كيف تنتهي الأوبئة؟... جولة تاريخية على جائحات طبعت البشرية

عوامل اجتماعية سرّعت التحرر من القيود رغم استمرار العدوى

جانب من تعقيم طاولة تشريح في مستشفى يعالج مرضى الطاعون في الصين عام 1910 (غيتي)
جانب من تعقيم طاولة تشريح في مستشفى يعالج مرضى الطاعون في الصين عام 1910 (غيتي)
TT

كيف تنتهي الأوبئة؟... جولة تاريخية على جائحات طبعت البشرية

جانب من تعقيم طاولة تشريح في مستشفى يعالج مرضى الطاعون في الصين عام 1910 (غيتي)
جانب من تعقيم طاولة تشريح في مستشفى يعالج مرضى الطاعون في الصين عام 1910 (غيتي)

وفقاً للمؤرخين، فإن للأوبئة نهايتين: طبية، وهي تحدث عندما تنخفض معدلات الإصابة والوفيات. والثانية اجتماعية، وتحدث عندما يتلاشى الخوف من المرض. وأفاد الدكتور جيريمي غرين، المؤرخ الطبي بجامعة «جونز هوبكنز» بأنه «عندما يسأل الناس متى سينتهي الوباء، فإنهم يقصدون النهاية الاجتماعية».
وبعبارة أخرى، يمكن أن تحدث النهاية ليس بسبب النجاح في قهر المرض، بل لأن الناس تعبوا من حالة الذعر وتعلموا التعايش مع المرض. وفي هذا المعنى، ذكر ألان برانت، المؤرخ بجامعة هارفارد، أن «شيئاً مشابهاً يحدث مع فيروس كورونا كما رأينا في الجدل الدائر بشأن إعادة فتح الاقتصاد. ولذلك، فإن العديد من الأسئلة المتعلقة بالنهاية لا تجري الإجابة عنها من خلال البيانات الطبية وبيانات الصحة العامة، لكن من خلال المحيط الاجتماعي السياسي».

الطاعون الأسود والذكريات المظلمة
ضرب الطاعون الدملي العالم عدة مرات خلال الألفي عام الماضية، ليودي بحياة الملايين من البشر ويغير مسار التاريخ، لكنه ضاعف الخوف في كل مرة من الوباء التالي. وينجم المرض عن سلالة من البكتيريا تسمى «يرسينيا بيستيس» أو «اليرسينا الطاعونية»، تعيش على البراغيث التي تعيش بدورها على الفئران. لكن «الطاعون الدملي» الذي أصبح يعرف باسم «الطاعون الأسود» أو «الموت الأسود»، يمكن أيضاً أن ينتقل من شخص مصاب إلى شخص سليم من خلال قطرات الجهاز التنفسي، لذلك لا يمكن القضاء عليه ببساطة بمجرد قتل الفئران.
وفي هذا الصدد، قالت ماري فيسيل، المؤرخة بجامعة «جونز هوبكنز» إن المؤرخين يقسمون موجات الطاعون الكبيرة إلى ثلاث موجات عاتية: الأولى طاعون «جستنيان» الذي ظهر في القرن السادس، ووباء القرون الوسطى الذي ظهر في القرن الرابع عشر، والوباء الذي ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وبدأت جائحة العصور الوسطى عام 1331 في الصين، وأدى المرض إلى جانب حرب أهلية كانت مستعرة في ذلك الوقت، إلى مقتل نصف سكان الصين. ومن هناك، انتقل الطاعون على طول الطرق التجارية إلى أوروبا وشمال أفريقيا والشرق الأوسط. وخلال الفترة بين 1347 و1351، قتل ما لا يقل عن ثلث سكان أوروبا، وتوفي نصف سكان مدينة سيينا الإيطالية.
وكتب المؤرخ أغنولو تورا في القرن الرابع عشر يقول إنه «من المستحيل للسان الإنسان أن يروي الحقيقة المروعة»، فقد كانت أكوام الموتى تدفن في الحفر. وكتب المؤرّخ جيوفاني بوكاتشيو من فلورنسا يقول: «لم يكن هناك احترام للموتى. فلم تكن الجثث تعامل بالاحترام الذي نعامل به الماعز الميتة الآن». اختبأ البعض في منازلهم، فيما رفض آخرون الانصياع وقبول تهديد المرض.
انتهى الوباء، لكن الطاعون تكرر. وبدأت واحدة من أسوأ الفاشيات في الصين عام 1855 وانتشر في جميع أنحاء العالم، ما أسفر عن مقتل أكثر من 12 مليوناً في الهند وحدها. وأحرقت السلطات الصحية في بومباي أحياء بأكملها محاولين تخليصها من الطاعون. وقال مؤرخ ييل فرانك سنودن معلقاً على الإحراق المتعمد: «لم يكن أحد يعرف ما إذا كان ذلك سيحدث فارقاً»، أم لا.
الأسباب التي أدت إلى نهاية الطاعون الدملي ليست معروفة. لكن الدكتور سنودن أشار إلى أن بعض العلماء جادلوا في أن الطقس البارد قتل البراغيث الناقلة للأمراض، لكن ذلك لم يكن ليعوق انتشاره عن طريق التنفس، أو ربما أن تغييراً طرأ على الفئران. فبحلول القرن التاسع عشر، لم يكن الطاعون تحمله الفئران السوداء ولكن الفئران البنية الأقوى والأكثر تحمّلاً، والأكثر قدرة على العيش بمعزل عن البشر. فرضية أخرى هي أن البكتيريا تطورت لتصبح أقل فتكاً، أو ربما أن تصرفات البشر، مثل حرق القرى، قد ساعدت في القضاء على الوباء.
لم يرحل الطاعون أبداً. فبحسب إفادة الأطباء، فإن العدوى تنتشر في الولايات المتحدة بين الكلاب البرية في الجنوب الغربي ويمكن أن تنتقل إلى الناس. وأفاد سنودن بأن أحد أصدقائه أصيب بالعدوى بعد إقامته في فندق في نيو مكسيكو، حيث تبين أن نزيلاً سابقاً في الغرفة ذاتها كان يصطحب كلباً يحمل براغيث تحمل الميكروب. مثل هذه الحالات نادرة ويمكن الآن علاجها بنجاح بالمضادات الحيوية، ولكن أي تقرير عن الطاعون يثير الهلع.

مرض انتهى بالفعل
من بين الأمراض التي أمكن إيجاد نهاية طبية لها؛ الجدري. لكن تلك النهاية كانت استثنائية لعدة أسباب؛ أهمها أنه أمكن إيجاد لقاح فعال يوفر حماية مدى الحياة وأن فيروس «فريولا» الذي يسبب المرض ليس لديه مضيف حيواني يحمله إلى البشر، لذا فإن القضاء على المرض في البشر يعني القضاء التام عليه. كذلك، فإن أعراضه غير عادية وواضحة، ما يسمح بالحجر الصحي الفعال وتتبع طرق المخالطة.
لكن وباء الجدري في حينه كان مروعاً، حيث استمر الوباء في اجتياح العالم طيلة 3000 عام على الأقل.
يصاب الأفراد المصابون بالفيروس بالحمى، ثم يتحول الطفح الجلدي إلى بقع مليئة بالصديد قبل أن تجف وتسقط، تاركة ندوباً. قتل المرض ثلاثة من كل عشرة من ضحاياه، غالباً بعد معاناة شديدة.
كان آخر شخص أصيب بالجدري بشكل طبيعي هو علي ماو مالين، طاهٍ بمستشفى في الصومال، عام 1977، وتعافى لكنه مات بسبب الملاريا عام 2013.

الإنفلونزا المنسية
لا يزال الناس يذكرون الإنفلونزا التي ضربت العالم عام 1918 كمثال للدمار الوبائي وقيمة الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي. فقبل أن تنتهي، قتلت الإنفلونزا ما بين 50 مليوناً و100 مليون شخص في جميع أنحاء العالم. كانت تفترس الصغار والكبار في منتصف العمر، ويتّمت الأطفال، وحرمت العائلات من معيليها، وقتلت الجنود في خضم الحرب العالمية الأولى.
وبعد اجتياح العالم، تلاشت الإنفلونزا، لكنها تطورت لتتخذ شكلاً مختلفاً من الإنفلونزا الأكثر اعتدالاً التي نراها كل عام. وقال الدكتور سنودن: «ربما كان الأمر أشبه بالحريق الذي يحرق الخشب المتاح، وكل ما يصل إليه اللهب بسهولة».
انتهى الوباء اجتماعياً أيضاً. فقد انتهت الحرب العالمية الأولى، وكان الناس مستعدين لبداية جديدة وعصر جديد وكانوا حريصين على ترك كابوس المرض والحرب وراءهم. ومنذ وقت قريب فقط، نسي الناس إنفلونزا 1918 إلى حد كبير. تلت ذلك أوبئة إنفلونزا أخرى، لكن لم يكن هناك شيء بالغ السوء. في إنفلونزا هونغ كونغ عام 1968، توفي مليون شخص في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك 100 ألف شخص في الولايات المتحدة، معظمهم من كبار السن الذين تجاوزوا 65 عاماً. ولا يزال هذا الفيروس ينتشر كإنفلونزا موسمية.

كيف سينتهي «كورونا»؟
يقول المؤرخون إن أحد الاحتمالات هو أن جائحة فيروس كورونا يمكن أن تنتهي اجتماعياً قبل أن تنتهي طبياً. قد يتعب الناس من القيود لدرجة أنهم يعلنون نهاية الوباء، حتى مع استمرار انتشار الفيروس بين السكان وقبل العثور على لقاح أو علاج فعال.
وبهذا المعنى، قالت المؤرخة ييل نعومي روجرز: «أعتقد أن هناك نوعاً من القضايا النفسية الاجتماعية الناجمة عن الإرهاق والإحباط. قد نصل إلى لحظة يقول الناس فيها: هذا يكفي. يجب أن أعود إلى حياتي العادية».
حدث هذا بالفعل. ففي بعض الولايات، رفع المحافظون القيود، مما سمح بإعادة فتح صالونات تصفيف الشعر وصالونات الأظافر والصالات الرياضية، في تحدٍ لتحذيرات مسؤولي الصحة العامة من أن هذه الخطوات سابقة لأوانها. ومع تزايد الكارثة الاقتصادية التي سببتها عمليات الإغلاق، قد نسمع المزيد والمزيد من الناس يقولون: «كفاية».
* خدمة «نيويورك تايمز»


مقالات ذات صلة

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

صحتك أطباء يحاولون إسعاف مريضة بـ«كورونا» (رويترز)

«كورونا» قد يساعد الجسم في مكافحة السرطان

كشفت دراسة جديدة، عن أن الإصابة بفيروس كورونا قد تساعد في مكافحة السرطان وتقليص حجم الأورام.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
أوروبا الطبيب البريطاني توماس كوان (رويترز)

سجن طبيب بريطاني 31 عاماً لمحاولته قتل صديق والدته بلقاح كوفيد مزيف

حكم على طبيب بريطاني بالسجن لأكثر من 31 عاماً بتهمة التخطيط لقتل صديق والدته بلقاح مزيف لكوفيد - 19.

«الشرق الأوسط» (لندن )
الاقتصاد السعودية تصدرت قائمة دول «العشرين» في أعداد الزوار الدوليين بـ 73 % (واس)

السعودية الـ12 عالمياً في إنفاق السياح الدوليين

واصلت السعودية ريادتها العالمية بقطاع السياحة؛ إذ صعدت 15 مركزاً ضمن ترتيب الدول في إنفاق السيّاح الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
صحتك تم تسجيل إصابات طويلة بـ«كوفيد- 19» لدى أشخاص مناعتهم كانت غير قادرة على محاربة الفيروس بشكل كافٍ (رويترز)

قرار يمنع وزارة الصحة في ولاية إيداهو الأميركية من تقديم لقاح «كوفيد»

قرر قسم الصحة العامة الإقليمي في ولاية إيداهو الأميركية، بأغلبية ضئيلة، التوقف عن تقديم لقاحات فيروس «كوفيد-19» للسكان في ست مقاطعات.

«الشرق الأوسط» (أيداهو)
أوروبا أحد العاملين في المجال الطبي يحمل جرعة من لقاح «كورونا» في نيويورك (أ.ب)

انتشر في 29 دولة... ماذا نعرف عن متحوّر «كورونا» الجديد «XEC»؟

اكتشف خبراء الصحة في المملكة المتحدة سلالة جديدة من فيروس «كورونا» المستجد، تُعرف باسم «إكس إي سي»، وذلك استعداداً لفصل الشتاء، حيث تميل الحالات إلى الزيادة.

يسرا سلامة (القاهرة)

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.