حتمية الجريمة واستحالة العقاب

بين فلسفة دوستويفسكي وسخرية وودي ألن

مشهد من فيلم «الحب والموت»
مشهد من فيلم «الحب والموت»
TT

حتمية الجريمة واستحالة العقاب

مشهد من فيلم «الحب والموت»
مشهد من فيلم «الحب والموت»

تستمد السينما الكثير من غناها باعتمادها على أصول أدبية. وكثيراً ما يتجادل عشاقها حول الأفلام التي تفوقت على أصولها الأدبية، وتلك التي أساءت إلى تلك النصوص. ذلك النقاش لم يعد له محل بخصوص دوستويفسكي والأفلام التي تستلهمه؛ إذ أدرك صناع السينما النبهاء أن كل رواية من رواياته بحر، يمكن أن يغرق الفيلم في مياهه، والأفضل الاكتفاء بغرفة منه وتذوقها على مهل.
وودي ألن أحد المبدعين الكبار في السينما الأميركية الذين أدركوا هذه الحقيقة، وعرف كيف يستعير لحظة أو ثيمة من دوستويفسكي ليبني منها فيلماً. اقتحم ألن الحياة الفنية في سن الخامسة عشرة عندما بدأ في تأليف النكت وبيعها لكُتَّاب الكوميديا، ولم يبدأ في الظهور مؤلفاً وممثلاً إلا بعد أن قدم للآخرين نحو 20 ألف نكتة.
معرفة هذه البداية ضرورية لفهم نزوع وودي ألن إلى المحاكاة في أفلامه بشكل عام؛ فالنكتة في جوهرها محاكاة. وهو يخص اثنين من السينمائيين بوقفة أطول من غيرهما: أنجريد برجمان وفدريكو فيليني، كما يتوقف مطولاً أمام كاتب واحد هو دوستويفسكي.
واحد من أفلامه المبكرة «love and death ـ 1975» محاكاة ساخرة للأدب الروسي، لكنه في الحقيقة محاكاة لدوستويفسكي على وجه الخصوص. يقف أمام تولستوي في «الحرب والسلام» وقفة ليست ضرورية، حيث يأخذ واقعة غزو نابوليون لروسيا، وهي حقيقة تاريخية عامة، وما عدا ذلك فليس في فيلم «الحب والموت» إلا وجوه دوستويفسكي. يمزج بين سيرته الشخصية وبين شخصيات العديد من رواياته، ويقوم ألن بالدور ناسجاً على منوال شارلي شابلن في الأداء، وقد احتفظ صانع النكت العتيد بالعديد منها ليوجهها ضد دوستويفسكي وأبطاله والروح الفلسفية التي تسم أعماله.
هل للفيلم علاقة بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي؟ سيرة المخرج تستبعد الإجابة بنعم، لكن السخرية من استطرادات دوستويفسكي الفلسفية في الفيلم بدت مضفورة بالسخرية من الروح القومية الروسية، مع السخرية من الخطاب الشيوعي الذي يصوروه الليبراليون وكأنه رص فارغ لكلمات كبيرة جوفاء.
على أي حال، كانت الاستعارة الثانية الواضحة من دوستويفسكي جدية وعميقة ككل قراءة ثانية (وهي ضرورية في حالة دوستويفسكي الذي لا يمكن الإحاطة بأبعاده من قراءة واحدة).
فيلم «جرائم وجنح» (Crimes and Misdemeanorsـ 1989) يمضي في خطين متوازيين، أحدهما يقدم حياة منتج أفلام وثائقي مُحبط مهنياً، ومحبط عاطفياً في ظل زواج بارد طويل، يقضي أوقاتاً طويلة مع ابنة أخته الطفلة، ويقابل منتجة برامج تلفزيونية ويقع في حبها لكنها تفضل عليه منتجاً تافهاً يصنع مسلسلات رائجة. والخط الثاني لطبيب عيون ناجح يدخل في علاقة عاطفية، وتبدأ العشيقة في الإلحاح على إعلان علاقتهما ثم تتمادى في تهديده، ولا يكون أمامه سوى الاستسلام لخطة شقيقه بالتخلص منها على يد قاتل محترف. لكن الطبيب العاشق يصاب بفزع بعد قتلها، ويذهب إلى الشقة في وجود الجثة، يحمل بعض الأشياء التي يمكن أن تشير إلى وجوده، لكنه يذكرنا بمخاطرة راسكولنيكوف عندما عاد إلى شقة القتيلة. ورغم الإفلات من المساءلة الجنائية يبقى للطبيب تأنيب الضمير، وتستيقظ في ذلك الرجل غير المتدين كل مبادئ تربيته الدينية.
خلال السرد في واحد من أطول أفلام ألن، تدور حوارات عن النازيين وأخلاقية القتل، وهل هذه الأخلاقية ذات تعريف واحد نزيه أم مرتبطة بالقوة؟ لو خرج هتلر منتصراً هل كان سيُعتبر مجرماً؟
رغم ارتكاز الفيلم على «الجريمة والعقاب»، إلا أننا لا نفتقد عطر روايات أخرى، مثل «مُذلون مهانون» في تشابه علاقة السينمائي المحبط وابنة أخته يتيمة الأب مع علاقة الكاتب المُحبط مع الطفلة اليتيمة صونيا، كما يمكننا أن نجد في علاقة الطبيب وشقيقه شيئاً من علاقة اثنين من أبناء كارامازوف: ديمتري المندفع الذي يهدد بقتل والده، وإيفان رجل الفلسفة الوجودي، الذي يوافق على الجريمة لكنه يسافر لكي يترك لديمتري تنفيذ تهديده دون أن يكون شاهداً.
تبدو المحاكاة قوية في جانبها الفني، لكن في المغزى الفكري يبدو الفيلم معارضة لدوستويفسكي؛ فالجريمة في عُرف وودي ألن هي دائماً بلا عقاب. هذا الاعتقاد يرجعه النقاد إلى أصول وودي ألن اليهودية، لكننا إذا ما تأملنا الأمر من الناحية الأخلاقية والعملية نجد أن استحالة العدالة هي الحقيقة. كيف يمكن أن نعتبر انتحار هتلر قصاصاً للملايين من ضحايا الحرب والمحارق؟ هل تساوي روح مهووس واحد ملايين الأرواح؟ وهل أعاد هذا الانتحار أحداً من الضحايا إلى الحياة؟ هل مسح انتحاره حزن الناجين على ذويهم القتلى؟
هذه أسئلة منطقية تدعم رؤية ألن الذي يعود إلى معاندة الأب دوستويفسكي، والتأكيد على فكرة استحالة العدالة في «نقطة المباراة ـ 2005» يستلهم ألن في ذلك الفيلم واقعة القتل من رواية «الجريمة والعقاب»، لكن كريس، مدرب التنس والقاتل في الفيلم لا يشبه راسكولنيكوف؛ بل يشبه الأمير ميشكين. سهولة وسرعة قبول كريس من أسرة ثرية وتزويجه ابنة هذه الأسرة يشبه السرعة التي تبنت بها أسرة الجنرال إبينتشن للأمير دون أن تستقصي حول ماضيه ونسبه.
العنوان (Match Point) يشير إلى اللحظة التي تصنع الفوز، وقد تكون بسبب صدفة تحول مسار الكرة. ولم يحظ الفيلم بالكثير من الترحيب في بريطانيا، حيث تجري أحداثه وفي الولايات المتحدة على السواء. وتركز الانتقاد حول الحوار الذي يجري بإنجليزية بريطانية مهجورة تبدو مستلة من كتاب تعليمي، بالإضافة إلى الجهل بجغرافيا لندن، حيث لا تبدو المعالم على الطبيعة بالقرب الذي بدت عليه في الفيلم، وكذلك هناك انتقادات على المستوى الفخم للحي والشقة التي أنزل فيها العشيقة العاطلة. لا شيء حول دوستويفسكي، الحاضر بروحه ونصه في الفيلم. بخلاف الانتقادات الأخرى يبدو الأخير مُبرراً استناداً إلى كامير وودي ألن، التي تأنف عينها من الأماكن القبيحة وتقدم المدن كأحلام طوباوية.
ضمن المشاهد الأولى نرى الشاب الطموح في سريره وبيده كتاب لدوستويفسكي. وفي مشهد آخر نرى حميه المستقبلي يخبر ابنته، في معرض التعبير عن إعجابه بخطيبها المحتمل، بأنه تحدث معه حول دوستويفسكي. وفي حوارات أخرى بين كريس وأبطال الفيلم الآخرين يبدو الفتى الآيرلندي متمسكاً بأن الحظ في الحياة هو الأساس لا المهارة. وهذا ينبثق من أحد هموم أبطال دوستويفسكي الراسخة: هل العالم منظم أم تحكمه المصادفات؟
بعد هذا الزرع المبكر لحضور دوستويفسكي، يتزوج المدرب الشاب من «كلو» ابنة العائلة الثرية، بينما تخلب لبه خطيبة شقيقها، وسرعان ما يقيم معها علاقة تثمر حملاً يهدد استقراره الأسري فيقرر قتل العشيقة، لكنه سيفعل ذلك بنفسه على طريقة راسكولنيكوف، ناسخاً خطة وملابسات قتله للمرابية العجوز في «الجريمة والعقاب».
وينتج عن القتل إزهاق ثلاثة أرواح: عجوز وشابة في بطنها جنين، لكن مع اختلاف في التفاصيل. راسكولنيكوف استهدف قتل المرابية العجوز، وعادت شقيقتها الحامل فجأة فتخلص منها، بينما استهدف «كريس» الشابة الحامل وقتل معها جارتها العجوز، لتبدو الواقعة جريمة سرقة!
بخلاف فيلم «جرائم وجنح» يقترب كريس في «نقطة المباراة» من دائرة الاتهام بشكل صريح، لكن المحققين يريدان إغلاق القضية، بفعل الضجر من عدد الجرائم المشابهة مع لمحة من تعاطف، وكأنهما يريدان منح القاتل غير المحترف فرصة في الحياة، ما يذكرنا بالمحقق زاميوتف في «الجريمة والعقاب» كان متعاطفاً كذلك مع القاتل، لكن لديه فضولاً مهنيً، وليس كسولاً ولا سئماً كالمحققين الإنجليزيين. شدد زاميوتف الخناق على راسكولنيكوف حتى اعترف له بأنه القاتل بجلسات ودية خارج مكاتب الشرطة، وعندما توجه راسكولنيكوف إلى مركز الشرطة ليعترف له رسمياً وجده قد استقال، لكن راسكولنيكوف سيعترف لضابط آخر ويذهب إلى السجن، بينما، يعمد وودي ألن إلى إفلات المجرم مرة أخرى من العقاب، مع ذلك لم يعد إلى السخرية من التعقيدات النفسية والأخلاقية التي يطرحها دوستويفسكي!



أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك
TT

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

أليخاندرا بيثارنيك
أليخاندرا بيثارنيك

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية ضد مظاهرة للطلبة في تلاتيلوكو عام 1968. وعلى الرغم من مشاعر الاحترام التي تكنها الشاعرة لزميلها المكسيكي الكبير فإنها لم تستطع تلبية طلبه هذا، لأنها وجدت القصيدة سيئة. ربما يكون هذا مقياساً لعصرنا الذي ينطوي من جديد على صحوة سياسية، ليس أقلها بين الشباب، وفي الوقت الذي تتعرض فيه الشرطة للمتظاهرين وتطلق النار عليهم كما حدث عام 1968، فإن شاعرة «غير سياسية» بشكل نموذجي مثل أليخاندرا بيثارنيك تشهد اليوم انبعاثاً جديداً، ففي إسبانيا لقيت أعمالها الشعرية نجاحاً حقيقياً وهي مدرجة بانتظام في قوائم أهم شعراء اللغة الإسبانية للألفية الفائتة، وهي تُقرأ وتُذكر في كل مكان، بالضبط كما حدث ذلك في الأرجنتين خلال السبعينات.

وإذا لم أكن مخطئاً، فإن هذا النوع المميز من شعرها «الخالص» يُفهم على أنه أبعد ما يكون عن السياسة. إن انجذابها للاعتراف، وسيرتها الذاتية الأساسية، إلى جانب التعقيد اللغوي، تمنح شعرها إمكانية قوية لمحو الحدود بين الحياة والقصيدة، تبدو معه كل استعراضات الواقع في العالم، كأنها زائفة وتجارية في الأساس. إنها تعطينا القصيدة كأسلوب حياة، الحياة كمعطى شعري. وفي هذا السياق يأتي شعرها في الوقت المناسب، في إسبانيا كما في السويد، حيث يتحرك العديد من الشعراء الشباب، بشكل خاص، في ما بين هذه الحدود، أي بين الحياة والقصيدة.

تماماَ مثل آخرين عديدين من كبار الشعراء في القرن العشرين كانت جذور أليخاندرا بيثارنيك تنتمي إلى الثقافة اليهودية في أوروبا الشرقية. هاجر والداها إلى الأرجنتين عام 1934 دون أن يعرفا كلمة واحدة من الإسبانية، وبقيا يستخدمان لغة اليديش بينهما في المنزل، وباستثناء عم لها كان يقيم في باريس، أبيدت عائلتها بالكامل في المحرقة. في الوطن الجديد، سرعان ما اندمجت العائلة في الطبقة الوسطى الأرجنتينية، وقد رزقت مباشرة بعد وصولها بفتاة، وفي عام 1936 ولدت أليخاندرا التي حملت في البداية اسم فلورا. لقد كانت علاقة أليخاندرا بوالديها قوية وإشكالية في الوقت نفسه، لاعتمادها لوقت طويل اقتصادياً عليهما، خاصة الأم التي كانت قريبة كثيراً منها سواء في أوقات الشدة أو الرخاء، وقد أهدتها مجموعتها الأكثر شهرة «استخلاص حجر الجنون».

في سن المراهقة كرست أليخاندرا حياتها للشعر، أرادت أن تكون شاعرة «كبيرة» ووفقاً لنزعات واتجاهات الخمسينات الأدبية ساقها طموحها إلى السُريالية، وربما كان ذلك، لحسن حظها، ظرفاً مؤاتياً. كما أعتقد بشكل خاص، أنه كان شيئاً حاسماً بالنسبة لها، مواجهتها الفكرة السريالية القائلة بعدم الفصل بين الحياة والشعر. ومبكراً أيضاً بدأت بخلق «الشخصية الأليخاندرية»، ما يعني من بين أشياء أُخرى أنها قد اتخذت لها اسم أليخاندرا. ووفقاً لواحد من كتاب سيرتها هو سيزار آيرا، فإنها كانت حريصة إلى أبعد حد على تكوين صداقات مع النخب الأدبية سواء في بوينس آيرس أو في باريس، لاحقاً، أيضاً، لأنها كانت ترى أن العظمة الفنية لها جانبها الودي. توصف بيثارنيك بأنها اجتماعية بشكل مبالغ فيه، في الوقت الذي كانت نقطة انطلاق شعرها، دائماً تقريباً، من العزلة الليلية التي عملت على تنميتها أيضاً.

بعد أن عملت على تثبيت اسمها في بلادها ارتحلت إلى باريس عام 1960، وسرعان ما عقدت صداقات مع مختلف الشخصيات المشهورة، مثل خوليو كورتاثار، أوكتافيو باث، مارغريت دوراس، إيتالو كالفينو، وسواهم. عند عودتها عام 1964 إلى الأرجنتين كانت في نظر الجمهور تلك الشاعرة الكبيرة التي تمنت أن تكون، حيث الاحتفاء والإعجاب بها وتقليدها. في السنوات التالية نشرت أعمالها الرئيسية وطورت قصيدة النثر بشكليها المكتمل والشذري، على أساس من الاعتراف الذي أهلها لأن تكون في طليعة شعراء القرن العشرين. لكن قلقها واضطرابها الداخلي سينموان أيضاً ويكتبان نهايتها في الأخير.

أدمنت أليخاندرا منذ مراهقتها العقاقير الطبية والمخدرات وقامت بعدة محاولات للانتحار لينتهي بها المطاف في مصحة نفسية، ما ترك أثره في كتابتها الشعرية، بطبيعة الحال. وهو ما يعني أنها لم تكن بعيدة بأي حال عن الموت أو الأشكال المفزعة، إلى حد ما، في عالم الظل في شعرها بما يحوز من ألم، يعلن عن نفسه غالباً، بذكاء، دافعا القارئ إلى الانحناء على القصيدة بتعاطف، وكأنه يستمع بكل ما أوتي من مقدرة، ليستفيد من كل الفروق، مهما كانت دقيقة في هذا الصوت، في حده الإنساني. على الرغم من هذه الحقيقة فإن ذلك لا ينبغي أن يحمل القارئ على تفسير القصائد على أنها انعكاسات لحياتها.

بنفس القدر عاشت أليخاندرا بيثارنيك قصيدتها مثلما كتبت حياتها، والاعتراف الذي تبنته هو نوع ينشأ من خلال «التعرية». إن الحياة العارية تتخلق في الكتابة ومن خلالها، وهو ما وعته أليخاندرا بعمق. في سن التاسعة عشرة، أفرغت في كتابها الأول حياتها بشكل طقوسي وحولتها إلى قصيدة، تعكس نظرة لانهائية، في انعطافة كبيرة لا رجعة فيها وشجاعة للغاية لا تقل أهمية فيها عن رامبو. وهذا ما سوف يحدد أيضاً، كما هو مفترض، مصيرها.

وهكذا كانت حياة أليخاندرا بيثارنيك عبارة عن قصيدة، في الشدة والرخاء، في الصعود والانحدار، انتهاءً بموتها عام 1972 بعد تناولها جرعة زائدة من الحبوب، وقد تركت على السبورة في مكتبها قصيدة عجيبة، تنتهي بثلاثة نداءات هي مزيج من الحزن والنشوة:«أيتها الحياة/ أيتها اللغة/ يا إيزيدور».

ومما له دلالته في شعرها أنها بهذه المكونات الثلاثة، بالتحديد، تنهي عملها: «الحياة»، و«اللغة»، و«الخطاب» (يمثله المتلقي). هذه هي المعايير الرئيسية الثلاثة للاحتكام إلى أسلوبها الكتابي في شكله المتحرك بين القصائد المختزلة المحكمة، وقصائد النثر، والشظايا النثرية. ولربما هذه الأخيرة هي الأكثر جوهرية وصلاحية لعصرنا، حيث تطور بيثارنيك فن التأمل والتفكير الذي لا ينفصل مطلقاً عن التشابك اللغوي للشعر، لكن مع ذلك فهو يحمل سمات الملاحظة، أثر الذاكرة، واليوميات. في هذه القصائد يمكن تمييز نوع من فلسفة الإسقاط. شعر يسعى إلى الإمساك بالحياة بكل تناقضاتها واستحالاتها، لكن لا يقدم هذه الحياة أبداً، كما لو كانت مثالية، وبالكاد يمكن تعريفها، على العكس من ذلك يخبرنا أن الحياة لا يمكن مضاهاتها أو فهمها، لكن ولهذا السبب بالتحديد هي حقيقية. في قصائد أليخاندرا بيثارنيك نقرأ بالضبط ما لم نكنه وما لن يمكن أن نكونه أبداً، حدنا المطلق الذي يحيط بمصيرنا الحقيقي الذي لا مفر منه، دائماً وفي كل لحظة.

* ماغنوس وليام أولسون Olsson ـ William Magnus: شاعر وناقد ومترجم سويدي. أصدر العديد من الدواوين والدراسات الشعرية والترجمات. المقال المترجَم له، هنا عن الشاعرة الأرجنتينية أليخاندرا بيثارنيك، هو بعض من الاهتمام الذي أولاه للشاعرة، فقد ترجم لها أيضاً مختارات شعرية بعنوان «طُرق المرآة» كما أصدر قبل سنوات قليلة، مجلداً عن الشاعرة بعنوان «عمل الشاعر» يتكون من قصائد ورسائل ويوميات لها، مع نصوص للشاعر وليام أولسون، نفسه. وفقاً لصحيفة «أفتون بلادت». على أمل أن تكون لنا قراءة قادمة لهذا العمل. والمقال أعلاه مأخوذ عن الصحيفة المذكورة وتمت ترجمته بإذن خاص من الشاعر.