«فورين بوليسي»: السعودية الفائز غير المتوقع من انهيار أسعار النفط 2020

أكد البروفيسور جيسون بوردوف، المستشار السابق لشؤون الطاقة في إدارة باراك أوباما ورئيس مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا، أن حالة التردي النفطي التي يعيشها العالم حالياً، ترسي لفترة من ازدهار الأسعار في السنوات المقبلة، وتنامي عائدات السعودية، مشيراً إلى أن السعودية تثبت يوماً بعد آخر أن أوضاعها المالية قادرة على امتصاص عاصفة كتلك التي يواجهها العالم اليوم.
وأوضح البروفيسور بوردوف في تقرير اقتصادي نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية، أنه على خلاف الحال مع غالبية الدول الأخرى المصدرة للنفط، تحظى المملكة باحتياطيات مالية ضخمة، بل وأظهرت قدرتها على الاقتراض أيضاً، متوقعاً أن تخرج المملكة من محنة الوباء أقوى اقتصادياً وجيوسياسياً، على رغم أن عام 2020 سيبقى محفوراً في الأذهان باعتباره عاماً دموياً على الدول النفطية، إذ سينتهي الحال بالسعودية إلى كسب عائدات نفطية أكبر والتمتع بحصة أكبر في السوق النفطية بمجرد استقرارها، وذلك بفضل إجراءات خفض الإنتاج وإجراءات الإغلاق التي فرضها الانهيار الاقتصادي العالمي.

وفي ما يلي نص التقرير كما نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية:
مع خضوع 4 مليارات نسمة حول العالم لحالة إغلاق وحظر في وقت يتفاقم وباء فيروس «كورونا»، يعاين الطلب على الغازولين ووقود النفاثات والمنتجات البترولية الأخرى حالة من السقوط الحر، وكذلك الحال مع أسعار النفط. وتراجع سعر برميل النفط الخام داخل الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة لدرجة أن البائعين أصبحوا يدفعون للناس مقابل أخذه بعيداً عن أيديهم. وعليه، تكابد الاقتصاديات المعتمدة على النفط حالة من الترنح. في الولايات المتحدة، أكبر منتج للنفط عالمياً، تراجعت أعداد الحفارات التي تنقب عن النفط بنسبة 50 في المائة في غضون شهرين فقط، في الوقت الذي قد يتعرض 40 في المائة من منتجي النفط والغاز الطبيعي للإفلاس في غضون عام. وتشير توقعات إلى أن 220.000 من العاملين بالمجال النفطي سيفقدون وظائفهم. وبمختلف جنبات العالم، تواجه الدول البترولية من نيجيريا إلى العراق إلى كازاخستان صعوبات كبيرة، بينما تعاني عملاتها من انهيار كامل. وتعايش بعض هذه الدول، مثل فنزويلا، حالة يمكن وصفها بالهاوية اجتماعياً واقتصادياً.
ورغم أن عام 2020 سيبقى محفوراً في الأذهان باعتباره عاماً دموياً على الدول النفطية، ثمة دولة واحدة منها يشير الاحتمال الأكبر إلى أنها ستخرج من محنة الوباء أقوى اقتصادياً وجيوسياسياً: المملكة العربية السعودية.
بادئ ذي بدء، تثب السعودية يوماً بعد آخر أن أوضاعها المالية قادرة على امتصاص عاصفة كتلك التي يواجهها العالم اليوم. بطبيعة الحال تخلق أسعار النفط المنخفضة مشكلات مؤلمة لبلد بحاجة إلى سعر يقارب 80 دولاراً للبرميل كي تحقق توازناً في موازنتها العامة. ولهذا السبب، خفضت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني التوقعات المالية للسعودية، الجمعة الماضية. في الوقت ذاته، تعرضت السعودية لعجز بالموازنة بقيمة 9 مليار دولار خلال الربع الأول من 2020. ومثلما الحال مع دول أخرى، شهدت المملكة تراجع عائداتها الضريبية مع فرض قيود اقتصادية سعياً لوقف تفشي الوباء.
الأسبوع الماضي، قال وزير المالية السعودي إن الإنفاق الحكومي سيتعين «خفضه بشدة»، في الوقت الذي سيجري إرجاء تنفيذ بعض عناصر خطة التنويع الاقتصادي المعروفة باسم «رؤية 2030».
ومع هذا، فإنه على خلاف الحال مع غالبية الدول الأخرى المصدرة للنفط، تحظى المملكة باحتياطيات مالية ضخمة، بل وأظهرت قدرتها على الاقتراض أيضاً. في 22 أبريل (نيسان)، أعلن وزير المالية أن المملكة قد تقترض ما يصل إلى 58 مليار دولاراً عام 2020. جدير بالذكر هنا أنه مقارنة بمعظم الاقتصاديات الأخرى، تتسم السعودية بمعدل منخفض نسبياً من الديون مقابل إجمالي الناتج الداخلي: 24 في المائة في نهاية عام 2019، وإن الرقم قد أخذ في الارتفاع في الفترة الأخيرة.
أيضاً، ذكر وزير المالية إن بلاده ستسحب ما يصل إلى 32 مليار دولار من احتياطاتها المالية. وفي ظل وجود 474 مليار دولار لدى البنك المركزي في صورة احتياطات من النقط الأجنبي، تبقى السعودية مرتفعة على نحو جيد عن مستوى الـ300 مليار دولار تقريباً التي يعتبرها كثيرون الحد الأدنى الواجب توافره لحماية العملة الوطنية، الريال، المرتبط بالدولار.
ثانياً: سينتهي الحال بالسعودية إلى كسب عائدات نفطية أكبر والتمتع بحصة أكبر في السوق النفطية بمجرد استقرارها، وذلك بفضل إجراءات خفض الإنتاج وإجراءات الإغلاق التي فرضها الانهيار الاقتصادي العالمي. في الواقع ترسي حالة التردي النفطي الحالية الأساس لفترة من ازدهار الأسعار في السنوات المقبلة ـ وتنامي عائدات السعودية.
ورغم الشكوك الكبيرة المحيطة بتوقعات الطلب المستقبلي على النفط، فإنه بمجرد تجاوز الأزمة الآنية، من المحتمل أن يرتفع الطلب بمعدل أسرع عن العرض.
من جهتها، تتوقع الإدارة الأميركية لمعلومات الطاقة أن يعود الطلب العالمي على النفط إلى مستويات ما قبل الوباء بحلول نهاية 2020. أيضاً، تبدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ذات القدر تقريباً من التفاؤل، وتتوقع أن يكون الطلب أقل بنسبة تتراوح بين 2 و3 في المائة فقط عن متوسط عام 2019 البالغ 100 مليون برميل يومياً وذلك بحلول نهاية العام.
إلا أنه بطبيعة الحال إذا ما استمرت إجراءات احتواء الوباء لفترة أطول عن المتوقع أو وقعت موجة تفشي ثانية للفيروس، ستستغرق عملية التعافي وقتاً أطول. ومع ذلك، ما تزال غالبية السيناريوهات تتوقع تعافي الطلب نهاية الامر.
ومع أن التغييرات في أسلوب الحياة قد تقلص الطلب المستقبلي على النفط، توحي البيانات المتوافرة بضرورة التحلي بالحذر والتشكك إزاء التوقعات المتعلقة بحدوث تغييرات دائمة. في الصين، على سبيل المثال، عادت معدلات التنقل بالسيارات واستخدام الشاحنات في صناعة الشحن بالفعل تقريباً إلى مستوى العام الماضي، وإن كان السفر جواً ـ الذي يشكل بجانب الشحن الجوي 8 في المائة من الطلب العالمي على النفط ـ ما يزال متراجعاً على نحو حاد. في الواقع، يمكن أن يتلقى الطلب على النفط دفعة إذا ما قرر مزيد من الأفراد أن السيارات الخاصة تجعلهم يشعرون بقدر أكبر من الأمان عن وسائل النقل العامة المزدحمة. أيضاً، من المحتمل أن تحبط التوقعات التي ترى أن السياسات المعنية بالمناخ يمكن أن تقلص الطلب على النفط. في الواقع، تحمل المصاعب الاقتصادية التي فرضها الوباء في طياتها مخاطرة تقويض طموحات السياسات البيئية، وكذلك الحال مع التحول الحالي باتجاه الانعزال وبعيداً عن نمط التعاون العالمي اللازم لإقرار سياسات مناخية فاعلة.
في المقابل، سيتطلب العرض النفطي وقتاً أطول للعودة إلى مستوياته السابقة مع خسارة الإنتاج المغلق، وإلغاء الاستثمارات في مصادر عرض جديدة وتباطؤ وتيرة ثورة إنتاج النفط من الطفل الصفحي في الولايات المتحدة. ومع اقتراب المخزونات النفطية العالمية من حدها الأقصى ـ ستصبح الخزانات الأرضية ممتلئة خلال هذا الشهر ـ فإن أعداداً غير مسبوقة من الآبار النفطية المنتجة سيتعين إغلاقها. ومن شأن ذلك المخاطرة بالإضرار بالخزانات. وبعض من هذا العرض سيفقده العالم إلى الأبد، والبعض الآخر سيتطلب قدراً كبيراً من الوقت والاستثمارات لاستعادته. من ناحيتها، تتوقع مؤسسة «إنيرجي أسبكتس» الاستشارية العاملة بمجال النفط، إمكانية أن تواجه 4 ملايين برميل يومياً من العرض مخاطرة التعرض لأضرار شبه دائمة.
من ناحية أخرى، قلصت شركات نفطية كبرى مثل «شيفرون» و«إكسون موبيل» النفقات الرأسمالية لديها استجابة لانهيار الأسعار. وحتى من دون أي نمو في الطلب على النفط، فإنه يجب توفير حوالي 6 مليون برميل يومياً من معروض نفطي جديد سنوياً فقط من أجل تعويض التراجع في الإنتاج الطبيعي. علاوة على ذلك، فإن عدداً من المستثمرين بدأ بالفعل في التحول بعيداً عن النفط بسبب رداءة مستوى عائدات صناعة النفط وتنامي الضغوط السياسية والاجتماعية المرتبطة بها.
وسيتطلب الإنتاج النفطي الأميركي من الطفل الصفحي، على وجه الخصوص، سنوات للعودة إلى مستوياته فيما قبل فيروس «كورونا». وتبعاً لمدى استمرار انخفاض الطلب على النفط، فإن الإنتاج النفطي الأميركي من المتوقع أن ينخفض بنسبة 30 في المائة عن ذروته قبل فيروس «كورونا» البالغة قرابة 13 مليون برميل يومياً.
المؤكد أن تعافي أسعار النفط سترفع الإنتاج الأميركي مجدداً. وما يزال إنتاج النفط من الطفل الصفحي اقتصادياً، خاصة فيما يخص الشركات صاحبة الوضع الرأسمالي الجيد التي ستظهر مع تغيير ملكية أصول الشركات المفلسة واستعادة الصناعة عافيتها.
ومع هذا، فإن النمو الشديد في السنوات الأخيرة (مع نمو الإنتاج بمعدل ما بين 1 و1.5 مليون برميل يومياً كل عام) عكس كذلك وفرة غير منطقية في الأسواق المالية. في الواقع، تمكنت الكثير من الشركات المالية التي تجابه صعوبة التعامل مع إنتاج غير اقتصادي، من البقاء على قيد الحياة فقط بفضل ضخ دفقات من الديون منخفضة التكلفة. في الواقع ربما يكون ربع الشركات الأميركية العاملة بمجال إنتاج النفط من الطفل الصفحي غير اقتصادية حتى من قبل انهيار الاقتصاد، حسبما يرى إد مورس، الذي يعمل لدى مؤسسة «سيتي غروب». من جانبه، يقدر المحلل السابق لدى مؤسسة «غولدمان ساكس»، أرجون مورتي، أنه حتى مع تعافي أسعار النفط الأميركية إلى حوالي 50 دولاراً للبرميل، فإن نمو الإنتاج الأميركي السنوي سيأتي عند نقطة ما بين الصفر و500.000 برميل يومياً، ما يشكل مستوى لا يقارن بما كان عليه الحال سابقاً.
الحقيقة أنه مع إعداد فيروس «كورونا» الساحة لأسواق نفطية أشد وعورة وأسعار أعلى، فإن السعودية وعدد من الدول الخليجية الأخرة وروسيا لن تستفيد فحسب من الأسعار الأعلى، وإنما ستجد أيضاً أمامها فرصاً لتعزيز نصيبها في السوق وبيع مزيد من النفط.
وحتى اليوم في ظل التراجع الحاد في الأسعار، تناقش السعودية والكويت ضخ مزيد من النفط إلى السوق من الحقل القائم عبر حدود البلدين. بينما الدول الأعضاء في منظمة «أوبك» الأخرى الأكثر هشاشة من الناحية الاقتصادية، فإنها قد تواجه صعوبة أكبر في الاستثمار في إعادة بدء والحفاظ على (ناهيك عن زيادة) العرض، وبالتالي فإن نمو الإنتاج لديها قد يكون بطيئاً. وهذا تحديداً ما حدث في إيران والعراق ونيجيريا وفنزويلا في أعقاب انهيار أسعار النفط 1998-1999.
وأخيراً، فإنه من خلال تعزيزها تحالفها المتوتر مع الولايات المتحدة وإعادة إقرارها لمكانتها باعتبارها منتج عالمي للنفط قادر على تغيير مسار دفة السوق العالمية، عززت السعودية من مكانتها الجيوإستراتيجية. ومع تهافت كبار منتجي ومستهلكي النفط من أجل الحيلولة دون إغراق العرض الزائد من النفط منشآت التخزين العالمية، فإنهم تحولوا بأعينهم أخيراً نحو السعودية كي تقود منظمة «أوبك» والدول المنتجة الكبرى الأخرى في إقرار خفض تاريخي في الإنتاج. ورغم كل الحديث الدائر حول حصص الإنتاج في تكساس او خلق تكتل نفطي عالمي جديد عبر مجموعة الـ20، كان اللجوء إلى الرياض الخيار الوحيد الحقيقي المتاح أمام صناع السياسات نهاية الأمر ـ مثلما كان الحال دوماً منذ فترة طويلة. ويعود ذلك إلى أن السعودية لطالما كانت الدولة الوحيدة المستعدة للاحتفاظ بقدر كبير من القدرة الإنتاجية الإضافية، الأمر الذي يكبدها تكلفة كبيرة، مما يمكنها من زيادة أو خفض الإنتاج إلى ومن السوق بسرعة. وتمنح هذه المكانة الاستثنائية المملكة ليس فقط نفوذاً على مستوى سوق النفط العالمية، وإنما أيضاً نفوذاً جيوسياسياً كبيراً.
ومن خلال قيادتها جهود خفض الإنتاج داخل «أوبك»، نجحت السعودية في تذكير روسيا بأنه ليس بإمكان موسكو السير منفردة، مثلما حاولت عندما انحسبت من مفاوضات «أوبك» في مارس (آذار) وأشعلت حرب أسعار. اليوم، تعتمد موسكو بدرجة أكبر على الرياض في إدارة السوق النفطية عما عليه الحال في الاتجاه المقابل، الأمر الذي يمنح السعودية اليد العليا في هذه العلاقة، الأمر الذي من المحتمل أن يترك تداعيات على الشرق الأوسط حيث تفرض موسكو وجوداً عسكرياً متنامياً وتنامي تحالفات لها مع دول منها سوريا، وعدو السعودية اللدود، إيران.
أيضاً، نجحت السعودية في تحسين وضعها في واشنطن، فبعد ضغوط مكثفة من البيت الأبيض وعدد من الأعضاء النافذين بمجلس الشيوخ، سيسهم استعداد السعودية للالتزام بخفض الإنتاج في إصلاح بعض الأضرار التي وقعت عندما ألقي اللوم على السعودية عن انهيار أسعار النفط بعدما رفعت إنتاجها بشدة في مارس. وربما تكون السعودية قد نجحت أيضاً في تقويض خطة لمشرعين أميركيين لتمرير تشريع معادي لـ«أوبك».