار عنها، تكفي لصناعة يومي، وتغمسه بتفاصيل السعادة والجمال»، بهذه الكلمات عبّر الفنان التشكيلي محمد أبو لحية (30 سنة)، عن الحال التي تسيطر عليه خلال تفقده اليومي متحف «القرارة» الثقافي الواقع في منطقة جنوب قطاع غزة، والذي عكف على إقامته مع زملائه، قبل نحو 4 سنوات، وصار اليوم بمثابة مزار تراثي، يقصده الناس من كل مكان.
وجمع أبو لحية برفقة أصدقائه على مدار السنوات، 3500 قطعة أثرية وتراثية، يعود تاريخها لمئات الأعوام الماضية، تشرح حضارات مختلفة، مرّت على الشّعب الفلسطيني بفترات حكم متعدّدة، وتدلل على الهوية العربية، التي اصطبغت بها الأرض ومعداتها وأهلها.
ويقول في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «التّراث الوطني بشكلٍ عام، يعدّ بالنسبة للشعوب من أهم الأشياء التي يجب الحفاظ عليها، والتّمسك بكلّ التفاصيل المتعلقة بها، كونها ترتبط بشكلٍ وثيق بالوجود والأحقية في الأرض»، موضحاً أنّ إنشاء المتحف جاء بمبادرة ذاتية منهم، بصفتهم فنانين تشكيليين، وذلك لوعيهم بأهمية تلك الأثرية، ولإدراكهم ضرورة الحفاظ عليها، لا سيما في ظلّ إهمال بائن من الجهات الرسمية.
وقسّم أبو لحية وزملاؤه المتحف إلى مجموعة أقسام؛ أولها القسم الذي يضم القطع النحاسية والخشبية، وبعض المعدات الحديدية، وعلى رفوفه تتناثر أدوات الطبخ والمنزل القديمة، وفي زاوية أخرى تصطف مجموعة من الأدوات الحادة والخناجر، كما أنّ هناك مكاناً مخصّصاً للمعدات التي كان يستعملها الفلاحون في الأرض، والبائعون في تجارتهم، إضافة لمجموعة من أجهزة الراديو والتلفزيون والكاميرات القديمة التي يعود عمرها لعشرات السنين. كما خصّص خزانة خشبية لأدوات الزينة التي كانت تستعملها النساء الفلسطينيات قبل النكبة؛ إذ احتوت على المكاحل النحاسية، والبراقع التي كانت تستخدم من النساء البدويات قناعاً للوجه. وكذلك يلفت النّاظرين الذين يزورن المتحف باستمرار، وجود بعض السلاسل التي تضم قطعاً معدنية وفضية، والتي كانت تستعمل من قبل الفلاحات قديماً، في الزينة وصناعة الأقراط.
ويلفت خلال حديثه إلى أنّ وجود تلك المعدات، يدلّل على تنوع الحياة الفلسطينية القديمة، ويشير إلى أّنّ السكان كانوا يهتمون بكلّ تفاصيل عيشهم، ويقبلون على توفير كلّ احتياجاته، منوهاً بأنّ جمع كل تلك القطع كان بفضل جهد الفريق الكبير، وقد تضمّن عملاً باتجاهين؛ الأول هو زيارة كبار السن لجلب ما لديهم من معدات ما زالوا يحتفظون بها؛ والثاني تضمّن البحث في الأماكن الأثرية الموجودة داخل قطاع غزة، حيث جُمعت الحجارة والقطع النقدية... وغيرها.
وفي القسم الثاني من المتحف، تحتوي مجموعة من الصناديق الزجاجية على عينات مختلفة من صخور ذات ألوان جذابة، وكذلك على قطع نقدية فضية معدنية، تحمل شعارات وصوراً، يقول أبو لحية إنّها ترمز لعدد من العصور، التي تعاقب عليها شعب فلسطين العربي، منبهاً إلى أنّ كل ما جمعه من قطع مقيّد في سجلات رسمية لدى الجهات الحكومية معرفة بها، لكنّها لم تقدم له أي دعمٍ مناسب حتّى هذا الوقت.
والمتحف بمثابة مزار، ينجذب إليه أهل مناطق جنوب قطاع غزة، ويفتح بابه أمام رحلات المدارس والأطفال، فهناك زاوية مخصصة لاستقبالهم، ولإلقاء المحاضرات التاريخية التي تعرفهم بالتّراث الفلسطيني، كما يمنحهم فرصة التّجول في أرجائه لمشاهدة القطع التراثية عن قرب.
وضمن الساحة الخارجية للمتحف، تقع مجموعة من الصخور الكبيرة، التي يعود تاريخها لمئات السنين، وقد عمل أبو لحية وزملاؤه على نقلها إلى أرض المتحف، ومع الوقت رمموا ما كان بحاجة لترميم منها، لتبقى شاهدة على الحضارة والتاريخ. وتضم الساحة أيضاً منطقة «المقعد العربي»، الذي تتزين جدرانه بالأثواب القماشية النسائية والرجالية التقليدية، إضافة لصبّابات القهوة والمفارش العربية.
وفي نهاية كلامه، يشير أبو لحية إلى أنّه يحلم بتحويل المتحف، الذي يقع مقره فوق «بايكة حبوب» أثرية، إلى هيئة وطنية عامة، يزورها الناس من داخل المنطقة وخارجها، منبهاً إلى وجود عدد من الصعوبات التي تواجههم خلال العمل، أهمها غياب الدّاعم الأساسي، ففي كثير من الأحيان، يكون الفريق غير قادر على توفير أجرة المكان المُقام على أرضه «المتحف».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».