سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

وزير العدل الشاب يهدد رئاسة بولسونارو في البرازيل

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة
TT

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

سيرجيو مورو... مسيرة قاضٍ جريء نحو القمة

في أواخر العام 2014 كانت وسائل الإعلام البرازيلية قد بدأت تتناقل الأنباء عن «مآثر» القاضي الفيدرالي الشاب سيرجيو مورو الذي كان يدير قسم الجنايات المالية في محكمة ولاية بارانا البرازيلية الجنوبية، المعروفة بمنتجعاتها السياحية الفخمة، حيث اعتادت عائلات ثريّة من البرازيل وبعض بلدان أميركا اللاتينية تمضية فترات العطلة والاستجمام، وحيث تعيش جالية كبيرة من المتحدرين من أصول لبنانية.
قبل نهاية تلك السنة، وبعد أن كان مورو قد كشف عدداً من فضائح الفساد الضريبي والرشاوى وعمليّات غسل الأموال، وضع يده على قضية احتيال كبيرة بطلها المصرفي ألبرتو يوسف الذي كانت تحوم حولها شبهات كثيرة بتهريب الأموال وتبييضها.
مع التوغّل في التحقيقات في الفضائح الكبرى انكشفت للقاضي سيرجيو مورو حالات فساد واسعة تطال شخصيّات سياسية واقتصادية من الصف الأول. وعندها عقد العزم على تفكيكها فيما صار يعرف بعملية «لافا جاتو» Lava Jato - أي «غسل السيارات» - التي سرعان ما تحوّلت إلى أكبر قضية فساد مالي وسياسي في تاريخ البرازيل وأميركا اللاتينية.
هذه القضية أسقطت عدداً من رؤساء الجمهورية وكبار السياسيين ورجال الأعمال، ورفعت مورو إلى مصاف «البطل القومي»، ووضعته على منصّة الانطلاق نحو مستقبل سياسي لم يتأخر في الوصول إليه عندما عرض عليه الرئيس اليميني الجديد جاير بولسونارو، الآتي من رحم الغضب الشعبي العارم الذي ولّدته فضائح الفساد السياسي، حقيبة العدل والأمن العام وجعل منه أحد الرموز الأساسية لولايته.

بداية التوتر
إلا أنه بعد مضي سنة ونصف على بداية تلك العلاقة التي شهدت فصولاً من التوتّر في الأشهر الأخيرة، انتهى «شهر العسل» السياسي بين الرجلين. وبينما أخذت تترنّح رئاسة بولسونارو وتتراجع شعبيته تحت وطأة جائحة «كوفيد - 19» وإدارته المتعثّرة لها، قرّر مورو أن ساعته قد أزفت لقطف ثمار شعبيته التي واصلت صعودها. وهكذا، فصل مساره عن مصير الرئيس الذي تحاصره الانتقادات من كل حدب وصوب ويتكاثر المطالبون بعزله، أعلن استقالته موجّها اتهامات خطيرة إلى بولسونارو بمحاولة التدخل في تحقيقات قضائية جارية حول قضايا تطال اثنين من أبنائه، دفعت المحكمة العليا إلى إصدار مذكّرة باستجوابه.
عندما عُيّن مورو قاضياً فيدراليّاً عام 1996. بعد نيله شهادة الدكتوراه في الحقوق من جامعة بارانا الفيدرالية، ودراسته لفترة في جامعة هارفارد الأميركية العريقة، فإنه كان لم يزل في الرابعة والعشرين من عمره. ويومذاك بدت عليه ملامح جرأة كانت مثار إعجاب وغيرة بين زملائه، الذين غالباً ما اتهموه برغبة جارفة في الظهور وبالسعي للاستفادة من منصبه للوصول إلى مآرب سياسية.
وبالفعل، تمكّن خلال سنوات من كشف العديد من قضايا الفساد المالي التي أودت بمسؤولين كثيرين إلى السجن، وأطلقته نحو الشهرة في بلد موصوف بالفساد المستشري في مؤسساته وأجهزته الرسمية وإفلات المسؤولين عنه من العقاب.
وعندما باشر مورو تحقيقاته في قضية «بانيستادو» Banestado حول شبكة مصرفية واسعة لتبييض الأموال، تبيّن له أن المسؤول الرئيسي عن هذه العمليات هو ألبرتو يوسف، الذي وصفته الـ«نيويورك تايمز» يومها بأنه «المصرفي البرازيلي المركزي في السوق المالية السوداء» وقالت عنه «بلومبيرغ» بأنه «المبيّض الرئيسي للأموال في البرازيل».
أيضاً، كشفت التحقيقات مع يوسف أنه كان أيضا الوسيط الرئيسي الذي يوزّع العمولات والرشاوى التي كانت تدفعها شركة النفط البرازيلية العملاقة «بتروبراس» Petrobras على المسؤولين السياسيين والإداريين للحصول على عقود مشاريع تنفذها في البرازيل والخارج. ولقد عرض عليه مقايضة تخفيف العقوبات باعترافات وأدلة سرعان ما فجّرت أكبر قنبلة قضائية وسياسية في تاريخ البرازيل الحديث، وجعلت من مورو أحد الأشخاص الأكثر تأثيراً في بلاده حسب استطلاع قامت به صحيفة «أو غلوبو» O Globo الواسعة الانتشار.
أُطلق على تلك القضية التي هزّت البرازيل وما زالت تداعياتها السياسية تتردد إلى اليوم اسم Lava Jato – ويرتبط الاسم (غسل السيارات) بمجموعة من المحطات لغسل السيارات كانت رأس خيط التحقيقات التي أوصلت إلى الكشف عن شبكة واسعة من الفساد السياسي والإداري. ومن ثم، أودت بالعشرات من نخبة من السياسيين ورجال الأعمال إلى السجن، وطالت كل الأحزاب السياسية، خاصة حزب العمّال اليساري الذي كان في الحكم منذ العام 2003.

شخصية تنقسم حولها الآراء
وبينما كانت شعبية مورو تصعد بقوة، ويرى فيه أنصاره «بطلاً قومياً ضد الفساد»، في حين يتهمه خصومه بأنه «وصولي متعطّش للشهرة والسلطة»، أصدر القاضي الشاب أوامره إلى الشرطة القضائية الفيدرالية بمداهمة منزل لويس ايغناسيو لولا، رئيس الجمهورية اليساري السابق والسياسي الأوسع شعبية في تاريخ البرازيل، واقتياده للتحقيق بتهمة الفساد فجر الرابع من مارس (آذار) 2016.
ذلك المشهد الذي ظهر فيه لولا محاطاً برجال الشرطة، ومقيّداً يساق إلى التحقيق، كان نقطة مفصليّة في التاريخ السياسي البرازيلي الحديث. وما زال ذلك المشهد محفوراً في ذاكرة البرازيليين الذين انقسموا بين أقليّة تناصبه العداء وأكثريّة تعتبره «المخلِّص من الفساد».

وبعد جلسة أوليّة للتحقيق، أصدر مورو مذكّرة بإرسال لولا إلى الحبس الاحترازي. وأجهض كل المحاولات التي قام بها الرئيس السابق لإخراج القضية من قبضة مورو، الذي نشر تسجيلات هاتفية تكشف مساعي لولا للتهرّب من العدالة.
وعلى الأثر، أدت مراحل التحقيق الأولى والمحاكمات التي عقبتها إلى سجن عشرات النواب، وطالت عدداً من رؤساء الجمهورية وكبار المسؤولين في بلدان أميركية لاتينية مثل البيرو وبوليفيا وتشيلي. كذلك أودت إلى السجن بزوجة رئيس مجلس النواب بتهمة غسل الأموال وإلى تعليق رئاسة زوجها. وقبل نهاية ذلك العام كان مجلس الشيوخ يقرّر أيضاً عزل رئيسة الجمهورية اليسارية ديلما روسّيف بعد إدانتها بتهمة «هندمة» الموازنة العامة والتوقيع على مراسيم اقتصادية من غير موافقة البرلمان. وكانت روسّيف قبل وصولها إلى الرئاسة من أقرب السياسيين إلى لولا، وكانت تولّت إدارة مكتبه وعدداً من الحقائب الوزارية في حكوماته.

التغيير اليميني بعد إسقاط اليسار
بعد سقوط روسّيف نهاية أغسطس (آب) 2016 وتولّي نائبها رئيس مجلس النواب ميشال تامر - المتهم هو أيضا بقضايا فساد - رئاسة الجمهورية، وضع البرازيليون كل آمالهم بالتغيير وتجديد الحياة السياسية وتطهيرها من الفساد في سيرجيو مورو، بينما كانت البلاد تستعدّ لانتخابات رئاسية حاسمة في أجواء من الاهتراء السياسي والنقمة الشعبية العارمة. غير أن شعبية لولا بقيت هي الأوسع رغم وجوده في السجن والاتهامات الموجهة إليه والأحكام الصادرة بحقه، وأصرّ على ترشيحه للرئاسة في انتظار صدور أحكام قضايا الاستئناف التي كان قد رفعها.
في هذه الأثناء كانت أسهم مرشّح يميني متطرف مغمور اسمه جاير بولسونارو ترتفع بشكل سريع ومفاجئ. وكان وراء صعوده دعم مجموعات اقتصادية ودينية (إنجيلية خصوصاً) نافذة تريد التخلّص من حكم حزب العمال اليساري بأي ثمن، وبنقمة شعبية عارمة ضد حزب العمّال وقيادته بعد فضائح الفساد التي كشفها مورو وكانت الطبق الذي قدّم رئاسة الجمهورية إلى بولسونارو.
وحقاً، بعد فوز بولسونارو في الانتخابات الرئاسية عام 2018، بادر الأخير إلى إسناد حقيبة وزارة العدل والأمن العام لمورو الذي تحوّل إلى إحدى الركائز الأساسية في حكومته. وما كان الرئيس يوفّر مناسبة كي يشيد بإنجازات مورو في مكافحة الفساد وتجديد العمل السياسي. كذلك كانت وسائل الإعلام تتحدث عن «شهر عسل سياسي» بين الاثنين واحتمالات قويّة بخوضهما سويّة معركة الرئاسة في انتخابات العام 2022.
ولكن مع بداية العام الجاري، وبينما كانت إدارة بولسونارو لأزمة الـ«كوفيد - 19» تتعرّض لانتقادات شديدة في الداخل والخارج، وتتراجع شعبية الرئيس حتى في الأوساط التي كانت تؤيده، بدأت تظهر بوادر التوتّر في العلاقات بين مورو وبولسونارو. وازداد التوتر عندما فصل بولسونارو الأمن العام عن الوزارة التي يتولّاها مورو، فقاوم الأخير بشدة تلك المحاولات، إلى أن عاد عنها الرئيس خشية الدخول في مواجهة علنية مباشرة مع وزيره، الذي كان قد أصبح السياسي الأوسع شعبية في البرازيل.

المواجهة والاستقالة
وبعد إقالة وزير الصحة، الذي كان يعترض علناً على إدارة بولسونارو أزمة جائحة «كوفيد - 19»، عادت المواجهة بين الرئيس ومورو إلى الواجهة عندما قرّر بولسونارو إقالة مدير الشرطة الفيدرالية الذي كان مورو قد عيّنه، وحاول تعيين مدير جديد مقرّب منه. عندئذ قرر مورو فتح باب المواجهة مع الرئيس على مصراعيه، وفجّر قنبلة استقالته في أصعب الظروف التي يمرّ بها بولسونارو منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية، ممهداً لمعركة تنتظر تحديد موعد لبدايتها.
ولم يكتفِ مورو بإعلان قرار استقالته من الحكومة التي كان إحدى ركائزها الأساسية، بل دعا إلى مؤتمر صحافي حاشد وجّه فيه اتهامات خطيرة ضد بولسونارو. وقال إنه يحاول التدخّل في التحقيقات الفيدرالية التي تتناول قضايا فساد تتعلّق باثنين من أبنائه. كذلك كشف مورو عن رسائل نصّية تبادلها مع بولسونارو تبيّن أن الرئيس حاول التدخّل في تلك القضايا. أدت هذه الاتهامات إلى إصدار المحكمة العليا قراراً بفتح تحقيق ضد بولسونارو، كما أمرت بتعليق تنفيذ قرار تعيين قائد جديد للشرطة الفيدرالية قبل ساعات من حفل تنصيبه، الذي كان من المقرر أن يتمّ في قصر رئاسة الجمهورية.
في المقابل، في محاولة لتطويق مضاعفات استقالة «نجم» حكومته وحملته الانتخابية ظهر بولسونارو، محاطاً ببقيّة أعضاء الحكومة، ليدحض الاتهامات الموجهة إليه. وقال بأنه منذ اليوم الأول ضمن لوزير العدل استقلالية القرار عن رأس هرم السلطة، نافياً أن يكون قد حاول التدخّل في تحقيقات تتعلْق بأفراد أسرته، وتابع أن المعلومات التي قدّمها مورو عارية عن الصحة.

برنامج سياسي فعلي
في أي حال، كان لافتاً أن بيان الاستقالة الذي تلاه مورو في مؤتمره الصحافي جاء بمثابة برنامج سياسي للرجل الذي أصبح النجم الصاعد في المشهد السياسي البرازيلي الذي يحاصر بولسونارو من كل الجهات، ويضعف حظوظه حتى بإكمال ولايته. وبعد توجيه سلسلة من الاتهامات ضد الرئيس انصرف مورو للدفاع عن سجلّه في مكافحة الفساد والعنف. وتحدّث عن المحاولات المتكررة التي قام بها بولسونارو للحد من استقلالية القضاء والتدخّل في شؤون المؤسسات الرقابية. وقال إنه عندما تجاوب مع عرض الرئيس لتولّي وزارة العدل والأمن العام كان على أساس مواصلة حملته ضد الفساد «لكن الرئيس حنث بوعده عندما تعلّق الأمر بعائلته». وأردف «كان يريد مديراً للشرطة يتصّل به ليعطيه تعليمات ويطلب إليه تزويده بالمعلومات وتقارير المخابرات، الأمر الذي يشكّل انتهاكاً لمبدأ الفصل بين السلطات وخرقاً لاستقلالية السلطة القضائية». واستطرد مورو قائلاً بأنه حاول حتى اللحظة الأخيرة التوصّل إلى حل يمنع انفجار هذه الأزمة في مثل هذه الظروف، وأن «مثل هذا التدخّل السافر لم يحصل من طرف الحكومات السابقة عندما كان بعض أعضائها يخضعون لتحقيقات قضائية».
هذا، وتجدر الإشارة إلى أن مورو كان قد رفض طلباً تقدّم به فلافيو - أحد أبناء الرئيس والعضو في مجلس الشيوخ، وهو متهّم بغسل الأموال - لتقييد استخدام البيانات المالية في التحقيقات القضائية. كما أن ابن بولسونارو الآخر إدواردو - وهو عضو في البرلمان الفيدرالي الذي سعى والده لتعيينه سفيراً لدى الولايات المتحدة - يواجه أيضا تهماً بالفساد المالي وتنظيم حملات لنشر معلومات مزيّفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ختاماً، لم يكشف مورو بعد عن أوراقه السياسية التي لا يشكّ أحد في أنه لن يتأخر في طرحها عندما تنتهي الجائحة الصحيّة، التي ليس معروفاً كيف سيخرج بولسونارو من كابوسها. وإذ يكثر الحديث منذ أيام عن احتمال استقالة وزير الاقتصاد باولو غيديس، وهو نجم آخر في الحكومة، يرجّح المراقبون أن يكون هذا الثنائي الذي يتمتع بشعبية واسعة في الداخل وبدعم كبير في الأوساط الاقتصادية الدولية، هو العنوان الرئيسي للمشهد السياسي البرازيلي على أبواب الانتخابات الرئيسية المقبلة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.