فيلم عن ستانلي كوبريك بعد 21 سنة من رحيله

لا أحد يفهمه كما يفهم هو نفسه

ستانلي كوبريك خلال التصوير
ستانلي كوبريك خلال التصوير
TT

فيلم عن ستانلي كوبريك بعد 21 سنة من رحيله

ستانلي كوبريك خلال التصوير
ستانلي كوبريك خلال التصوير

ما الذي يجعل من البعض منّا حالة حاضرة حتى بعد غيابه البدني؟ طبعاً لكل منا فقيد يلازمه بذكراه وأفعاله ويحثه على الشعور بالخسارة الكبرى لفقدانه، لكن هناك فريق من الناس يتركون مثل هذا الأثر على الملايين في كل مكان ولسنوات طويلة.
سنجد أمثال هؤلاء في كل ضرب من ضروب الحياة. من فن العمارة إلى الفلك، ومن الأدب إلى علم الحساب ومن السياسة إلى الرسم أو من الموسيقى إلى العلوم البيولوجية. هناك عمالقة في كل هذه المضارب يتركون أثراً لا يُمحى بعد غيابهم. السبب الظاهر هو تميّـز أعمالهم. السبب الخفي هو كيف.
«كوبريك بأي كوبريك» (Kubrick By Kubrick) لغريغوري مونرو هو أحد تلك الأفلام المصنوعة حول أحد هؤلاء العمالقة. عرضه مهرجان ترايبيكا للنقاد على الإنترنت نظراً لإلغاء دورة المهرجان النيويوركي في مثل هذه الظروف.
- ناقد ومخرج
خلال 21 سنة منذ وفاته، صدرت العديد من الكتب والكثير من الأفلام التسجيلية التي تحدثت عن مخرج «القتلة» و«باري ليندون» و«عينان مغمضتان بإحكام» و«2001: أوديسة فضائية».
أحد أهمها كتاب ضخم صدر سنة 2009 بعنوان «إنسايكلوبيديا ستانلي كوبريك» وضعه جين د. فيليبس ورودني هِل، وحوى كل ما يمكن أن يكون له دلالة خفية أو ظاهرة في سينما وحياة المخرج الكبير. فيه ذكر لكل الموسيقيين الذين استعان كوبريك بأعمالهم أو كل الدلالات والأبعاد التي حفلت بها أفلامه وكل الذين تعاونوا معه من ممثلين أو مديرين تصوير. المواد المختلفة تحتوي على فقرة حول علاقة الرقابة بأعماله، وأخرى حول التقنيات التي استخدمها صوتاً وصورة وثالثة عن المونتاج ومن عمل معه في ذلك الإطار وأسلوبه. هذا عدا عن تحليل كل فيلم من أفلامه طويلاً وحسب منهج رصين وعلمي واثق.
أحد فقرات هذا المرجع يقع تحت اسم الناقد الفرنسي ميشيل سيمَن الناقد السينمائي الفرنسي الذي أجرى خمس مقابلات مطوّلة مع كوبريك تشكل محتوى الفيلم الجديد «كوبريك باي كوبريك».
حظى سيمَن بثقة كوبريك فاستقبله خلال التصوير وخارجه بضع مرّات ومنحه وقته لإجراء مقابلات مطوّلة معه مسجلة صوتاً وصورة ونراها ماثلة في هذا الفيلم التسجيلي الذي بحد ذاته وثيقة تؤرخ للمخرج كما تؤرخ للناقد تماماً كما كانت مقابلات الفرنسي الآخر فرنسوا تروفو مع المخرج الراحل ألفرد هيتشكوك.
نشر الناقد الفرنسي المعروف بعض هذه المقابلات في مجلة «لو إكسبرس» الأسبوعية ونشر بعضها الآخر في مجلته «بوزيتيف» الشهرية. في واحدة من هذه المقابلات يُخبر الناقد المخرج بأن فيلمه «باري ليندن» ينجز نجاحاً تجارياً جيداً في صالات باريس.
يستهجن المخرج الخبر ويسأل الناقد: «لماذا تخبرني بهذا؟ لا أستطيع فعل شيء حيال الأخبار السارة، فقط إذا ما كانت هناك أخبار سيئة أستطيع التدخل».
- خلال التصوير
«كوبريك باي كوبريك» هو كما يعني العنوان حديث لكوبريك يشرح فيه نفسه وأفلامه. هذا عوض أن يقوم نقاد وسينمائيون آخرون بشرحه في كتاباتهم أو أفلامهم كما جرت العادة قبل وبعد وفاة المخرج سنة 1999. أولى مقابلات سيمَن مع المخرج حدثت سنة 1968 عندما انتهى من تصوير «2001: أوديسة فضائية». منذ ذلك الحين خص المخرج ذلك الناقد المحظوظ بالمقابلات أكثر من سواه.
في الفيلم نلحظ أن الغالب في هذه المقابلات غياب الصورة. لم يجلس المخرج والناقد أمام الكاميراً لإجراء معظم هذه الحوارات، بل تم معظمها عبر لقاءات بين الإثنين وبينهما آلة تسجيل يعتمد عليها الفيلم الماثل أمامنا لاستخلاص ما دار بين الناقد والمخرج. على هذا الأساس فإن الشاشة الماثلة أمامنا تعرض النصوص وتعتمد على التسجيلات الصوتية كدليل دائماً.
ما يضيفه المخرج مونرو هو صور ثابتة ومتحركة ومشاهد من الأفلام كما من مكان التصوير بحيث يؤمّن التنوّع المطلوب للمادة الماثلة ويوظفها لإضافة مصوّرة للمعلومات الواردة في النص أساساً. بذلك هي استعانة زاخرة تؤرخ لفقرات الحديث وفحواه.
وإذا كان السائد عن كوبريك أنه لم يكن يحبّذ شرح أعماله، فإن هذا الفيلم هو فرصة نادرة لسماعه وهو يشرحها. لكن ذلك كله لا يشكل كل ما يحتويه الفيلم. في مرّات عديدة نفاجأ بمقابلات أجراها المخرج غريغوري مونرو مع ممثلين ارتبطوا بالمخرج أكثر من مرّة. وفي مرّات أخرى يعمد مونرو إلى الاستعانة بمشاهد من أفلام تم تصويرها للمخرج وهو يتابع تصوير أفلامه ويضع عينه على الكاميرا هنا أو يصدر أمراً هناك.
لكن ما يطلعنا عليه الفيلم هو أكثر من مناسبات التلصص على خلفيات التصوير أو متابعة الحوار القائم بينه وبين الناقد. نكتشف مثلاً أن المخرج، في بعض الأحيان، كان مستعداً لإجراء تغييرات في السيناريو خلال التصوير. هذا يعني استبدال ما في البال أو على الورق بفكرة طارئة (مثل الاستعانة بمشهد من فيلم Singing in the Rain لستانلي دونن (1952). أو التوقف عن التصوير ريثما يأتي المخرج بإجابة مقنعة لسؤال طارئ خطر له كما حدث خلال تصوير فيلمه الخيالي - العلمي الشهير «2001: أوديسة فضائية».
حين سأله الناقد عن سبب استعانته بالممثل رايان أونيل لبطولة «باري ليندن»، وهو فيلم تاريخي الفترة يدور حول شاب أدمن استغلال الفرص للوصول إلى الثراء والسُلطة، يجيب المخرج بأنه كان بحاجة لممثل مقنع في الدور: «الدور يتطلب ممثلاً وسيماً»، ثم يُضيف: «لم يكن بالإمكان أن أجد ما أبحث عنه في ممثلين آخرين كجاك نيكولسن».
غني عن القول أن مجرد الاستماع إلى كوبريك يتحدث عن أفلامه شارحاً ومحللاً يكفي لكي يُثير الفيلم الاهتمام. إنه مثل حديث أستاذ لطلابه وللراغبين في معرفة المزيد حول اختياراته. كوبريك لم يكن في يوم ما واحداً من أولئك المخرجين الذين يريدون الحضور في المناسبات الفنية والاجتماعية ملبياً حاجة الإعلام.
بل إن مقابلاته الصحافية كانت متباعدة. كان يختار ناقداً واحداً في إثر الانتهاء من تصوير كل فيلم ليجري معه المقابلة. بعد ذلك يعود إلى غموضه وعزلته.
هنا لا يكتفي «كوبريك باي كوبريك» بقوّة النص، بل يدلف مشاهد عدة من أفلام كوبريك لتفي بالغرض المنشود ولتذكرنا بقيمة سينمائي عاش منفرداً وأنجز أفلاماً منفردة أيضاً.
أثار كوبريك، كما يشهد الفيلم، أعصاب كل الذين عملوا معه، من الممثلة شيلي دوفال (في «ذا شاينينغ») إلى مدير التصوير راسل مَتي (خلال تصوير «سبارتاكوس») إلى الموسيقار ليونارد روزنمان الذي اضطر لإعادة كتابة قطعة موسيقية 105 مرات بناء على طلب المخرج خلال تصوير «باري ليندن»). لكن الجميع يدرك أنه كان يعمل بمقتضى مخرج متفنن في مراعاة التفاصيل. محترف أمين لرؤيته ومخرج يريد لكل تفصيل ولكل عنصر عمل أن يأتي تماماً حسبما يريده. وهذا ما جعله من المخرجين الأكثر تميّزاً حول العالم.


مقالات ذات صلة

فيلم «الحريفة 2» يراهن على نجاح الجزء الأول بشباك التذاكر

يوميات الشرق جانب من العرض الخاص للفيلم بالقاهرة (الشركة المنتجة)

فيلم «الحريفة 2» يراهن على نجاح الجزء الأول بشباك التذاكر

احتفل صناع فيلم «الحريفة 2» بالعرض الخاص للفيلم في القاهرة مساء الثلاثاء، قبل أن يغادروا لمشاهدة الفيلم مع الجمهور السعودي في جدة مساء الأربعاء.

أحمد عدلي (القاهرة )
يوميات الشرق فيصل الأحمري يرى أن التمثيل في السينما أكثر صعوبة من المنصات (الشرق الأوسط)

فيصل الأحمري لـ«الشرق الأوسط»: لا أضع لنفسي قيوداً

أكد الممثل السعودي فيصل الأحمري أنه لا يضع لنفسه قيوداً في الأدوار التي يسعى لتقديمها.

أحمد عدلي (القاهرة)
يوميات الشرق يتيح الفرصة لتبادل الأفكار وإجراء حواراتٍ مُلهمة تتناول حاضر ومستقبل صناعة السينما العربية والأفريقية والآسيوية والعالمية (واس)

«البحر الأحمر السينمائي» يربط 142 عارضاً بصناع الأفلام حول العالم

يربط مهرجان البحر الأحمر 142 عارضاً من 32 دولة هذا العام بصناع الأفلام حول العالم عبر برنامج «سوق البحر الأحمر» مقدماً مجموعة استثنائية من الأنشطة.

لقطة من فيلم «عيد الميلاد» (أ.ب)

فيلم «لاف أكتشلي» من أجواء عيد الميلاد أول عمل لريتشارد كيرتس

بعد عقدين على النجاح العالمي الذي حققه الفيلم الكوميدي الرومانسي «لاف أكتشلي» المتمحور حول عيد الميلاد، يحاول المخرج البريطاني ريتشارد كورتس تكرار هذا الإنجاز.

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما أغنييشكا هولاند (مهرجان ڤينيسيا)

أغنييشكا هولاند: لا أُجمّل الأحداث ولا أكذب

عد أكثر من سنة على عرضه في مهرجاني «ڤينيسيا» و«تورونتو»، وصل فيلم المخرجة البولندية أغنييشكا هولاند «حدود خضراء» إلى عروض خاصّة في متحف (MoMA) في نيويورك.

محمد رُضا (نيويورك)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)
دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)
TT

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)
دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

أرزة ★★☆

دراجة ضائعة بين الطوائف

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة. هي تصنع الفطائر وابنها الشاب يوزّعها. تفكّر في زيادة الدخل لكن هذا يتطلّب درّاجة نارية لتلبية طلبات الزبائن. تطلب من أختها التي لا تزال تعتقد أن زوجها سيعود إليها بعد 30 سنة من الغياب، بيع سوار لها. عندما ترفض تسرق أرزة السوار وتدفع 400 دولار وتقسّط الباقي. تُسرق الدرّاجة لأن كينان كان قد تركها أمام بيت الفتاة التي يحب. لا حلّ لتلك المشكلة إلا في البحث عن الدراجة المسروقة. لكن من سرقها؟ وإلى أي طائفة ينتمي؟ سؤالان تحاول أحداث الفيلم الإجابة عليهما ليُكتشف في النهاية أن السارق يعيش في «جراجه» المليء بالمسروقات تمهيداً لبيعها خردة، في مخيّم صبرا!

قبل ذلك، تنتقل أرزة وابنها والخلافات بينهما بين المشتبه بهم: سُنة وشيعة ومارونيين وكاثوليك ودروز. كلّ فئة تقترح أن واحدة أخرى هي التي سرقت وتشتمها. حتى تتجاوز أرزة المعضلة تدخل محلاً للقلائد وتشتري العُقد الذي ستدّعي أنها من الطائفة التي يرمز إليها: هي أم عمر هنا وأم علي هناك وأم جان- بول هنالك.

إنها فكرة طريفة منفّذة بسذاجة للأسف. لا تقوى على تفعيل الرّمز الذي تحاول تجسيده وهو أن البلد منقسم على نفسه وطوائفه منغلقة كل على هويّتها. شيء كهذا كان يمكن أن يكون أجدى لو وقع في زمن الحرب الأهلية ليس لأنه غير موجود اليوم، لكن لأن الحرب كانت ستسجل خلفية مبهرة أكثر تأثيراً. بما أن ذلك لم يحدث، كان من الأجدى للسيناريو أن يميل للدراما أكثر من ميله للكوميديا، خصوصاً أن عناصر الدراما موجودة كاملة.

كذلك هناك لعبٌ أكثر من ضروري على الخلاف بين الأم وابنها، وحقيقة أنه لم يعترف بذنبه باكراً مزعجة لأن الفيلم لا يقدّم تبريراً كافياً لذلك، بل ارتاح لسجالٍ حواري متكرر. لكن لا يهم كثيراً أن الفكرة شبيهة بفيلم «سارق الدّراجة» لأن الحبكة نفسها مختلفة.

إخراج ميرا شعيب أفضل من الكتابة والممثلون جيدون خاصة ديامان بوعبّود. هي «ماسة» فعلاً.

• عروض مهرجان القاهرة و«آسيا وورلد فيلم فيستيڤال».

سيلَما ★★★☆

تاريخ السينما في صالاتها

لابن بيروت (منطقة الزيدانية) لم تكن كلمة «سيلَما» غريبة عن كبار السن في هذه المدينة. فيلم هادي زكاك الوثائقي يُعيدها إلى أهل طرابلس، لكن سواء كانت الكلمة بيروتية أو طرابلسية الأصل، فإن معناها واحد وهو «سينما».

ليست السينما بوصفها فناً أو صناعة أو أيّ من تلك التي تؤلف الفن السابع، بل السينما بوصفها صالة. نريد أن نذهب إلى السينما، أي إلى مكان العرض. عقداً بعد عقد صار لصالات السينما، حول العالم، تاريخها الخاص. وفي لبنان، عرفت هذه الصالات من الأربعينات، ولعبت دوراً رئيسياً في جمع فئات الشعب وطوائف. لا عجب أن الحرب الأهلية بدأت بها فدمّرتها كنقطة على سطر التلاحم.

هادي زكّاك خلال التصوير (مهرجان الجونا)

فيلم هادي زكّاك مهم بحد ذاته، ومتخصّص بسينمات مدينة طرابلس، ولديه الكثير مما يريد تصويره وتقديمه. يُمعن في التاريخ وفي المجتمع ويجلب للواجهة أفلاماً ولقطات وبعض المقابلات والحكايات. استقاه من كتابٍ من نحو 600 صفحة من النّص والصور. الكتاب وحده يعدُّ مرجعاً شاملاً، وحسب الزميل جيمي الزاخم في صحيفة «نداء الوطن» الذي وضع عن الكتاب مقالاً جيداً، تسكن التفاصيل «روحية المدينة» وتلمّ بتاريخها ومجتمعها بدقة.

ما شُوهد على الشاشة هو، وهذا الناقد لم يقرأ الكتاب بعد، يبدو ترجمة أمينة لكلّ تلك التفاصيل والذكريات. يلمّ بها تباعاً كما لو كان، بدُورها، صفحات تتوالى. فيلمٌ أرشيفي دؤوب على الإحاطة بكل ما هو طرابلسي وسينمائي في فترات ترحل من زمن لآخر مع متاعها من المشكلات السياسية والأمنية وتمرّ عبر كلّ هذه الحِقب الصّعبة من تاريخ المدينة ولبنان ككل.

يستخدم زكّاك شريط الصوت من دون وجوه المتكلّمين ويستخدمه بوصفه مؤثرات (أصوات الخيول، صوت النارجيلة... إلخ). وبينما تتدافع النوستالجيا من الباب العريض الذي يفتحه هذا الفيلم، يُصاحب الشغف الشعور بالحزن المتأتي من غياب عالمٍ كان جميلاً. حين تتراءى للمشاهد كراسي السينما (بعضها ممزق وأخرى يعلوها الغبار) يتبلور شعورٌ خفي بأن هذا الماضي ما زال يتنفّس. السينما أوجدته والفيلم الحالي يُعيده للحياة.

* عروض مهرجان الجونة.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز