مشاهدة مسلسلات رمضان من أقسى التجارب بالنسبة لمن لم يعتَد الوقوع في هواها.
الجمهور يتسلى طوال الوقت ولديه حربة الإعجاب وعدم الإعجاب. يستطيع أن يكمل حلقة من مسلسل أو ينصرف عنه صوب مسلسل آخر. يستطيع أن يكمل مسلسلاً من حلقته الأولى حتى الأخيرة أو أن يتوقف حالما يتأكد من أن المسلسل الذي يتابع ليس من النوع الذي يعجبه.
كذلك هناك حرية تكوين الرأي: المشاهد الذي يقبل على المسلسلات مندفعاً برغبته لترفيه رمضاني لا يكلّف - مادياً - أي شيء، قد يُعجب بما يشاهده أيما إعجاب. أعرض ذلك المسلسل على مثقف أو على ناقد أو حتى على فرد آخر من أفراد العائلة تحصد رأياً مختلفاً.
أمّا من يكتب ليستعرض وينتقد ويُقيّم فهو في وضع صعب طوال 30 يوماً. عليه أن يختار ما لن يضيع فيه وقته، وهذه أحجية بحد ذاتها. البعض يشهد بقيمة الممثل الذي يتولى القيادة فيقول: «شاهد هذا المسلسل من بطولة (فلان) هو لن يقبل التمثيل في مسلسل هابط». طبعاً المسألة التي لا بد من العودة إليها هي أن الممثل المذكور (لنقل عادل إمام أو غسان مسعود أو نبيلة عبيد أو أي سواهم) لا بد قرأ السيناريو وهناك احتمال كبير في أنّه أُعجب به وحين علم بمن سيخرجه ربما ازداد قبوله بالعمل، لكن كل ذلك لا يضمن مستوى المسلسل مطلقاً. ليس ذنبه لكنّه أمر برسم الحدوث دوماً وبل حدث كثيراً.
ما قد يُصيب الممثل من حالات ليس مرتبطاً - بالضرورة - بما يُصيب المسلسل نتيجة كتابته أو إخراجه أو كليهما معاً. السائد حالياً هو أن المخرج والممثل يلتقيان للبحث في الشخصية التي سيؤديها. يتناقشان واحد يقنع الآخر بشيء والآخر يقنعه بشيء آخر ثم «أكشن» حال تكتمل العدّة. حينها يترك المخرج الممثل على هواه وللحقيقة العديد من الممثلين الذين شاهدنا لهم أداءاتهم هذا العام، قبضوا على شخصياتهم بإحكام وترجموها إلى أداءات جيدة أو لا بأس بها.
لكن لكي يلم الناقد بكل ذلك وليواصل تقييمه واهتمامه بهذا الكم من المسلسلات (نحو مائة؟) عليه أن يعرف كيف يختار. وهذا صعب في البداية لأنّ الكثير من المسلسلات يهبط بالتدرّج المريح. يبدأ واعداً وما هي إلّا بضعة أيام وتكتشف أن أحداً لن يعوّض لك الوقت الذي صرفته.
أمّا على صعيد المسلسلات التي تُعجب الناقد فحالها أصعب. عليه لكي يكتب عن الحلقة التاسعة مثلاً أن يكون قد تابع كل الحلقات السابقة أو معظمها. وعندما يكون لدى الناقد عشر مسلسلات يعتبرها تستحق الإعجاب فإن ذلك سيشغله نهار - مساء.
الطامة الكبرى هي التالية: بما أنّ الناقد لا يكتب هنا لنفسه، بل للجمهور الشّاسع فعليه مشاهدة المسلسلات من دون تمييز.
«أولاد آدم»
حاولت معرفة اتجاه مسلسل «أولاد آدم» (تأليف رامي كوسا وإخراج الليث حجو على محطات مختلفة) وفهم الكيفية التي يوزّع بها شخصياته وما تقوم به لكن الكتابة هنا معمّقة بحيث لا تدع مجالاً للتنبؤ بما سيؤول عليه الحال في الحلقة التالية، وبل أحياناً في الحلقة ذاتها.
على سبيل المثال، تداهمنا في الحلقة الأولى من هذا المسلسل اللبناني - السوري ملاحظة أن الشخصية الشريرة الوحيدة في المسلسل هي لشخص سوري (قيس شيخ نجيب) يحترف السرقة ولا تستطيع أن تثق به ويعيش في لبنان بصورة غير شرعية. في المقابل لدينا محامية اسمها ديما (ماغي بوغصن) وشخصيات لبنانية ثانوية إيجابية المستوى. السوري الآخر في المسلسل هو مقدّم برامج اسمه غسّان (مكسيم خليل) يبدو شخصاً جيداً وناجحاً وأهل ثقة. وحتى عندما نكتشف في نهاية الحلقة الأولى وفي الحلقات التالية أنه شخص غير أخلاقي لا يُقيم للخصوصيات أي اعتبار يمكن ضمّه إلى ما يشبه الوضع العنصري ضد السوريين.
لكن «أولاد آدم» لا يقدم على هذه اللعبة. هناك شخصيات لبنانية سيئة بينها مجنّد يعمل في حراسة سجن النساء نهاراً ويبيع ما يسرقه السوري من هواتف ليلاً (الجيد طلال الجردي)، وهو لا يفعل ذلك مضطراً لأنه متزوّج مثلاً ولديه أسرة لا يكفي مدخوله الرسمي لإعالتها، بل لأنّه شرير النوايا في الأصل.
كل هذه الشّخصيات وسواها تستمر معنا بوتيرة حثيثة وبإخراج جيد للمشهد ومحتواه. بعض الحلقات ذات تصوير باهت لكن معظمها جيد. التمثيل من الجميع يتراوح من المتوسط وما فوق، وما فوق هو الغالب.
لكنّ المعضلات تكمن في الحكاية التي تثير الإعجاب. في هذا الخليط ما بين مشاكل وتبعات مشاكل كل شخصية من القاضية التي لا تنجب والتي ترزح تحت وطأة عملها (كما نعلم عنها أكثر في الحلقتين السادسة والسابعة) إلى مقدّم البرامج الذي يطلع على خصوصيات الناس لاستغلالهم في برنامجه الناجح، في هذا الخليط هناك ما لا يمكن الموافقة عليه وبينها ما هو صادم.
إمّا أنّ الأحداث تدور في مدينة كبيرة كبيروت (كما نفهم من البداية وما بعد) أو إنّها تدور في قرية صغيرة. لذلك هي صدفة شبه مستحيلة أن تدهس القاضية صبياً صغيراً فيهرع إليه أحد ساكني الحي (مقدّم البرامج) الذي حدث أنّه مرتبط بعلاقة مع القاضية كما نكتشف فيما بعد.
مشكلة أخرى تنتاب المسلسل (حتى الآن) وهي أن القاضية تبكي أكثر من أي فعل عاطفي آخر. لديها مسببات بالطبع. تسقط حملها وتدهس صبياً وتتحمّل تبعات علاقتها بغسان وتبعات عملها تحت ضغوطات المصالح، لكن بما أنّ المسلسل ليس عنها فقط، فإن المشاهد يبدأ بتوقع أن يراها حزينة ومكتئبة في كل مرّة يراها.
على كل ذلك، المسلسل أفضل في حبكته وتنفيذه من عشرات المسلسلات الأخرى ورصانته في عرض واقع الحياة في لبنان حالياً بصورة مقتصدة ودالّة في الوقت ذاته.
آدم آخر
في الحلقة الثامنة من «مقابلة مع السيد آدم» (سوريا، أبوظبي، سما إلخ…) لا تزال الحكاية تنتقل ببطء وتكرار موفرة جديداً قليلاً في كل مرّة.
في الحلقات الأولى نتابع تحقيقاً بوليسياً حول ظروف جريمة قتل. لقد اكتُشفت جثة فتاة استُؤصل رحمها، مما يتطلب طبيباً اختصاصياً للكشف على الجثة ومعرفة ما حدث لها. الضابط الشاب ورد (محمد الأحمد) يقرر الاتصال بطبيب ذي شهرة ومكانة عاليتين اسمه دكتور آدم (غسان مسعود) ليفحص الجثة ويكتب تقريره عنها.
الطبيب آدم كان قد اعتزل الجراحة والعمل، وتحوّل إلى أستاذ في إحدى الجامعات السورية (حيث تقع الأحداث)، لكنّه يقبل المهمّة ويكتشف أنّ الفتاة كانت حاملاً في الشهر الثالث، ومن ارتكب الجريمة أراد التخلص من بعض أسبابها.
لكن عندما يكتب الطبيب تقريره ينفي وجود حمل، والسبب هو أن القاتل خطف ابنته وهدّده بقتلها وقتل كل عائلته إذا ضمّن التقرير الحقيقة. طبعاً يُثير ذلك استغراب المحقق، وهو - حتى الحلقة الثامنة التي شاهدناها - ما يزال يحاول معرفة السبب الذي من أجله غير الطبيب إفادته.
هناك قدر من التكرار حتى في الحلقة الأخيرة التي شاهدناها، مما يدل على أنّ الحكاية من النوع الذي كان يمكن اختصاره إلى بضع حلقات، لكي ننجو من تبعية الحكم المسبق، ارتفعت وتيرتها وازدادت مفارقاتها في الحلقات المقبلة.
لم أجد في كتابة فادي سليم وإخراجه أي بوادر تنبئ بأنّ الحلقات المقبلة ستتبنّى نشاطاً وتشويقاً. خذ مثلاً المشهد الذي يواجه فيه ورد الطبيب آدم. فترات صمت من ثمّ يعاود الحوار، لعبة شد حبل مشدود سلفاً يُذكر فيه ما نعرفه. لاحقاً يُذكر فيه ما نعرفه بين المحقق ورد ورئيسه.
ككثير من المسلسلات الأخرى لا يطلب «مقابلة مع السيد آدم» من مشاهديه أكثر من حسن المتابعة. ليس هناك من حرص على أسلوب أو تميّـز. نعم، غسان مسعود ممثل جيد ودائماً مقنع، ولكن ليس لديه هنا النص الكافي مما يمكن من خلاله الكشف عن موهبته الفعلية، بل حضور ملائم يجذب المشاهدين إليه في كل الأحوال.