مؤسس دار «غاليمار» يتنزه في «قصر الكتب»

مؤسس دار «غاليمار»  يتنزه في «قصر الكتب»
TT

مؤسس دار «غاليمار» يتنزه في «قصر الكتب»

مؤسس دار «غاليمار»  يتنزه في «قصر الكتب»

«يكتب المرء لكي يكون محبوباً، ويقرأ دون أن يحصل على ذلك الحب».
بهذه الجملة المستفزّة للناقد رولان بارت يشرع روجيه غرينييه في كتابة إحدى مقالاته اللافتة بعنوان: «لكي تكون محبوباً»، المُدرَج ضمن مؤلَّفه الشيِّق الذي شيَّده بخبرته الكبيرة في عالم الكتب باسم «قصر الكتب». لكن هل سيحصل روجيه على الحب أم لا عندما تقرأ أعماله؟ لا شكَّ أنَّ الإجابة على هذا السؤال سيحدِّدها أولاً وأخيراً القارئُ الذي يحاولُ المؤلِّفُ الوصولَ إلى قلبه وعقله، عبر كتابه «قصر من الكتب»، الذي ترجمه زياد خاشوق، وأصدرته دار «المدى» العراقية. وهو كتاب ملهِم متعدِّد الهويّة يساهم من خلاله غرينييه في تغذية هذا النوع الجديد الشيِّق من الكتب، كُتب القرّاء أو خبراء القرّاء أو تجارب القراءة، هذه الفكرة الجمالية التي باتت تخترق الأعمال الأدبية بقوَّة في التاريخ المعاصر للكتّاب، والتي يخطُّها عُشّاق القراءة ومريدوها، أمثال ألبرتو مانغويل الذي يلقَّب بالرجل المكتبة، وصاحب كتابنا هذا العم روجيه غرينييه.
ومَن غيرُه يستحقّ هذا اللقب المبجَّل، الذي يُطلَق عادة على شخصٍ خَبِرَ الحياة، لا بسنين عمره وحسب، بل بتجاربه وطريقة تعاطيه مع الحياة بحساسية مرهَفة وفِكرٍ حاذِق، جسَّدَهما عبر الكتابة والقراءة كهواية وحب ومهنة فعطاء، وذلك منذ أن وُلد سنة 1917 إلى أن توقَّف قلبُه عن النبض في 2017 حيث عاش قرناً كاملاً من الزمن قضى أكثر من نصفه في القراءة والكتابة، ونالَ الكثير من الجوائز على مجموعة قيمة من المؤلفات بلغت نحو 50 كتاباً متنوعاً، مكتسباً الشغف والحب والخبرة ضمن عمله عضواً في لجنة القراءة لدى دار غاليمار الفرنسية للنشر منذ عام 1964. هذه الدار الشهيرة التي تأسست في باريس عام 1911 على يد غاستون غاليمار، تحت اسم دار نشر المجلة الفرنسية الجديدة، بالتعاون مع الكاتب الفرنسي أندريه جِيد.
نجده في مقاله الأول بعنوان «موطن الشعراء» يتحدث عن كيفية التأثير المهمّ لحادثة أو حوادِث على الكُتّاب، من أمثال ديستويفسكي وستاندال وغيرهما، أولئك الكُتَّاب الذين استخدموا هذه الآلية في كتاباتهم، لِما للحوادث من تشابهٍ بآلية السَّرد والجمهور، فالحدث الصحافي يحتاج كما الأعمال الأدبية إلى بداية ومنتصف ونهاية. ولتوضيح هذه الفكرة يأتينا غرينييه بأمثلة عِدَّة كمثال «حادثة أوديب»، القصّة التي ألهمت العالم النفسي فرويد الذي بسط قصة لم تكن في الأصل لتخلو من التعقيد، وذلك بعد أن أخضعها إلى شيء من الترتيب.
هل ثمّة كمالٌ في أي شكل من أشكال الحياة؟ الجواب المألوف الذي وصل إليه الفكر البشري بتصوراته وتأمّلاته منذ خلقه تجاه المطلق يفيد باستحالة ذلك، ويستعين غرينييه بهذه الفكرة القلقة، بالإشارة إلى محاكاتها في الأدب، ضمن مقال آخر سماه «اللامكتمل»، ويرى فيه أنّ اللامكتمل في الأدب والفن ينتهي في معظم الأحيان بأن يكون عملاً صادراً بعد الوفاة، كما في رواية «القصر» لكافكا، كذلك الأمر بالنسبة لرواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن المفقود». لكن علينا ألّا نخلط بين غير المنتهي والمهمَل بحسب غرينييه، مثال ذلك رواية «لوسيان لوين» التي أهملها ستاندال عندما علم بعدم إمكانية نشرها، بينما أغلب الأعمال التي قد لا يكون لها نهاية وتأتي غير مكتملة قد تكون مذكرات وسِيَراً، سواء كان ذلك عن قصد أو ظرف طارئ خاص بهذا الجنس الأدبي، وهو الرحيل عن الحياة وتركُها للموت في المكان الذي توقفت عنده، كما أن هنالك بعض الأعمال الأدبية التي تُترك بشكل مقصود دون اكتمال أو نهايات. ويطرح غرينييه سؤالاً بالِغ الأهمية في نهاية هذه الفكرة قائلاً؛ ما هو الأسوأ، أن يكون الشيء منتهياً أم غير منتهٍ؟ في طريق جبلي يشرع كلبٌ غريبٌ بملاحقتك ثم فجأة يعود أدراجه، لم تَعدْ ذا أهمية بالنسبة له.
لم يُغفلْ غرينييه أيضاً الحديثَ عن أثر الحب وأهميته وقيمته لدى الكتّاب ولا سيّما الأدباء، فالحياة بلا حبّ لا يمكن أن تُطاق، كذلك الأدب من دون الحبّ صعبُ التذوُّق والهضم. كتَبَ عن قيمة الحب في مقالة بعنوان «كتابة الحب، أيضاً...»، يقول؛ إن الحب ينتمي إلى المجال الحميمي، وهذا لا يمنع أن يكون موضوعاً خالداً من موضوعات الإلهام الأدبي، ويشير إلى استعانة الكتّاب بالحب في كثير من النماذج الأدبية، فيذكر منها أنّ ألكسندر دوماس ومعاونه ماكيه عندما وصلا إلى الفصل الأربعين من رواية «بعد عشرين سنة» لاحظا بشيء من الهلع أنهما لم يُدرِجا فيها قصة حب، في حين أن نجاح الفرسان الثلاثة قد نتج بالنسبة لكثيرين عن قصة الحب بين بوكينغهام وآن دوتريش. ويرى أنه لا يوجد سوى مثالٍ واحد لرواية معاصرة غابت عنها النساء، وهي رواية «الطاعون» لكامو.
يقول العم روجيه غرينييه في الختام: «في كل هذه الكتب يبدو لي أنّ أوّل الأفعال التي لا يمكن فصلُها عن الانتظار هو القراءة، تمضي العينان على امتداد السطور، وينتظر الفكر أنْ تتقدَّما وهو متشوِّقٌ لمعرفة ما سيحصل بعد ذلك».


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش
TT

أميتاف غوش و«خيال ما لا يمكن تصوره»

غوش
غوش

حصل الكاتب الهندي أميتاف غوش، يوم 26 نوفمبر (تشرين الثاني)، على جائزة إراسموس لعام 2024 ومبلغ نقدي قدره 150 ألف يورو، لمساهمته الملهمة في موضوع هذا العام «خيال ما لا يمكن تصوره». وذلك من خلال أعماله التي تهتم بمواضيع الساعة؛ من بينها الأسباب الرئيسية لتغير المناخ.

وغوش (ولد عام 1956)، في كلكتا، عالم أنثروبولوجيا اجتماعية من جامعة أكسفورد، ويعيش بين الهند والولايات المتحدة. تتضمن أعماله روايات تاريخية ومقالات صحافية. وتعتمد كل أعماله على بحث أرشيفي شامل، وهي تتجاوز الزمن والحدود المكانية. ومن بين المواضيع الرئيسية، التي يتطرق إليها، الهجرة والشتات والهوية الثقافية، دون إغفال، طبعاً، البعد الإنساني.

في كتابيه الأخيرين «لعنة جوزة الطيب» و«الدخان والرماد: التاريخ الخفي للأفيون»، يربط غوش بين الاستعمار وأزمة المناخ الحالية، مع إيلاء اهتمام خاص لشركة الهند - الشرقية الهولندية.

وكان الاستعمار والإبادة الجماعية، وفقاً لغوش، من الأسس التي بنيت عليها الحداثة الصناعية. علاوة على ذلك، فإن النظرة العالمية، التي تنظر إلى الأرض كمورد، تذهب إلى ما هو أبعد من الإبادة الجماعية والإبادة البيئية. التي تستهدف كل شيء - الناس والحيوانات والكوكب نفسه، والسعي وراء الربح، قد استنزف الأرض وحوّل الكوكب إلى موضوع للاستهلاك.

المخدرات أداة استعمارية

ويدور موضوع كتاب «الدخان والرماد» حول الرأسمالية التي تفتقد أي وازع أخلاقي. وبداية، يفند المؤلف الكتابات التي تدعي أن الأفيون كان يستخدم في الصين بشكل واسع، ويعتبر ذلك من الكليشيهات التي لا أساس لها من الصحة، إذ لم يكن إنتاج الأفيون نتيجة للتقاليد الصينية، بل «كانت المخدرات أداة في بناء قوة استعمارية». وكان النبات يشكل جزءاً مهماً من الاقتصاد في مستعمرة الهند البريطانية. وفي كتابه «لعنة جوزة الطيب»، يستدعي غوش المذبحة التي اقترفها جان بيترزون كوين (1587 - 1629)، في جزر باندا في عام 1621 للسيطرة على احتكار جوزة الطيب. يطبق قوش الآن هذه الطريقة أيضاً على الأفيون. وكان قد سبق له أن كتب عن تاريخ الأفيون «ثلاثية إيبيس»؛ وتتضمن «بحر الخشخاش» (2008)، و«نهر الدخان» (2011)، و«طوفان النار» (2015). وروى فيها قصة سفينة العبيد، إيبيس، التي كانت تتاجر بالأفيون بين الهند والصين خلال حرب الأفيون الأولى (1839 - 1842).

يقول جان بريمان (1936) عالم اجتماع الهولندي والخبير في مواضيع الاستعمار والعنصرية وما بعد الكولونيالية، عن «لعنة جوزة الطيب»: «ما الذي ألهم هؤلاء الهولنديين من (VOC) شركة الهند - الشرقية، بقيادة كوين لذبح جميع سكان جزر - باندا قبل أربعة قرون؟». هذا السؤال يطرحه أيضاً الكاتب الهندي غوش في كتابه «لعنة جوزة الطيب». علماً بأن جوزة الطيب لا تنمو إلا في هذه الجزر. ويضيف بريمان: «ليس من باب الاهتمام بما نعتبره نحن في هولندا النقطة السيئة في تاريخنا الاستعماري، ولكن لأن، عقلية شركة الهند - الشرقية الهولندية ما تزال منذ 400 عام تحركنا، بل إنها تغرقنا مباشرة في أزمة المناخ. وباختصار، تعتبر قصة الإبادة الجماعية في جزر - باندا بمثابة مَثَل لعصرنا، وهي قصة يمكن تعلم الكثير».

دولة المخدرات لشركة الهند - الشرقية

كانت هولندا أول من اعترف بالقيمة التجارية للأفيون، وهو المنتج الذي لم يسبق له مثيل من قبل. ولضمان توفر ما يكفي من الأفيون للتجارة، تم استخدام المزيد من المناطق في جزيرتي جاوة ولومبوك لزراعة الخشخاش. وتبين أن احتكار شركة الهند - الشرقية للأفيون كان بمثابة إوزة تضع بيضاً ذهبياً، فقد عاد الحاكم العام إلى هولندا في عام 1709 ومعه ما يعادل الآن «ثروة بيل غيتس» وقد يعود جزء من ثروة العائلة الملكية الحالية لهذه التجارة، بحسب غوش، نتيجة استثمارها الأموال في شركات الأفيون. وهكذا أصبحت هولندا «دولة المخدرات الأولى». ولكن تبين أن ذلك كان لا شيء، مقارنة بما فعله البريطانيون في الهند؛ وفقاً لغوش، فقد أتقنوا إدارة أول «كارتل عالمي للمخدرات».

ففي الهند، أجبر البريطانيون المزارعين على تحويل أراضيهم إلى حقول خشخاش والتخلي عن المحصول بأسعار منخفضة. ثم قاموا ببناء المصانع حيث كان على (العبيد) معالجة الأفيون وسط الأبخرة. ولم تكن السوق الهندية كبيرة بما يكفي، لذلك كان على الصينيين أيضاً أن يتكيفوا. ومع ذلك، يبدو أن الصينيين لم يكونوا مهتمين على الإطلاق بالتجارة مع البريطانيين. ويقتبس غوش رسالة من تشيان لونغ، إمبراطور الصين آنذاك، الذي كتب في رسالة إلى الملك البريطاني جورج الثالث في عام 1793: «لم نعلق أبداً أي قيمة على الأشياء البارعة، ولم تكن لدينا أدنى حاجة لمنتجات من بلدك».

لعب الأفيون دوراً مركزياً في الاقتصاد الاستعماري منذ عام 1830 فصاعداً. وتم إنشاء المزيد والمزيد من المصانع في الهند لتلبية احتياجات «المستهلك الصيني»، كما كتب الكاتب البريطاني Rudyard Kipling روديارد كبلنغ عام 1899 في تقريره «في مصنع للأفيون»؛ فرغم الرائحة الخانقة للأفيون، كان «الدخل الكبير» الذي حققه للإمبراطورية البريطانية أهم.

تضاعفت مساحة حقول الخشخاش في الهند إلى ستة أضعاف. ويوضح غوش بالتفصيل ما يعنيه هذا لكل من المجتمع الهندي والطبيعة في القرون التي تلت ذلك. فلا يحتاج نبات الخشخاش إلى الكثير من الرعاية فحسب، بل يحتاج أيضاً إلى الكثير من الماء، مما يؤدي إلى الجفاف واستنزاف التربة. كما شكلت تجارة الأفيون جغرافية الهند المعاصرة بطرق أخرى. وأصبحت مومباي مدينة مهمة كميناء عبور للأفيون في عهد البريطانيين. ولا تزال المناطق التي تم إنشاء معظم حقول الأفيون فيها في ذلك الوقت من بين أفقر المناطق في الهند.

يوضح قوش كيف يعمل التاريخ، وبالتالي يميز نفسه عن معظم الكتاب الذين تناولوا الموضوع ذاته.

كما أنه يرسم أوجه تشابه مع الحاضر، التي لا يجرؤ الكثير من المؤلفين على تناولها. ووفقاً له، لا توجد مبالغة في تقدير تأثير تجارة الأفيون الاستعمارية على الأجيال اللاحقة. فما أنشأه البريطانيون في المناطق الآسيوية لا يختلف عن عمل منظمة إجرامية - حتى بمعايير ذلك الوقت، كما يكتب غوش، وهذا ما زال قائماً.

إن رؤية ذلك والاعتراف به أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يرغبون في العمل من أجل مستقبل أفضل.

يوم أمس منح ملك هولندا ويليام ألكسندر جائزة إيراسموس لأميتاف غوش في القصر الملكي في أمستردام، تقديراً لعمل غوش، الذي يقدم، بحسب لجنة التحكيم، «علاجاً يجعل المستقبل غير المؤكد ملموساً من خلال قصص مقنعة عن الماضي، وهو يرى أن أزمة المناخ هي أزمة ثقافية تنشأ قبل كل شيء من الافتقار إلى الخيال».