عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

المحامية المثيرة للجدل دافعت عن بن علي... فازدادت شعبيتها

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»
TT

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

عبير موسي... «البورقيبية» المعارضة في مواجهة «إخوان تونس»

وقفت المحامية الشابة عبير موسي مطلع شهر مارس (آذار) 2011 أمام محكمة نظرت في قضية حل حزب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي «التجمع الدستوري الديمقراطي». يومذاك، لم يتوقع أحد أن تزداد شعبيتها بمرور السنوات تقديراً «لوفائها» لحزبها ولرئيس النظام المنهار، بينما تبرأ فيه معظم كبار المسؤولين السابقين منهما. وفي المقابل، تعرّضت موسي إلى حملة إعلامية غير مسبوقة، وتوقع كثيرون من المراقبين «موتها سياسياً». واتهمها بعض زملائها المحامين اليساريين والإسلاميين أمام المحاكم بالاعتداء عليهم بالعنف المادي عبر «الغاز المخدّر»، وبالدفاع عن «منظومة الفساد والاستبداد التي ثار ضدها الشعب» أواخر 2010 ومطلع 2011. لكن، أخيراً، ساهم إعلان وزارة الداخلية عن إدراج «تنظيمات إرهابية» اسم عبير موسي ضمن قائمة السياسيين المرشحين للاغتيال في زيادة شعبيتها وتعاطف كثيرين معها وسط مخاوف البعض من انزلاق مجدداً تونس باتجاه الاهتزازات الأمنية.

في المرحلة التي تلت سقوط حكم الرئيس التونسي الأسبق زبن العابدين بن علي لم يتوقع أحد أن تصبح محامية وسياسية من الصف الثاني زعيمة بارزة من زعماء المعارضة عام 2020، وحقاً هذا ما حصل مع عبير موسي التي حصلت على 4 في المائة (أي 135 ألف صوت) فقط من أصوات الناخبين في الدور الأول للانتخابات الرئاسية التي نظمت يوم 15 سبتمبر (أيلول) 2019.
ما الذي تغير، ومكّن هذه السياسية المشهد السياسي والبرلماني لتغدو «العدو الأول» لرفاقها القدامى، ثم لحزب «حركة النهضة» وتيار «الإسلام السياسي» وحلفائه اليساريين والليبيراليين، ومن ثم للرئيسين قيس سعيّد والياس الفخفاخ، اللذين رفضت مراراً دعوات وجهاها لها للحوار معها في قصري الرئاسة؟
الوزير محمد الغرياني، آخر أمين عام للحزب الحاكم في عهد بن علي، قلل في تصريح لـ«الشرق الأوسط» من «زعامة» عبير موسي ومن رصيدها السياسي. وأورد أنها «لم تكن أبداً عضواً في القيادة المركزية للحزب الحاكم»، بل عينت في يناير (كانون الثاني) 2009 موظفة برتبة «أمينة قارة»، أي مساعدة للأمين العام مكلفة شؤون المرأة، وهذا، بعد تجربة سياسية وحزبية قصيرة «في الصف الثاني لخلية المحامين» المنتمين للحزب، وتجربة إدارية «متواضعة» في إحدى بلديات أحياء العاصمة تونس، وكذلك في جمعية نسائية كانت تدعم بقوة ليلى الطرابلسي حرم الرئيس الراحل بن علي.

- انتقادات... وكاريزما
أيضاً صدرت تصريحات عنيفة ضد موسي عن قياديين سابقين في الدولة والحزب الحاكم، بينهم وزير الخارجية والدفاع الأسبق وزعيم حزب «المبادرة الدستورية» كمال مرجان، ناهيك من الرئيس السابق الباجي قائد السبسي والمقرّبين منه في حزب «نداء تونس».
إلا أن موسي تحدّت كل «القيادات التاريخية لحزب بورقيبة وبن علي» وكل رؤسائها السابقين، واتهمتهم بـ«التخاذل» و«التواطؤ مع الإخوان الانقلابيين» في يناير 2011 «بدعم من دول غربية وعربية». ورفضت دعوات قائد السبسي للالتحاق مع أنصارها بحزبه قائلة: «لن أترك بيتي وأذهب إلى بيت الجيران».
تصريحات عبير موسي، التي وصفها معظم الساسة والإعلاميين لسنوات بـ«الاستفزازية»، تراكمت. ثم راجت في المواقع الاجتماعية، وساهمت في التسويق لشخصية كاريزماتية قيادية جديدة، ولسياسية طموحة فتحت معارك مع «الكبار» فنجحت في مشاكسة كل خصومها ومعارضيها داخل الحزب الحاكم قبل 2011 ومعارضيه السابقين، وبالأخص، قيادات «النهضة» و«الإخوان» ومن تصفهم بـ«المتخاذلين» الليبيراليين واليساريين المتحالفين معهم..

- البديل الوحيد»؟
وبعدما كشفت انتخابات أكتوبر (تشرين الأول) الماضي اختلال التوازن داخل المشهد السياسي والحزبي في تونس لصالح التيارات الليبيرالية والإسلامية المحافظة وهزيمة مرشحي «العلمانيين» و«الحداثيين» تغيّر الوضع. إذ بدأت أطراف سياسية وإعلامية وجمعيات نسائية كثيرة تقترب من موسي وتعتبرها «زعيمة صاعدة» و«البديل الوحيد عن الإخوان وأحزاب الإسلام السياسي وحلفائهم»، حسب تقدير الباحث في علماء الاجتماع والإعلامي المنذر بالضيافي في تصريح لـ«الشرق الأوسط».
وفي المقابل، رجّح الباحثان في علم الاجتماع السياسي نور الدين العلوي والحبيب بوعجيلة في لقاءين مع «الشرق الأوسط»، وجود «دعم من لوبيات محلية ودولية لعبير موسي؛ لأنها معادية للثورات العربية ولمسار الانتقالي الديمقراطي في تونس. لذا؛ تقرر تضخيم دورها ودفعها إلى الواجهة كي تتزعم المعارضة».
في هذه الأثناء، التحق بمساندي موسي في معاركها البرلمانية مع قيادات «النهضة» والكتل البرلمانية المتحالفة معها بعض مشاهير الجامعيين والإعلاميين اليساريين والليبيراليين مثل سلوى الشرفي، مديرة معهد الصحافة والإعلام السابقة، والشاعرة الليبيرالية آمال مختار، والكاتب والمدير العام للإذاعة والتلفزة الوطنية سابقا عبد العزيز قاسم، وأستاذ الفلسفة والكاتب حمادي بن جاء بالله.

- «زعيمة وطنية»...
من جانبه، اعتبر المنصف البركوس، القيادي السابق في نقابات الصناعيين والتجار والسياسي المخضرم، في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «عبير موسي نجحت في أن تصبح زعيمة سياسية وطنية بعد وفاة الباجي قائد السبسي وانهيار حزبه وفشل تلامذته في خلافته، بمن فيهم رئيس الحكومة السابق يوسف الشاهد، ووزير الدفاع السابق عبد الكريم الزبيدي، والوزير السابق محسن مرزوق، والوزير المستشار السابق ناجي جلول.»... ورأى البركوس، أن «أنصار عبير موسي اليوم تزايدوا فبات عددهم أكبر بكثير من أقلية تعلن وفاءها لسياسات الزعيم الحبيب بورقيبة والرئيس زين العابدين بن علي ما بين 1956 و2010».

- ... أم «ظاهرة صوتية»
لكن موسي تظل بالنسبة لنفر من الإعلاميين والسياسيين «ظاهرة صوتية» و«سياسية مشبوهة» تؤدي «دوراً وظيفياً لصالح دول معادية للانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي والاقتصادي في تونس»، على حد تعبير عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري المعارض والناشط الحقوقي البارز قبل 2011. وكان الشابي قد وجه أخيراً في بيان رسمي باسم حزبه انتقادات حادة لموسي، وشكك في وطنيتها، وقلل من جدية الحديث عن دور سياسي وطني يمكن أن تلعبه على رأس المعارضة. وادعى أن غالبية القياديين في حزبها «شخصيات نكرة» ما عدا عضو البرلمان السابق ثامر سعد.
وفي السياق نفسه، قلل المثقف اليساري والمستشار السابق في الرئاسة التونسية ناجي جلول لـ«الشرق الأوسط» من فرص نجاح تزعم عبير موسي للمعارضة التونسية، واعتبر أن «نتائجها في الانتخابات البلدية والرئاسية والبرلمانية الماضية تؤكد أن حجمها سيتراوح في أي انتخابات جديدة بين 4 و10 في المائة فقط؛ لأن الشباب والجيل الجديد من الجنسين لا يبالون كثيراً بالمعارك السياسية الآيديولوجية الموروثة بين بورقيبة وبن علي وقيادات الإخوان المسلمين واليسار الماركسي».

- ألغاز... وتساؤلات
من ناحية أخرى، بينما يثير الكثير من المراقبين السياسيين والإعلاميين في وسائل الإعلام نقاط استفهام حول «الجهات التي تقف وراء عبير موسي» محلياً وإقليمياً ودولياً، يلاحظ آخرون أنها بدأت تكسب فعلاً مساندة مالية وإعلامية وسياسية من بعض رجال الأعمال وأوساط مؤثرة في صنع القرار الوطني، الذين دأبوا على زيارة مكتبها والتحاور معها. ثم إن موسي التي ولدت وتنتمي إلى منطقة الساحل التونسي، موطن الرئيسين بورقيبة وبن علي، ابنة عائلة ضباط في الأمن، فوالدها أمني سابق وزوجها عقيد في وزارة الداخلية حالياً. ولقد ساهم إعلان وزارة الداخلية أخيراً عن إدراج «تنظيمات إرهابية» اسم موسي ضمن قائمة السياسيين المرشحين للاغتيال في زيادة شعبيتها. وحقاً، توالت بيانات التضامن مع موسي مع التحذير من «سيناريو» دفع تونس نحو مسلسل من الاغتيالات السياسية على غرار ما حصل في 2013. وانخرط في إصدار مثل هذه البيانات رئيس البرلمان راشد الغنوشي ورؤساء الأحزاب المشاركة في الحكم ومسؤولون كبار في الدولة وفي الحزب الحاكم قبل يناير 2011، مثل الوزراء البشير التكاري، وأحمد عياض الودرني، والصادق شعبان.
هكذا تغيّر المناخ السياسي لصالح عبير موسي تدريجياً داخل الطبقة السياسية الحاكمة السابقة، ولم تعد «معزولة» مثلما كان عليه وضعها مطلع 2011، عندما انسحب معظم رموز الدولة والحزب الحاكم السابق من المشهد السياسي. ومن ثم، اتهموها بـ«المراهقة السياسية» عندما قررت الوقوف «ضد التيار»، وخوض صراع مع «الثوريين»، والترافع - وهي محامية في الـ35 من العمر - أمام المحاكم ضد «الحكام الجدد الذين انقلبوا على حكم بن علي» وضد من تحالف معهم من رموز النظام السابق بزعامة الرئيسين الباجي قائد السبسي، وفؤاد المبزّع، ورئيس الحكومة الانتقالية الأولى محمد الغنوشي.
نعم، عاد تيار من «الطبقة السياسية الحاكمة السابقة» لدعم عبير موسي بعد سنوات من تجاهلها وإهمالها والتشكيك في نجاعة تحركاتها ضد من وصفتهم بـ«الانقلابيين» وشككت في «ثوريتهم» ووطنيتهم، بما في ذلك القيادات السابقة للمعارضة التي فازت أحزابها في انتخابات «أكتوبر2011» بزعامة المنصف المرزوقي، ومصطفى بن جعفر، وراشد الغنوشي، وأحمد نجيب الشابي، وغيره من قيادات اليسار الماركسي والقوميين.

- الإنصاف والمصالحة الوطنية
غير أن المسار السياسي لعبير موسي، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، يبدو رهين أوراق عديدة تتجاوز معاركها مع «الانقلابيين» و«الإخوان» و«الثورجيين»، من بينها «سيناريوهات» تطور مسار العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة الوطنية.
لقد تصدّرت عبير موسي منذ بضع سنوات قائمة الشخصيات الذين انتقدت بحدّه الزعيمة الحقوقية اليسارية سهام بن سدرين، رئيسة «هيئة الحقيقة والكرامة» التي كلفت بالتحقيق في ملفات العدالة الانتقالية والإنصاف والمصالحة ما بين 2014 و2019. وينتقد مسؤولون سابقون في حزب قائد السبسي، مثل الوزير الأسبق عبد العزيز العاشوري، موسي... ويتهمونها بتعطيل مسار المصالحة بين رموز الدولة ورجال الأعمال قبل ثورة 2011 وبعدها، وهو ما أدى في نظرهم إلى تمديد مسلسل المحاكمات بينهم.
وللعلم، تسبب مسار المصالحة، الذي تبنّاه البرلمان السابق وزعيما الحزبين الكبيرين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي، في إعادة إحالة مئات من الوزراء وكبار الموظفين في الدولة على المحاكم التي كلفتها هيئة «الإنصاف والمصالحة»، بقيادة بن سدرين، بإعادة محاكمة «رموز النظام السابق» بتهم التعذيب والفساد المالي والسياسي. لكن موسي تتمادى في معارضتها لكل أشكال المصالحة مع من تصفهم بـ«الإخوان والسياسيين المتخاذلين المتحالفين معهم». وتستدل على ما تعتبره نجاحاً في سياستها أن القضاء ألغى قبل سنة ونصف السنة حكماً بسجنها لمدة 6 أشهر بعد شكوى ضدها وجهها إليها المحامي نبيل بدشيش، اتهمها فيها بالاعتداء عليه بـ«غاز يشلّ الحركة»، خلال جلسة في المحكمة أسفرت عن حلّ حزب بن علي في مارس 2011. ولقد خاضت موسي معركة مع نقابة المحامين والمنظمات الحقوقية، واتهمتها بتلفيق التهم ضدها، مدعية أن الهدف من وراء محاكمتها محاولة إرباكها سياسياً.
لكن هل تكفي المعارك السياسية «ضد الآخر» وحدها لأن تصنع من عبير موسي زعيمة فعلية لكل معارضي الحكومة ورئيس الجمهورية وقيادات «النهضة»... أم يصبح مفعول تلك المعارك عكسياً في مرحلة تستفحل فيها معاناة الشباب من البطالة والتهميش التي قد تزداد تعقيها بسبب معضلات البلاد الاقتصادية والاجتماعية بعد أزمة «كوفيد - 19»؟
الردّ قد يأتي قريباً من الشارع ضد غالبية السياسيين، سواءً في الحكم وفي المعارضة، بمن فيهم عبير موسي ورفاقها.

- بطاقة هوية
- ولدت عبير موسي في بلدة جمّال، بمحافظة المنستير، يوم 15 مارس (آذار) عام 1975.
- تحمل درجة الماجستير في القانون وشهادة الدراسات المعمقة في القانون الاقتصادي وقانون الأعمال.
- محامية في نقابة المحامين في محكمة التعقيب.
- نائبة رئيس بلدية أريانة (ضواحي العاصمة تونس).
- عضو في المنتدى الوطني للمحامين في التجمع الدستوري الديمقراطي والأمينة العامة للجمعية التونسية لضحايا الإرهاب.
- في يناير 2010، عيّنت نائبة للأمين العام للمرأة في « التجمع الدستوري الديمقراطي».
- انضمت عام 2011 إلى «الحركة الدستورية» (التي أسسها رئيس الوزراء السابق حامد القروي).
- عيّنت في 13 أغسطس (آب) 2016 رئيساً للحركة الدستورية، التي صارت «الحزب الدستوري الحر».



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.