شهرزاد لا تسكت عن الكلام المباح... برفقة كيليطو

عودة جديدة إلى «الليالي» وأسرارها الدفينة

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو
TT

شهرزاد لا تسكت عن الكلام المباح... برفقة كيليطو

عبد الفتاح كيليطو
عبد الفتاح كيليطو

يعود الناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو إلى «ألف ليلة وليلة»؛ هو أصلاً لم يفارق «الليالي»، هذه التحفة الأدبية التي لا يمل من قراءتها واستنباط أسرارها، وربطها بكبريات النصوص الأدبية العالمية. هذه المرة، مع عنوان لافت آخر، لا يقل إثارة عن كتبه السابقة، مثل «العين والإبرة» و«قولوا لي الحلم»، و«لن تتكلم لغتي». يطل علينا كيليطو بعنوان «من نبحث عنه بعيداً يقطن قربنا»، مستلاً إياه من «يوميات» كافكا، ويكاد يكون تلخيصاً مكثفاً مقطراً لقصة «لص بغداد» في «ألف ليلة وليلة» التي هي من بين ما يعالجه في الكتاب.
المؤلَّف الجديد ترجمه إسماعيل أزيات عن الفرنسية، وصادر عن «دار توبقال»، وهو كما كتب كيليطو السابقة يتجاوز المائة صفحة بقليل، مكتنز، لا مكان للإنشائية فيه، يرصد خفايا بعض قصص «ألف ليلة وليلة» بعيون العاشق للسرد العربي -وهو شغوف بالمقامات أيضاً- المتبحر في نسخها وترجماتها وما كتب عنها. وهذا ما يتيح للكاتب ليس فقط إعادة قراءة النص بعينه الناقدة العالمة، بل إطلاعنا على قراءات كبار الكتاب الذين قضوا سنواتهم مع هذا المؤلّف، بعد أن اكتسب أهمية كبرى في الغرب، فيما بقي أبناء العربية ينظرون إليه من دونية إلى أن جاءهم التنبيه من أوروبا.
تلك ناحية تشغل كيليطو، وتجعله يتمعن فيما كتبه الفذّ بورخيس، وما اقتبسه مارسيل بروست، وكيف تأثر بهذه القصص العجائبية وأسلوبها السردي في كتابه الشهير «البحث عن الزمن الضائع»، حيث إن «طفولة بروست، في إحدى جوانبها، ملفوفة بحكايات شهرزاد، وبالمنافسة بين الترجمتين الفرنسيتين اللتين كانتا متاحتين له في ذلك الوقت، ترجمة غالان وترجمة ماردروس». ويأخذنا إلى ما كتبه بلزاك عن هذه التحفة، وهو ينعت كتابه «الكوميديا الإنسانية» بأنه «ألف ليلة وليلة» الغرب، وكذلك يحدثنا عن الليالي بالنسبة لسان سيمون، معتبراً إياها بمثابة الكتاب الذي يطمح إلى تأليفه.
ولا تنقص كيليطو المهارة كي يدخلك من باب ويخرجك من آخر وهو يطوف بك في صفحات هؤلاء الكتّاب، على غرار ما تفعله شهرزاد حين تتداخل قصصها، وتستطرد في سرد إحداها قبل أن تردك إلى الحكاية الرئيسية، فتشعر أنك تكاد تفقد الخيط الرئيسي، لولا أنها تنبهت في الوقت المناسب.
والكتاب الجديد هو مجموعة من الدراسات كتبت متفرقة، لكنها تتكامل فيما بينها. والبداية هي من لحظة تعرض شهريار وأخوه شاه زمان للخيانة من زوجتيهما، ولقاؤهما الجني الذي يحمل على رأسه صندوقاً زجاجياً، يسحب منه علبة، ومن العلبة تخرج صبية غراء بهية. وبعد أن تجبرهما على مجامعتها في غفلة من الجني «تخرج من جيبها كيساً يحتوي على عقد مؤلف من خمسمائة وسبعين خاتماً، وتقول: «أصحاب هذه الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت، فأعطياني خاتميكما أنتما الاثنان الآخران».
هذه الحكاية التمهيدية تأتي قبل الألف ليلة وليلة التي تقصها شهرزاد. ويكتب كيليطو: «هنا يتجلى حذق المؤلف المجهول لليالي، وربما بصورة أدق، حذق المؤلفين الذين نسجوا هذه الحكاية المتفردة، وهم يفكرون في معمار الكتاب، وصياغته المتشكلة من منعرجات ومنعطفات. تمهد الصبية لظهور شهرزاد، وتعلن برقة ونعومة شكل ومحتوى ما سيكون عليه الكتاب: خواتم في كيس». ويشرح كيليطو وهو يستند إلى رأي شيق للويس بورخيس، مفاده أن زيادة ليلة إلى الألف في عنوان هذا الكتاب الاستثنائي لم تأتِ لتحدد العدد، وإنما لتوحي للقارئ بأن القصد هو لا نهائية الليالي والقصص، وكذا هو حال الخواتم التي جمعتها الصبية في كيسها، فليس المهم عددها، وإنما كثرتها وتناميها.
وحين نصل مع كيليطو إلى «حكاية إفلاس رجل من بغداد»، نراه يحدثنا عن مخلوق يحركه حلم، ويلعب دوراً رئيساً في كتابة مصيره، حين يشد الرحال مسافراً إلى مصر، تلبية لنداء جاءه في منامه، قائلاً له: «إن رزقك في مصر، فتوجه له». لكنه بوصوله إلى هناك، بدل أن يرزق بما وعد به، يضرب من قبل الوالي حتى يشارف على الهلاك. وحين يروي للوالي قصته، يسخر من منامه الذي كاد يودي به، ويخبره أنه هو أيضاً أتاه نداء شبيه في المنام، كي يذهب ويبحث عن رزقه في بغداد في المكان كذا، لكنه بالطبع لم يفعل، لأن الأمر مجرد أضغاث أحلام. يعود البغدادي إلى بلاده وقد أدرك أن مكان الكنز هو منزله، يبحث عن الكنز ملبياً النداء الذي أخبره به الوالي، فيجد مالاً كثيراً تحت عين ماء.
يدخل كيليطو في تحليل طويل لكل حيثيات القصة وتفاصيلها، ليخلص في النهاية إلى أن البغدادي ليس لصاً، فهو «لم يأخذ شيئاً في ملكية آخر؛ ألا يوجد الكنز في بيته؟». ومع ذلك، فهو ليس بريئاً تماماً لأنه بشكل من الأشكال اختلس حلم الوالي: «إنه سارق رؤيا، ولذلك تلقى من الوالي عقابه مسبقاً»، حين انهال عليه بالضرب حتى قبل أن يبوح له بمنامه. ويستدرك بالقول معلقاً: «هناك حالات جد نادره حقاً، يسبق فيها العقاب الإساءة».
وعلى طريقته، يستفيد كيليطو من قصة لص بغداد، والصوت الآتي في المنام، ليعيدنا إلى مقارنة بين منامات وأصوات ونداءات تكررت في أعمال أدبية، فيجول بنا في نص بورخيس حول الحكاية نفسها، وما كتبته الباحثة إفانجلينا ستيد عن الكنز المدفون، وليذكرنا من جديد أن البغدادي اضطر للذهاب بعيداً، والسفر بحثاً عن الكنز بينما هو موجود في بيته، غير أنه كي يعرف ذلك، كان لا بد له أن يغادر المسكن، ويقطع المسافات، ويعيش تجارب كي يكتشف ذلك. ولا يجد كيليطو صعوبة في أن يربط هذه القصة بتفصيل في حكاية السندباد، وأن يجد الصلة الوثيقة بين هاتين القصتين وشبيه لهما في رواية بلزاك «أوجيني غراندي». لنرى أن ثمة بنية مشتركة يمكن رصدها، من خلال معرفة عميقة بنصوص سردية كبيرة في لغات مختلفة. وهو هنا يثبت مرة جديدة كم أن الليالي جديرة بمقارنتها بكبريات النصوص النثرية، بل كونها مرجعاً أدبياً أساسياً تأثر به أدباء كبار بلغات مختلفة، بقيت لمسات شهرزاد بينة على كتاباتهم، دون أن يهتم أحد برصدها، وتحري عمقها.
وثمة أكثر من ذلك، فطريقة كيليطو في كتابة تحليلاته وتسلسلها، وفي انتقاله في النصوص واللغات والكتّاب، وعودته في كل مرة إلى الليالي، هي تماماً كطريقة شهرزاد نفسها في إخراج القصة من القصة، وعلى غرار أسلوب الصبية التي غافلت الجني في مطلع كتاب «ألف ليلة وليلة»، وجمعت الخواتم الكثيرة في كيس واحد.
كيليطو هو أيضاً يسير على خطى شهرزاد، في كتابة نص متشظي، مفتت بقدر ما هو قابل للجمع وعقد المقارنات وإظهار المفارقات. إنه يكتب عن كتاب يشعر بسحر نحوه، ويدرك مدى حضوره في الوعي الجماعي، وتأثيره الضمني الهائل وتغلغله في الذاكرة.
وفي خاتمة جميلة تحيل مرة أخرى إلى الاهتمام الذي أولاه الأوروبيون لـ«الليالي» قبل أن يكتشف أهميتها العرب، يقول: «قبل أن يحلم الغرب بالهيمنة على الشرق بأزمان، فإن الشرق في إغفاءته، مجسداً بالليالي، غزا الغرب. اكتشف الأدب الأوروبي فجأة أن شيئاً ما ينقصه، فاندمج بالشرق». ومن خلال هذا الكتاب، يعلق على هذا الحدث الأدبي بالقول: «حين يلتحم النصفان، فإن العالم عندئذ تام، أو إذا شئنا مترع». ينتصر كيليطو لفكرة التثاقف والالتحام الإنساني بين الشرق والغرب، من خلال «ألف ليلة وليلة»، وتسفارها جيئة وذهاباً بين الضفتين والحضارتين، وتأثيرها النفسي والأدبي.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.