«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

أكثر من 10 أعوام من التحالفات عبر «البيانات السياسية»

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟
TT

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

«يساريو الصالونات» هل كانوا غطاء «الإسلام السياسي» في المشهد السعودي؟

ينتهي الكثير من حكايات المشهد السياسي - الثقافي في السعودية، كنهاية قصة «ريما الجريش»، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، والقصة لمن لا يعرفها، هي أن «ريما الجريش» قدمت في الفضاء الحقوقي العام السعودي كـ«ناشطة حقوقية»، كونها عضوا فيما عرف باسم جمعية «حسم للحقوق المدنية والسياسية». الجريش انتهت في مرابع «داعش»، مرورا بتنظيم القاعدة في اليمن، هذه التنظيمات الإرهابية التي باتت تنمو بعد موجة «الربيع العربي»، كما ينمو العشب في الخرائب. ولكن تحت أي غطاء تسرب منظرو «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين»، وغيرها من حركات «الإسلام السياسي» المتطرف إلى المشهد السعودي؟ للحراك المعرفي في السعودية بشقيه التنويري والرجعي، أكثر من زاوية للرصد، لكن قد يكون أوضحها «البيانات السياسية»، التي تواترت في العقد الأخير، حاملة «ملامح آيديولوجية» من خلال مصطلحاتها ومضامينها والموقعين عليها.
في أوائل التسعينات كان الجميع يتهامسون في المشهد المحلي عن بزوغ نجم «مشايخ حركيين» يتبنون شعار «إخراج المشركين من جزيرة العرب» كموقف سياسي من تدخل المجتمع الدولي في تحرير الكويت من قبضة نظام صدام حسين.
كان الدكتور سلمان العودة، والدكتور سفر الحوالي، والدكتور ناصر العمر، مدعومين بمجموعة من «مشايخ الظل» من غير السعوديين، كانوا هم الرعيل الأول من مشايخ «الصحوة» الحركيين الذي اصطلح عليهم بـ«السروريين».
قادوا في حينها معظم الهجمات على المفاهيم التحديثية والتنويرية المتعلقة بالمرأة وبقية أساسيات المجتمع المتحضر من فن وثقافة واقتصاد وسياسة، وقاموا بالتشجيع على حراك الشارع السعودي، الذي أثبت مرة تلو الأخرى أنه رغم «روحه المحافظة» إلا أنه غير مسيس دينيا.
تم تحجيم هذه الرؤى القادمة من العصور الوسطى الروحية. وقضى بعض قيادات هذا الحراك محكوميتهم خلف القضبان وغادروها للفضاء العام مرة أخرى. حتى جاءت لحظة فارقة في تاريخ المشهد الدولي بشكل عام، والمشهد السعودي بشكل خاص.
كانت تلك اللحظة هي سقوط برجي التجارة في نيويورك إثر عمل إرهابي، إذ حدث تطور نوعي على مستوى «الترميز» لهذه الشخوص الحركية التي تقود التيار تنظيريا وجماهيريا، وخصوصا مع انفتاح بعضها على خطاب اجتماعي أكثر تسامحا في حينه، وتبني قنوات تلفزيونية لهذا الخطاب، حتى غدوا «نجوم شباك» تتسابق عليهم وسائل الإعلام.
هذا التطور كان على مستويين، بدأ بإخراج سلمان العودة وموازييه من «الدعاة الجدد» من سلة رجل الديني التقليدي، وتحويله لرجل الدين «التنويري».. هذه الحقبة كانت أولى مخاطبات تيار الصحوة لـ«الأنتلجنسيا» السعودية من التيارات الأخرى.
اللافت أن «الدعاة الجدد» الذين استقطبوا بعض جمهوره معهم لتجربتهم الجديدة مع خلق قواعد اجتماعية وثقافية أخرى لها جمهورها، لم يكن على حساب ترك القواعد الشعبية القديمة في العراء الثقافي، بل ظلت رموز وشخوص دعوية تحتوي هذه القواعد المتطرفة أو على الأقل الأكثر المحافظة وتشددا منها، من أمثال الدكتور عبد العزيز الطريفي، والدكتور ناصر العمر، والدكتور محمد العريفي، وغيرهم.
هذا التحول الصحوي الذي بدأ التحرك على مستويين جماهيريين، كان بداية خروج تحالف من نوع مختلف إلى الضوء. كان بقايا «اليسار» بكل تفرعاته الكلاسيكية والحديثة قد عبروا لتوهم عقدا من الزمان من حالة التشظي بعد فشل المشروع الأممي «الشيوعي» وتبعه سقوط «المشروع الناصري القومي» بدوره.. كانت حقبة من الهزائم المتكررة لصالح مفاهيم الدولة القطرية.
تجلى هذا التبني لـ«يساري الصالونات» في أول البيانات السياسية المشتركة تحت عنوان «على أي أساس نتعايش» الموجه للمثقفين الأميركيين، والذي تشارك فيه رموز «الصحوة» من أمثال المشايخ ناصر العمر وسفر النحو وسلمان العودة، مع الدكتور خالد الدخيل، ومحمد سعيد طيب، والدكتور متروك الفالح، والشيخ المعمم حسن الصفار، وغيرهم.
والذي جاء فيه ما نصه: «ليس من العقلانية أن نفترض أن الذين هاجموا الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر لا يشعرون بنوع من المبررات الذاتية صنعتها فيهم ودفعتهم إليها القرارات الأميركية في مناطق عالمية متعددة، وإن كنا لا نرى واقعية هذه المبررات لضرب الأمن المدني، لكنه استقراء لنوع من العلاقة السببية بين الأحداث والسياسات الأميركية».
رغم أن هذا البيان تراجع عنه لاحقا الثلاثي الصحوي (العودة، الحوالي، العمر)، فإنه كان بداية لبيانات تالية تحت اسم الجهود «الإصلاحية»، وهو المصطلح الذي يميل برنته الصوتية إلى مفردات تيار «الإسلام السياسي»، فيما يحتمل بتنظيراته السياسية وتخريجاته الفلسفية شعارات بقايا «اليسار» ورموزه القادمون من مخيال الستينات الميلادية.
تلك لم تكن بوادر تغير محلي في علاقة «اليسار» مع خصومه (فكريا) من حركات «الإسلام السياسي»، بل في صورته الأكبر كان هذا التشكل السياسي جزءا من قصة تحالف على مستوى جغرافيا العالم العربي، وتلك قصة لا بد من المرور عليها قبل العودة للمشهد السعودي الراهن.

* القوميون والإسلاميون

* في عام 1989 عقدت في القاهرة أولى جولات الحوار القومي - الإسلامي وانتهت بـ«انتكاسة» تبعتها «انتكاسات» لكل محاولات التقارب الفكري بين منظري التيارات القومية ومنظري «تيارات «الإسلام السياسي» في الجهة المقابلة.
لاحقا، وصف الكاتب المصري فهمي هويدي هذه المحادثات بقوله: «كانت النتيجة أن المؤتمر (الذي عقد عام 2007 في الإسكندرية) لم يكن بمثابة خطوة إلى الأمام، ولكنه بدا خطوة إلى الوراء، عادت بمسار الحوار إلى ما كان عليه قبل عقدين من الزمان تقريبا».
المحاولة الأبرز الأخرى كانت في عام 1997 في بيروت تحت راية مركز دراسات الوحدة العربية، حيث كان يشهد صعود قوى الإسلام السياسي واحتماءها بقواعد شعبية واسعة النطاق، كان المؤتمرون من التيارات القومية، يعتقدون أن بإمكانهم تأجيل الجدال حول قطعية «علمانية» السلطة، النقاش الذي بدوره سينهي المؤتمر كسابقيه منذ عقدين.
بذل مركز دراسات الوحدة العربية مجهودا هائلا ونتاجا غزيرا في محاولة صناعة مقاربات فكرية تتيح لهذا التحالف، الانتقال من المستوى السياسي إلى الفكري.
إلا أن الواقع لاحقا فرض تحالفا محكوما بمعطيات الراهن السياسي أكثر منه تحالفا قائما على المراجعة الفكرية.
يقول الكاتب والباحث سعود السرحان: «يتقاطع بعض بقايا القوميين واليساريين مع جماعات الإسلام السياسي في كونهم يتشاركون الفكر الفوضوي الهدمي المعادي لكل البنى التقليدية، سواء كانت دينية أو سياسية أو اجتماعية، لذا فهم ينشطون بالعمل المشترك في أوقات الأزمات والاضطرابات».
على مستوى الحركات اليسارية الكلاسيكية، كان أشهر نموذج للتقارب السياسي مع «الإخوان المسلمين» على مستوى العالم العربي، المعارض السوري رياض الترك، الذي تقلد سابقا منصب الأمين العام الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي) منذ تأسيسه في 1973.
على ذات النسق، نشطت ذات التقاربات السياسية في المغرب العربي، والتي ظهرت جلية مع «الربيع العربي»، والتي كان أشهر نماذجها وضحاياها المغدور شكري بلعيد، المعارض والمحامي اليساري التونسي الذي تم اغتياله بشكل مفاجئ. أشارت لاحقا تصريحات رسمية من الحكومة التونسية بضلوع بعض حركات «الإسلام السياسي» في مقتله. جدير بالذكر، أن بلعيد في ذات الوقت يعتبر أحد أشهر المحامين عن السلفيين التونسيين المسجونين على خلفية قضايا أمنية إبان فترة حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وما لحقها.
تلك كانت ملامح تشكلات سابقة في جانب, وعابرة في جانب آخر للحظة «الربيع العربي».

* ربيع «الأصولية».. الفجر الكاذب

* البيانات السياسية لـ«الصالونات الثقافية» في السعودية تتغذى على الدعاية الشعاراتية غالبا. فمن المنتديات الإلكترونية إلى «تويتر» المليء بعصافير السياسة المغردة.
في عام 2004 أصدر ذات المجاميع الثقافية، بيانا سياسيا تحت عنوان «نداء وطني إلى القيادة والشعب» قاده الدكتور عبد الله الحامد ذو الأدبيات الإسلامية القادم من خارج من خارج «المشيخة» الدينية التقليدية، مع الدكتور متروك الفالح، القادم من الخلفية «العروبية القومية»، إضافة للشاعر علي الدميني، صاحب المرجعية الفكرية اليسارية الكلاسيكية.
علق عليه الكاتب والباحث السعودي علي العميم وقتها في مقالة تحت عنوان «شكليات ليبرالية ومضمون أصولي» بقوله: «تقارب بين جمهرة من الإسلاميين وجموع من الليبراليين والقوميين واليساريين، نتج عنه قيام تحالف فيما بينهم، وكان هذا التحالف ذا طبيعة سياسية. فصدرت بيانات مشتركة، يكون البيان فيها إما بيانا للإسلاميين يشترك في التوقيع عليه قوميون ويساريون وليبراليون، وإما بيانا للقوميين ولليساريين، يشترك في التوقيع عليه إسلاميون وليبراليون».
ويزيد العميم في تعليقه: «يقول كاتب البيان، إن الموقعين يؤمنون بدورهم في قول كلمة الحق، بل واجبهم ومسؤوليتهم تجاه الميثاق الذي حملهم الله إياه في قوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه)، من أجل ذلك يقدمون أنفسهم على أنهم دعاة للمجتمع الأهلي المدني، ودعاة للإصلاح الدستوري معا». من هذا التعريف الديني الأخلاقي نفهم أن الموقعين على البيان أمناء على ميثاق إلهي، فحواه كلمة الحق التي تقتضي أن يصدعوا بدعوتهم ويجهروا برسالتهم. هذه الدعوة هي، دعوة المجتمع الأهلي المدني، وهذه الرسالة هي، رسالة الإصلاح الدستوري. كما نفهم أن غيرهم فعلوا كما فعل بنو إسرائيل بالميثاق الذي أخذه الله عليهم. تقول تتمة الآية التي استشهدوا بها «فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون». وأقل ما يقال في هذا التعريف إنه تعريف غير سياسي وغير عقلاني وغير واقعي وغير مدني. ومن النافل التذكير بأن القيم العقلانية والتصورات الواقعية من مداميك المجتمع السياسي المدني وأركانه.
مع تفجر موجات «الربيع العربي» عادت ذات المجاميع السياسية لإصدار بيان سياسي يطالب بإصلاحات دستورية. كان البيان يطالب بـ«حقوق المرأة» والموقعين عليه من أصدروا بيانا قبل عام يجرم الاختلاط، ويحرم عمل المرأة في محلات بيع الملابس النسائية. وكان موقعو البيان يطالبون بحرية المجتمع، بينما بعض الموقعين عليه سبق أن أعلنوا صراحة تبنيهم رفض أشكال الحداثة المدنية اجتماعيا، وفيما كان البيان يطالب بالعدالة الاجتماعية كان بعض موقعيه يصفون المواطنين من أبناء الطائفة الشيعية بـ«الروافض». جدير بالذكر أن أحد أبرز موقعي هذا البيان تنازل عن جنسيته السعودية لاحقا واستبدلها بالقطرية.
على نفس النسق، أفرز حراك «يساريي الصالونات» مع رموز «الإسلام السياسي، مجاميع صغيرة من الجيل الشاب «المغرد»، الذين يجلسون في أطراف هذه الصالونات، والمتبنين لنفس الأدبيات، وفي ذات التوقيت الذي كانت «أيقونة» وائل غنيم تلف العالم العربي، أصدروا بيانا مقسما في نقاط أقرب للتغريدات الانطباعية منها لبيان سياسي جاد.
يقول سعود السرحان: «بما أن الإسلاميين الحزبيين هم الأكثر تنظيما، خصوصا في دول الخليج العربي، فإن هؤلاء القوميين واليساريين ينضوون تحت عباءتهم. فأصبحت جمعياتهم الحقوقية شبيهة بحكومة الإخوان المسلمين في السودان بقيادة عمر الترابي، التي وفرت ملجأ لجماعة أبي نضال ولكارلوس ولأسامة بن لادن والجماعة الإسلامية. ومؤخرا هاجرت إحدى الناشطات في إحدى هذه الجمعيات الحقوقية المدنية في السعودية لتنضم لتنظيم داعش».
الهزائم التي مني بها الحراك «الإخواني» بمساندة الحقوقيين والأحزاب اليسارية، وانقلاب حكومة الدكتور مرسي الإخوانية على «رفاق الثورة» عكس بدوره حالة التشظي الذي عاشته المجاميع السعودية بدورها، والذي دفع بعض رموزها لمحاولات يائسة وأخيرة، بإصدار «خطابات مفتوحة» دفاعا عمن روج لهم على أنهم «معتقلو رأي»، وتم تداول قضاياهم بالأسماء مع الحث على الاعتصامات المطالبة بإخراجهم من السجون، إلى أن جاءت المفاجأة.
ظهر لتنظيم القاعدة الإرهابي في جزيرة العرب فيديو مصور على مدار ساعة من الزمن لأحد قادتها (إبراهيم الربيش)، داعيا إلى استغلال تأجيج العواطف تجاه «المعتقلين أمنيا»، الذي ظهر جليا في «تويتر» موقع التواصل الاجتماعي، ومباركة اعتصامات بريدة التي تطالب بإطلاق سراح أفراد من الفئة الضالة، بحسب وصف الداخلية السعودية ومن «المجاهدين»، بحسب الربيش، قائلا ما نصه: «وصيتي ألا تنتهي قضيتهم بالخروج من السجن، وإنما هم حملة رسالة، دخلوا السجن من أجل قضية، ويجب أن يخرجوا مدافعين عن هذه القضية، ومناضلين عنها، وحماة لها»، مضيفا: «المعتقلون يجب أن يستغلوا تعاطف الناس معهم ويحرضوهم على الجهاد في سبيل الله ويدعوهم إليه، يجب أن يتحولوا إلى دعاة».
4 أعوام قاربت على النهاية من عمر «الربيع العربي»، وعقد من البيانات السياسية الملتبسة المفاهيم، بدأت بالدعوة للحقوق المدنية برطانة حداثية، وانتهت ببعض رموز هذه المطالبات الذين انخرطوا وسط الحشود بمناداتهم بفهم «داعش» للحياة المدنية، والهجرة إليها.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.