سنوات الظواهري... ماذا بقي من «القاعدة»؟

«درون» الأميركيين حصدت قادة التنظيم المخضرمين... و«داعش» نافسه في مناطق انتشاره... وقيادته الحالية {شبكة غير مركزية} يطغى عليها المصريون

تنظيم {داعش} خسر آخر معاقله في سوريا العام الماضي... فهل يستفيد تنظيم {القاعدة} من غياب منافسه؟ (أ.ف.ب)
تنظيم {داعش} خسر آخر معاقله في سوريا العام الماضي... فهل يستفيد تنظيم {القاعدة} من غياب منافسه؟ (أ.ف.ب)
TT
20

سنوات الظواهري... ماذا بقي من «القاعدة»؟

تنظيم {داعش} خسر آخر معاقله في سوريا العام الماضي... فهل يستفيد تنظيم {القاعدة} من غياب منافسه؟ (أ.ف.ب)
تنظيم {داعش} خسر آخر معاقله في سوريا العام الماضي... فهل يستفيد تنظيم {القاعدة} من غياب منافسه؟ (أ.ف.ب)

هل يذكر أحد آخرَ عملية أعلنت قيادة تنظيم «القاعدة» مسؤوليتها عنها؟ ستحتاج الإجابة، لدى كثيرين على الأرجح، إلى بعض التفكير.
في الواقع، هذا السؤال، غير البريء، هدفه تسليط الضوء على ما يبدو تراجعاً واضحاً للدور المباشر لقيادة «القاعدة»، وليس بالضرورة لفروعها، في تخطيط هجمات إرهابية وتنفيذها حول العالم، وهي هجمات لطالما ارتبط اسم التنظيم بها على مدى سنوات. وإذا كان هذا التراجع لدور «القاعدة» قد بدأ في الظهور خلال فترة قيادة أسامة بن لادن، فإن اضمحلاله بات أكثر جلاء في السنوات التسع التي تلت رحيله في غارة الكوماندوز الأميركي التي نُفّذت في مثل هذه الأيام على مخبئه في أبوت آباد الباكستانية في 1 مايو (أيار) 2011 بتوقيت الولايات المتحدة (2 مايو بتوقيت باكستان).
وتُظهر مراجعة أجرتها «الشرق الأوسط» لسلسلة الإصدارات الإعلامية لـ«القاعدة» في الفترة التي آلت فيها القيادة للدكتور أيمن الظواهري، خلفاً لبن لادن، أن ما يُعرف بـ«القيادة العامة» لـ«قاعدة الجهاد»، المفترض أنها تتخذ من الحدود الباكستانية - الأفغانية مقراً لها، مع امتداد لها داخل إيران، تحوّلت من منفّذ مباشر للهجمات حول العالم، كما كانت أيام قيادة بن لادن، إلى محرّض للهجمات، وموجّه لها، ومبارك لما تنفذه فروع التنظيم في مناطق انتشارها. وبحسب هذه المراجعة، يبدو جلياً أن دور «قيادة القاعدة» صار منحصراً إلى حد كبير في سلسلة إصدارات مرئية وسمعية للظواهري يتحدث فيها عن مواضيع مختلفة، مقدماً رأي «القاعدة» بها، ومحرضاً على تنفيذ هجمات ضد أهداف غربية وعربية، وكذلك إسرائيلية. ويتبين أيضاً، من هذه الإصدارات، أن الظواهري يقود التنظيم إلى حد كبير بمعاونة قيادي مصري آخر يدعى حسام عبدالرؤوف «أبو محسن» الذي يتولى الجانب الإعلامي، علماً بأن تقريراً لمركز بحث أميركي ذكر أن هناك قيادياً آخر في قيادة التنظيم يعاون الظواهري هو صهره عبد الرحمن المغربي الذي ترددت معلومات واسعة عن مقتله في وزيرستان عام 2006. ولا تتضمن الإصدارات الحالية لـ {قيادة القاعدة} أي إشارة تؤكد أن المغربي ما زال حياً.
ولكن بالإضافة إلى الظواهري و«أبو محسن»، حفلت إصدارات قيادة «القاعدة» بسلسلة أشرطة صوتية لحمزة بن لادن، نجل أسامة، حرّض فيها بدوره على تنفيذ هجمات، وذلك ثأراً لوالده، كما دعا مناصري التنظيم إلى شن هجمات على نسق «الذئاب المنفردة» في دول غربية وعربية. وبدا واضحاً من هذه الإصدارات أن حمزة كان يتولى منصباً يتزايد أهمية في التنظيم، ما عزز التقارير التي قالت إنه يُحضّر ليكون خليفة محتملاً للظواهري في مرحلة ما. لكن هذه الخطط، إذا ما كانت صحيحة حقاً، راحت أدراج الرياح، عندما نجح الأميركيون في قتله، علماً بأنهم وضعوا جائزة قدرها مليون دولار للوصول إليه. وأعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في بيان أصدره البيت الأبيض في سبتمبر (أيلول) 2019، أن «حمزة بن لادن، العضو القيادي الرفيع في القاعدة ونجل أسامة بن لادن، قُتل في عملية أميركية لمكافحة الإرهاب بمنطقة الحدود الأفغانية - الباكستانية. إن فقدان حمزة بن لادن لا يحرم فقط (القاعدة) من مهارات قيادية مهمة والارتباط الرمزي بوالده، لكنه يقلل أيضاً من النشاطات العملانية المهمة لهذه الجماعة. لقد كان حمزة بن لادن مسؤولاً عن التخطيط والتعاطي مع جماعات إرهابية مختلفة»، في إشارة إلى طبيعة دوره في «القاعدة». ولم يحدد بيان البيت الأبيض تاريخ مقتله، لكنه جاء ليؤكد تقارير إعلامية أشارت إلى أنه قُتل في عملية لمكافحة الإرهاب في أغسطس (آب) 2019.
شكّل قتل حمزة استمراراً للجهود الأميركية لمكافحة نشاط «القاعدة»، وهي جهود أثمرت في السنوات السابقة، بما في ذلك قبل قتل أسامة بن لادن في أبوت آباد، في حرمان التنظيم من سلسلة طويلة من قادته المخضرمين الذين قُتلوا بغارات غالباً ما شنتها طائرات بلا طيار (درون) على مخابئهم في وزيرستان على الحدود الباكستانية مع أفغانستان. وأثّر مقتل هؤلاء، وبينهم عدد ممن كانوا يوصفون بـ«الرجل الثالث» في هرمية التنظيم، بعد بن لادن والظواهري، في شكل لافت في نشاط قيادة «القاعدة»، بحيث تراجع بوضوح دورها في التخطيط لهجمات حول العالم، وصار جهدها منصباً إلى حد كبير في إعادة بناء صفوفها بعيداً عن أعين «الدرون» الأميركية التي كانت لا تغيب عن سماء وزيرستان.
وكان يُفترض أن ثورات ما يُعرف بـ«الربيع العربي» جاءت مُنقذة لـ«القاعدة» من سلسلة التراجعات في نشاطها، بحكم أن الفوضى التي عمّت العالم العربي، وتصدّر حركات الإسلام السياسي للمشهد، تُشكّل فرصة ذهبية لأي تنظيم مسلح لتوسيع نشاطه مستغلاً ضعف السلطة المركزية وتفكك قواتها الأمنية، وهو تماماً ما حصل في مصر وليبيا وتونس وسوريا واليمن، ودول أخرى. لكن مسؤولية الاستفادة في «فوضى الربيع» سرعان ما انتقلت إلى الظواهري الذي اختير زعيماً لـ«القاعدة» في أعقاب القضاء على بن لادن. غير أن الزعيم الجديد للتنظيم بدا عاجزاً عن استغلال الفرصة السانحة وقطف «ثمار الربيع»، ليس فقط نتيجة الضغوط الأميركية، بل نتيجة ظهور منافس شرس له من داخل بيئته: «داعش».

البغدادي... أفول نجم «القاعدة»
شكل بروز نجم «داعش» بقيادة أبو بكر البغدادي أفولاً واضحاً لنجم «القاعدة» بقيادة الظواهري. لم يكتف البغدادي، في السنوات التي تلت صعوده إلى الواجهة، بدءاً من العام 2012، بتحدي الظواهري ورفض الانصياع لأوامره، لا سيما في خصوص «جبهة النصرة» باعتبارها ممثلاً لـ«القاعدة» في سوريا، بل ذهب إلى حد تدمير هذا التنظيم والقضاء على وجوده في مناطق واسعة من سوريا، ومنافسة فروع «القاعدة» حتى في معاقلها المنتشرة حول العالم. وساعده في ذلك، بلا شك، نجاحات مقاتليه ميدانياً في العراق وسوريا. فقد سيطروا على مساحة توازي مساحة بريطانيا، وأقاموا عليها «دولة» أطلقوا عليها اسم «خلافة» مزعومة في العام 2014، استقطبت هذه النجاحات آلاف المتأثرين بأفكار المتشددين حول العالم، فتدفقوا إلى سوريا والعراق للانضواء تحت لواء البغدادي، تماماً كما فعلوا في بدايات الألفية عندما التحق آلاف المتطوعين بفرع «القاعدة» العراقي، بقيادة أبو مصعب الزرقاوي، ومدوه بسيل من «الانتحاريين». وعلى رغم أن كثيرين ممن التحقوا بالبغدادي شكّلوا بدورهم سيلاً من «الانتحاريين»، فإن كثيرين منهم لم يأتوا لوحدهم، بل جاءوا مع أسرهم للعيش في «كنف دولة الخلافة» المزعومة. وحينما بدا البغدادي وكأنه لا يمكن وقفه في سوريا والعراق عامي 2014 و2015، بدأ تنظيمه يكسب ولاء جماعات حول العالم أعلنت تباعاً مبايعتها له وتأسيس فروع لتنظيمه في مناطق النفوذ نفسها لفروع «القاعدة». ففي مصر حلت «ولاية سيناء» محل «جماعة أنصار بيت المقدس». وفي ليبيا، ظهرت «إمارات» لـ«داعش» أبرزها في سرت. وفي تونس ظهر فرع لـ«داعش» باسم «جند الخلافة»، مقابل فرع «القاعدة» الناشط هناك (عقبة بن نافع). وفي الجزائر، ظهرت جماعة «جند الخلافة» أيضاً لكن قوات الأمن سرعان ما قضت عليها بعد قطع رأس رهينة فرنسي. وفي دول الساحل الأفريقي ظهر فرع آخر لـ«داعش» تكوّن جزء منه نتيجة انشقاق داخل جماعة «بوكو حرام»، وبات ينافس فرع «القاعدة» المحلي ممثلاً بـ«جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وفي اليمن والصومال حيث ظهر فرعان لـ«داعش» منافسان لـ«تنظيم القاعدة في جزيرة العرب» و«حركة الشباب المجاهدين». ولم يكتف البغدادي بهذا التوسع، بل لجأ إلى تأسيس فرع لتنظيمه في «بلاد خراسان» التي اعتبرها تنظيم «القاعدة» لسنوات طويلة مخبأه المفضل في جبال أفغانستان الشاهقة.
وبالإضافة إلى كل ذلك، لجأ تنظيم البغدادي إلى تنفيذ سلسلة هجمات ضخمة في دول الغرب، بعضها نُفّذ مباشرة، تخطيطاً وتنفيذاً، من الأراضي السورية (كما حصل في هجمات باريس وبروكسل عامي 2015 و2016)، وبعضها بشكل غير مباشر من خلال سلسلة طويلة من هجمات «الذئاب المنفردة» التي قام بها مناصرون لـ«داعش» لم يتمكنوا من الالتحاق بـ«دولته» في سوريا والعراق، بسبب بدء عمليات التحالف الدولي ضد التنظيم.
انتزع {داعش} بهذا النوع من الهجمات لقب التنظيم الإرهابي الأول في العالم بعدما كان الأميركيون يطلقون هذه التسمية على {القاعدة}. غير أن نكسات «القاعدة» على أيدي «داعش» كانت أشد وطأة، كما يبدو، في سوريا نفسها، حيث كان الظواهري يراهن على إحياء نشاط تنظيمه من خلال «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني. وقد أوفدت «القاعدة»، كما تبيّن لاحقاً، عدداً من أبرز قادتها المخضرمين ووجوهها المعروفة (وبعضهم كان يقيم في إيران)، إلى سوريا لتثبيت موقع «النصرة» في مواجهة «داعش»، من جهة، والسماح لها باستقطاب جماعات أخرى كانت تقاتل أيضاً النظام السوري تحت مسميات إسلامية. وقد نجح هؤلاء المخضرمون إلى حد ما في وقف «ابتلاع» البغدادي لـ«النصرة»، لكن ذلك تضمن أحياناً «تنازلات»، مثلاً من خلال تغيير اسم التنظيم وعدم كشف ارتباطه، علناً، بـ«القاعدة». لكن «أعين الأميركيين» لم تكن بعيدة عمّا يحصل، فبدأ استهداف القادة الأجانب الذين يشرفون على توجيه «القاعدة» لـ«النصرة». ففي فبراير (شباط) 2017، قُتل عبد الله محمد رجب عبد الرحمن المعروف بـ«أبو الخير المصري» بغارة أميركية في إدلب بشمال غربي سوريا. وكان المصري نائباً للظواهري في قيادة «القاعدة» وجاء من إيران إلى سوريا في إطار «صفقة»، كما قيل وقتها، تضمنت الإفراج عن قيادات من «القاعدة» كانت موضوعة في «إقامة» لدى الحرس الثوري الإيراني. وكان الأميركيون قد قتلوا قبل ذلك، في أبريل (نيسان) 2016، قيادياً مصرياً آخر في إدلب هو رفاعي طه (أبو ياسر) - أحد قادة «الجماعة الإسلامية» البارزين.
وبعدما بدا واضحاً أن الأميركيين يعرفون أن «النصرة» ليست في الحقيقة سوى فرع لـ«القاعدة»، حتى ولو غيّرت اسمها إلى «هيئة تحرير الشام»، اضطر قائد هذه الجماعة، أبو محمد الجولاني، إلى إعلان فك ارتباطه بالظواهري، وهو ما استدعى رداً عنيفاً من الأخير الذي لم يقبل فك «البيعة». ودفع هذا الخلاف ببعض قادة الجولاني إلى إعلان انفصالهم عنه وتشكيلهم تنظيماً آخر مرتبطاً علناً بـ«القاعدة» تحت اسم «حراس الدين». ويُعتبر سامي العريدي أحد ابرز قادة «حراس الدين»، علماً بأنه كان بين العامين 2014 و2016 «مسؤول الشريعة الأول في جبهة النصرة»، بحسب ما يقول موقع «جوائز من أجل العدالة» الأميركي الذي يضع جائزة قدرها خمسة ملايين دولار لمن يقود إلى الوصول إليه. ويقول الموقع إن «حراس الدين هي جماعة تابعة لمنظمة «القاعدة» ظهرت في سوريا في أوائل عام 2018 بعد انفصال عدة فصائل عن هيئة تحرير الشام. ولا تزال قيادة حراس الدين بما في ذلك العريدي موالية لمنظمة القاعدة وزعيمها أيمن الظواهري». وكما هو معروف، قُتل أحد أبرز قادة «حراس الدين»، أبو خلاد المهندس، بعبوة ناسفة في سيارته بإدلب العام الماضي، وأصدرت قيادة «القاعدة» في وزيرستان نعياً رسمياً له.
وكان واضحاً في هذا الخضم أن «الهمّ السوري»، وخلافات الإسلاميين، كانت تشغل الظواهري منذ التحدي الذي واجهه علناً من البغدادي، عام 2013، برفضه ترك النشاط في سوريا لـ«جبهة النصرة» والاكتفاء بحصر نشاطه في العراق، كما كان قبل اندلاع «الثورة السورية» عام 2011، ومعلوم أن الجولاني كان حتى ذلك التاريخ عضواً في تنظيم البغدادي في العراق ما يُعرف بـ«الدولة الإسلامية في العراق»، وذهب إلى سوريا، موفداً من البغدادي وبتمويل منه، لتأسيس جماعة «النصرة» بعد الثورة ضد نظام الرئيس بشار الأسد. وتجلى انشغال الظواهري بالملف السوري في سلسلة إصدارات له على مدى سنوات. ففي مايو 2014، كرر الظواهري طلبه من البغدادي الانسحاب من سوريا والعودة إلى العراق، وهو أمر رد عليه زعيم «داعش» بتوسيع مناطق سيطرته في سوريا وتشديد حملته للقضاء على «النصرة». وعلى رغم أن الظواهري دعا، في سبتمبر 2015، مناصريه إلى التعاون مع «داعش» في سوريا والعراق للتصدي للحملة التي بدأها التحالف الدولي ضد التنظيم، فإن ذلك لم يؤد إلى تحسن العلاقات بين الطرفين، بل إلى انحدارها نحو الأسوأ. فقدت ذهبت «القاعدة» في نشرتها «النفير»، في يوليو (تموز) 2016، إلى وصف البغدادي وعناصر «داعش» بأنهم «منافقون»، واصفة أولئك الذين يبايعون التنظيم بأنهم «شركاء في جرائمه»، وهو أمر تناوله الظواهري بنفسه علناً. فقد قال زعيم «القاعدة»، في شريط صوتي رثى فيه مقتل زعيم فرع «القاعدة في جزيرة العرب» ناصر الوحيشي (أبو بصير)، إن «من يبايع إبراهيم البدري هو شريك له بكل جرائمه في قتل المسلمين. شريك في شقّ صفّهم. شريك له في نكث العهود».

فروع «القاعدة»
وفي مقابل «النكسة» السورية، حافظ فرع «القاعدة» في شرق أفريقيا، ممثلاً بـ«حركة الشباب» الصومالية، على زخم نشاطه، منفذاً سلسلة هجمات في الصومال المفكك والغارق في الفوضى، وفي جارته كينيا التي تشكل رأس حربة في جهود التصدي لنشاطه. كما تلعب القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) دوراً محورياً في المواجهة ضد «الشباب» من خلال سلسلة غارات تستهدف مواقع انتشار مقاتلي الحركة. وشنّت «أفريكوم» منذ بدء هذه السنة ما لا يقل عن 33 غارة ضد «الشباب»، وتمكنت من قتل العديد من عناصر الحركة بما في ذلك أحد مؤسسيها يوسف جيس الذي قُتل في أبريل من هذه السنة.
كما تمكن فرع «القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، ممثلاً بـ«جبهة نصرة الإسلام والمسلمين»، من المحافظة على وتيرة نشاطه في النيجر وبوركينا فاسو ومالي، وهي دول تعاني فيها الحكومات المركزية تفككاً وتعجز قواتها الأمنية عن السيطرة على مناطق واسعة من دولها المترامية الأطراف. وفي مقابل نشاط فرع «القاعدة» تشهد هذه الدول أيضاً نشاطاً لفرع «داعش» الذي تبنى عمليات ضخمة فيها، سواء في بوركينا فاسو أو النيجر أو نيجيريا والمنطقة المحيطة ببحيرة تشاد. وليس واضحاً شكل العلاقة بين فرعي «داعش» و«القاعدة» في المرحلة المقبلة، علماً بأنهما متعايشان حالياً.
أما في اليمن، فقد خسرت «القاعدة» زعيمها قاسم الريمي (أبو هريرة الصنعاني) بغارة أميركية في بدايات هذه السنة. وأعلن الرئيس ترمب، في فبراير، قتل الريمي الذي تولى قيادة فرع «القاعدة» منذ العام 2015. واختارت «القاعدة» زعيماً جديداً خلفاً له هو خالد بن عمر باطرفي.
أما في أفغانستان وباكستان، فقد كان لافتاً أن قيادة «القاعدة» رحّبت باتفاق الأميركيين مع حركة «طالبان»، على رغم أن هذا الاتفاق ينص، كما هو معروف على نطاق واسع، على عدم سماح «طالبان» بأي نشاط ينطلق من أراضيها ضد أطراف خارجية، بما في ذلك الولايات المتحدة. ومعلوم أن «طالبان» خسرت حكمها عام 2001 نتيجة قيام «القاعدة»، انطلاقاً من أفغانستان، بتنفيذ هجمات 11 سبتمبر.

قيادة «القاعدة» بعد مقتل حمزة
لا يُعرف الكثير حالياً عن المحيطين بالظواهري في قيادة تنظيمه، خصوصاً بعد مقتل حمزة بن لادن. لكن إصدارات «القاعدة» تتضمن من حين لآخر اسم شخصية مصرية أخرى تتولى، كما يبدو، دوراً مهماً في هرمية التنظيم. وهذه الشخصية هي حسام عبد الرؤوف الذي يُقدّم بوصفه المسؤول الإعلامي في «القاعدة»، وقد أضافه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي)، العام الماضي، إلى لوائح أكثر المطلوبين، مشيراً إلى أنه يُكنى باسم «أبو محسن المصري»، وهو من مواليد عام 1957 في مصر. ووجهت محكمة أميركية اتهامات له، عام 2018، بالتآمر لتوفير دعم مادي وموارد لتنظيم إرهابي أجنبي، وكذلك التآمر لقتل أميركيين. وجاء إدراجه على لوائح المطلوبين بعد توزيع كلمة صوتية له، في 22 مايو 2018، وصف فيها ترمب بأنه يتصرف كـ«رامبو» (الشخصية الهوليودية).
وعلى رغم أن «أبو محسن المصري» لم يكن اسماً بارزاً في صفوف «القاعدة»، فإن دوره لم يكن مخفياً على الأميركيين. فقد أشارت إليه دراسة وزعها مركز «راند» للأبحاث الأميركي، عام 2017، اعتبرت أن «القاعدة» عبارة عن «شبكة» غير متصلة مركزياً ببعضها البعض، ويقودها الظواهري «محاطاً بالمدير العام عبد الرحمن المغربي والمدير الرفيع المستوى أبو محسن المصري». وكانت معلومات ترددت عن مقتل المغربي بغارة في وزيرستان عام 2006، إلا أن الدراسة الأميركية توحي بأنه ما زال حياً، علماً أنه متزوج، بحسب بعض التقارير، من ابنة الظواهري. ولا تتضمن إصدارات {القاعدة} ما يؤكد أن المغربي ما زال حياً. وليس معروفاً أيضاً الدور الذي يلعبه حالياً {سيف العدل} القيادي المصري الكبير في {القاعدة}، علماً أنه كان ينشط من داخل إيران مثل أبو خير المصري، نائب الظواهري المقتول في سوريا. وتوحي كل هذه الأسماء بطغيان الطابع المصري على قيادة {القاعدة}، علماً أن المصريين شكلوا دوماً عنصراً أساسياً في هذا التنظيم حتى في أيام أسامة بن لادن.
وليس واضحاً تماماً الآن كيف سيكون شكل العلاقة بين «القاعدة» و«داعش» في أعقاب نجاح الأميركيين في هزيمة التنظيم الأخير في سوريا وقتلهم غريم الظواهري الأول، أبو بكر البغدادي، في إدلب السورية في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي. واختار «داعش» زعيماً جديداً هو أمير محمد سعيد عبد الرحمن المولى (المعروف باسم أبو إبراهيم القرشي وحجي عبد الله وأبو عمر التركماني)، الذي لعب سابقاً دور {شرعي} في صفوف «تنظيم القاعدة في العراق»، قبل أن «يرتقي في الرُتب تدريجياً إلى أن تولى منصب قائد (داعش)»، بحسب التعريف عنه في موقع «جوائز من أجل العدالة» الذي يضع جائزة قدرها خمسة ملايين دولار للوصول إليه.
وهكذا سيجد الظواهري نفسه الآن، بعد رحيل البغدادي، في مواجهة مباشرة مع زعيم جديد لـ «داعش» ... جاء من صفوف «القاعدة» نفسها.



الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

0 seconds of 3 minutes, 26 secondsVolume 90%
Press shift question mark to access a list of keyboard shortcuts
00:00
03:26
03:26
 
TT
20

الكبتاغون: ورش عشوائية تنمو على أنقاض «خطوط إنتاج» نظام الأسد

أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)
أحد عناصر السلطة السورية داخل مصنع لحبوب «الأمفيتامين» المعروفة باسم الكبتاغون في دوما على مشارف دمشق 13 ديسمبر (أ.ب)

لم تكن سوريا ساحةً لحربٍ تطحن الحجر فحسب، بل غدتْ مسرحاً لحربٍ صامتةٍ تلتهم الأرواح قبل الأجساد. بين أنقاض المدن المحترقة، نما جيلٌ كاملٌ تحت رحمة أقراصٍ زهيدةِ الثمن كانت أساساً معدّة للخارج لكنها أيضاً أغرقت السوق المحلية.

بدأت القصة حين حوّل النظام السوري السابق أقراص الكبتاغون (وهو مخدّر صناعي مكوّن من مادتي الأمفيتامين والثيوفيلين) إلى «عملةٍ دمويةٍ» لتمويل نفسه وآلة حربه، فتحوّلت هذه الحبوب إلى سيلٍ جارفٍ يجتاح الشوارع والأزقة، يسرق الأعمار، ويحوّل الأحلام كوابيس.

وشكَّل عام 2020 المنعطف الأقسى: فقد هبط سعر حبة الكبتاغون من دولار ونصف الدولار إلى خمسة سنتات فقط، أي أرخص من كوب شاي. وتضافرت عوامل عديدة في ذلك منها بدء تطبيق «قانون قيصر»، وفرض عقوبات كبيرة على النظام السوري، والأزمة الاقتصادية والمصرفية في لبنان نهاية 2019، وعدم القدرة على التعامل بالدولار وسحب الإيداعات من لبنان، والنجاح النسبي في ضبط الحدود البرية والحد ولو جزئياً من التهريب.

وفي جولة بين العديد من المناطق السورية بعد سقوط الأسد، ولقاءات مع صيادلة وأطباء في عمّان وأربيل، يحاول هذا التحقيق إعادة رسم خطوط إنتاج الكبتاغون بالاعتماد أيضاً على شهادات ضحايا إدمان وذويهم.

أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)
أحرقت السلطات السورية الجديدة مئات الأطنان من حبوب الكبتاغون المخدرة بالإضافة إلى أكياس من الحشيش في مقر الفرقة الرابعة في دمشق... الثلاثاء (إ.ب.أ)

قصص إدمانٍ تُحاك في الظلمة

في شوارع دمشق المتهالكة، حيث تتدلى الأسلاك الكهربائية كأشباحٍ تترصد المارة، ينتشر السمّ بأسماءٍ بريئة: «حبوب النشاط»، «أقراص السعادة»، «الكابتي يا مسهرني فريز» وغيرها حسب التاجر. الشباب هنا ليسوا ضحاياً عشوائيين، بل أرقام في معادلةٍ ممنهجة. تقول أرقام منظمة العمل الدولية لعام 2023 إن 39.2 في المائة من الأشخاص بعمر الإنتاج (ما فوق 15 عاماً) عاطلون عن العمل في سوريا، لكن الأرقام لا تحكي كيف يقضي أحمد (19 عاماً) أيامه جالساً على رصيفٍ مهترئ في أحد شوارع ركن الدين في دمشق، يحدّق في حذائه المثقوب، بينما يهمس تاجرٌ قريبٌ منه: «هذه الحبة ستجعل منك رجلاً... ستعمل مثل الحصان دون تعب!». لم يكن أحمد يعلم أن «الرجل» الذي وُعد به سيصبح عبداً لحبوب زرقاء، وأن ساعات العمل الطويلة في الورشة المُدمَّرة ستتحول إلى كابوسٍ لا ينهيه إلا بالمزيد من الأقراص.

القصة تتكرر كأنها لعنةٌ جماعيةٌ في بلد تتناوب عليه موجات الحرب والفقر. في هذه الظلمة يلمع بريق الكبتاغون كشهابٍ زائف. تتقاطع روايات المصادر عن حبة تُسقط الفتيانَ واحداً تلو الآخر، كقطع دومينو لا تستثني الفتيات. حتى أحلام الهجرة باتت جزءاً من المأساة: أحدهم يبيع أرضاً ليموّن رحلةً بحريةً، لكن ينتهي به المطاف في زنزانةٍ تركية... مدمناً، بلا أرضٍ ولا مال ولا مستقبل.

أكثر من عشر شهادات على امتداد المناطق السورية، قمنا بجمعها من أصحابها مباشرة أو من ذويهم لرصد ظاهرة الإدمان التي اتخذت منحى مختلفاً بعد سقوط نظام الأسد. فما كان بالأمس «تجارة» منظمة تعتمد على قطاع صناعة الأدوية والتصدير الخارجي ويسعى لزيادة أعداد «المستهلكين» داخلياً لضمان استمرارية الإنتاج، أصبح عملاً عشوائياً يسقط مزيداً من القتلى بجرعات زائدة.

أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)
أحد أفراد قوات الأمن التابعة للسلطات السورية الجديدة يحمل حبوب كبتاغون (أ.ف.ب)

ياسر (17 عاماً) من حلب، طرده أهله فالتجأ للسكن في غرفة في قبو لدى زوج خالته الذي سهل لنا التواصل معه. يقول ياسر: «كان أصدقائي يضحكون حين يتعاطون الحبوب... قالوا إنها تجعلك تشعر كأنك بطل في لعبة فيديو. جربتُها لأثبت أنني شجاعٌ مثلهم. الآن، أجوب الشوارع كالشبح... أسمع صوت أمي يلاحقني. في الليالي الباردة، أتسلل إلى بيتنا، ألمس الباب المُغلق، وأتخيل أن قذيفةً تسقط عليّ... ربما يمنحني الموتُ غفراناً لا أستحقه».

علي (22 عاماً) من دير الزور يعمل ويسكن في حي غويران بالحسكة حيث قابلناه بعد نهاية يوم عمل شاق. قال: «في يومٍ، حملتُ أكياساً من الطحين على ظهري لمدة 10 ساعات متواصلة. كان صاحب العمل يراقبني، ثم ألقى إليّ بحبةٍ قائلاً: خذ هذه ستجعل ظهركَ من حديد. الآن، ظهري يرزح تحت أثقال كثيرة... أكثرها قسوة ما أراه في عيون أطفالي. حين أعود للمنزل، أتظاهر بالنوم كي لا يقتربوا مني. أسمعهم يهمسون: بابا ينام كالميت!».

في بيوتٍ كانت يوماً تعبق برائحة القهوة الصباحية، تُحكى الآن حكاياتٌ يُراعى ألا تسمعها الجدران. محمد أبو يوسف (45 عاماً) يفرك يديه المتشققَتين وهو يحدّق في صورة ابنه البكر، ويقول: «كنت أبيع صحتي وعافيتي في الطرقات والعمل الشاق لأدفع رسوم دراسته. لكن الكبتاغون سرقه مني. حين وجدته يهتزّ كالورقة في الزاوية، صرخت: لماذا لم تمت في القصف؟! حاولت دفعه للسفر إلى أوروبا عبر مهربين، لكنه هرب من الشاحنة في منتصف الطريق وعاد إليّ بعد أشهر، عيناه تُشبهان فجوتين مظلمتين. الآن، حبسته في المنزل وأقوم بشراء الحبوب له وأدعو كل ليلة أن يأخذه الله».

غياب مراكز التأهيل: موت بطيء

تعمل الطبيبة روان الحسين (اسم مستعار) في أحد أفرع مديرية الصحة ولديها عقد استشاري مع منظمة غير حكومية تعنى بقضايا الإدمان. تغرق الطبيبة يومياً بين أكوام من الملفات، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من أرواح، وتقول: «قبل أسبوع، جاءني شاب هزيل يحمل ابنته الرضيعة. قال: خُذيها قبل أن أبيعها مقابل الحبوب. لا أملك حتى سريراً لإيوائها».

حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)
حبوب الكبتاغون مخبأة في فاكهة مزيفة داخل مصنع بمدينة دوما شرق العاصمة دمشق (إ.ب.أ)

تتنهد الحسين وهي تلملم أوراقاً تالفة وتقول: «المنظمات الدولية ترسل لنا صناديقَ أدوية من دون دراسة احتياجاتنا بينما شبابنا يموتون لأن السموم صارت جزءاً من دمائهم. ماذا سنفعل بضماداتٍ لجراح لا تُرى».

المأساة الإنسانية تكمن في غياب خدمات الصحة النفسية وعلاج الإدمان. ويشير موظفون عاملون في سوريا ضمن المفوضية السامية للاجئين (UNHCR) ومنظمة الصحة العالمية إلى أن عدد المراكز المتخصصة بعلاج الإدمان حتى مطلع شهر فبراير (شباط) من عام 2025 لا يتجاوز 10 مراكز على امتداد الأراضي السورية، بينما تقدّر الاحتياجات بأكثر من 150 مركزاً. وفي وقت تعرض أكثر من 70 في المائة من المنشآت الصحية للتدمير الجزئي أو الكلي يصبح من شبه المستحيل الوصول إلى خدمات صحية إسعافية مجانية.

وتقول الحسين: «حتى البرامج القائمة تعاني من نقص الأدوية النفسية، واعتمادها على جهود تطوعية». ولعل المشكلة الأعمق هي الوصمة المجتمعية والخوف من النظرة الدونية للمدمن وعائلته. ففي درعا على سبيل المثال، رفض الأهالي إنشاء مركز تأهيل خوفاً من «تشويه سمعة المنطقة»، حسبما علمت «الشرق الأوسط» من منظمة محلية.

 

الكبتاغون بعد سقوط الأسد

ورش عشوائية... وجيلٌ يُباد بالجرعات

لم يكن سقوط نظام الأسد نهاية المعاناة، بل كانت شرارةً لفوضى أكثر تعقيداً. فكما أدى انهيار المؤسسات في زمن الحرب إلى تحويل الشباب إلى وقودٍ لإدمانٍ رخيص، حوَّلت تركة النظام الأمنية إلى ساحةٍ لصناعة كبتاغون أكثر فتكاً. فالحكومة الجديدة، التي داهمت ودمرت المصانع العلنية، لم تدرك أن شبكات الإنتاج ستتجزأ إلى ورشٍ عشوائيةٍ تُدار بخبرة مهربين سابقين، ومدمنين استفاقوا على واقع جديد. فـ«الحبة الزهيدة» التي اعتادوها أصبحت بضاعةً نادرةً تباع بأسعارٍ تُجبرهم على العمل في تلك الورش نفسها لتمويل إدمانهم، وهي ورش عشوائية تخلط السموم بأيدٍ عارية، وبمقادير مرتجلة.

مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)
مواد بدائية لصنع حبوب الكبتاغون في قرية حاويك (الشرق الأوسط)

ومباشرة بعد سقوط نظام الأسد، أطلقت الإدارة الجديدة حملةً عسكريةً وأمنيةً لاجتثاث مصانع الكبتاغون، التي كانت تُعدُّ أحد أعمدة تمويل النظام السابق. ونجحت الحملة في تدمير عشرات المنشآت الكبرى، في ريف حمص وريف دمشق، لكن هذا النجاح حمل في طياته كارثةً غير متوقعة. فمع انهيار الإنتاج المنظم، عاد سعر الحبة الواحدة وقفز من 5 سنتات إلى دولار ونصف الدولار وأكثر أحياناً، وفقاً لشهادات صيادلة مطلعين ومستهلكين، ما حوَّل المدمنين إلى كائناتٍ يائسةٍ تبحث عن الجرعة بأي ثمن.

الحال هنا أشبه بالدمية الروسية: داخل كل كارثةٍ، تكمن كوارث أصغر. فسقوط الأسد لم يُوقف آلة الموت، بل شظّاها إلى آلاف القطع. والمدمنون الذين خُدعوا بوعود «النشوة الزهيدة» في الماضي، وجدوا أنفسهم في دوامةٍ جديدةٍ: حبوبٌ مغشوشة تُنتجها ورشٌ غير خاضعة لأي رقابة، تدفعهم إلى السرقة أو الانضمام لعصابات التهريب للحصول على جرعةٍ تكفي لإسكات آلام الانسحاب. حتى العائلات التي ظنت أن غياب الأسد سيُعيد إليها أبناءها، اكتشفت أن الورش العشوائية حوّلتهم إلى أرقامٍ جديدةٍ في إحصاءات الإدمان والوفيات.

صناعة مُمنهجة بغطاء دوائي

في عهد النظام السابق، لم تكن صناعة الكبتاغون عملاً عشوائياً، بل مشروع منهجي للدولة. فقد استغل الأسد «البُنية التحتية الدوائية» لسوريا، التي كانت تُعدُّ واحدةً من الأكثر تطوراً في المنطقة قبل الحرب لإنتاج المواد المخدرة. ففي معامل حلب ودمشق المرخصة والمجهزة بتقنيات عالية، عمل كيميائيون وخبراء صيدلانيون على تطوير تركيباتٍ «آمنة نسبياً»، تضمن الإدمان دون التسبب بوفياتٍ سريعة. ثلاث مقابلات مع ثلاثة صيادلة كانوا يعملون مع معامل أدوية مختلفة وفي غير مدينة سورية أكدوا أن النظام كان يعمل باستخدام المخابر الرسمية في تطوير تركيباته. ففي فترة من الفترات كانت تغلق المعامل أو تصادر أدواتها بحجج مختلفة ليتسنى لخبراء صناعة الكبتاغون تطوير تركيبات جديدة. ويقول مصدر مطلع لـ«الشرق الأوسط»، وهو مهندس كيميائي عمل في مصنع في منطقة الكسوة جنوب دمشق، إنه من ضمن الخبرات التي كان يتم الاستعانة بها خبرات إيرانية وخبرات هندية للوصول إلى «صيغة مثالية». وقال المصدر: «كان يتم اتباع بروتوكولات دقيقة... النظام أراد حبوباً تُدمن دون فضائح. وهذا ما جعل الكبتاغون السوري الأكثر طلباً في الأسواق»، علماً بأن الخلطة المخففة منه كانت تباع أيضاً كـ«مخدر حفلات» أي أنها ذات تأثير مؤقت.

تحالف ضباط فاسدين وتجار الموت

مع انهيار الدولة، خرجت صناعة الكبتاغون من عباءة النظام إلى أحضان الفوضى. وحسب مصدر مطلع فقد «استغل أحد الضباط الذين كان يُشرفون على أحد خطوط التهريب علاقاته السابقة في مناطق حدودية لتأسيس ورشتي تصنيع واستغلال الفقر والفوضى، وذلك طبعاً بحماية ميليشيا مسلحة»، وهو «ليس وحده بالطبع».

مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)
مهند نعمان أحد المقربين من ماهر الأسد أشرف على تصنيع الكبتاغون في دمشق والساحل السوري (متداولة)

أما أحد الذين عملوا سابقاً في التوزيع في مناطق شمال شرقي سوريا، ويقيم حالياً في مدينة أربيل العراقية، فقال لـ«الشرق الأوسط»: «أحد التجار كان يُموِّل عمليات النظام عبر شركته الوهمية لاستيراد الأدوية، فأسس شبكةً تمتد من اللاذقية إلى الحسكة». وبذلك انتشرت الورش العشوائية في مناطق كانت تُعدُّ «نظيفة» سابقاً، مثل مناطق سيطرة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) بالحسكة والرقة. وأضاف: «تعمل هذه الورش دون غطاء قانوني أو خبرات كافية، حيث يُطحن أي مسحوق أبيض من بقايا أدوية منتهية الصلاحية إلى مساحيق المبيدات الزراعية أو زجاج ويُخلط بمذيباتٍ كيميائية رخيصة».

وبسبب فوضى الإنتاج والتسويق تحوَّلت هذه الحبوب إلى قنابل موقوتة. ففي مستشفى دير الزور على سبيل المثال، سجّلت الدكتورة نهى (اسم مستعار) 10 حالات تسمم «غير اعتيادية» في الفترة بين 15 يناير (كانون الثاني) ومنتصف شهر مارس (آذار) 2025 بسبب جرعات زائدة أو شوائب سامة. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «أغلب المرضى جاءوا يعانون من تشنجات عصبية أو شلل مؤقت في أحد الأطراف، بالإضافة إلى عوارض التسمم المعروفة... وتبين أنهم تناولوا مواد تحتوي على زرنيخ أو فورمالين».

عقدة دول الجوار

سريعاً جداً، ما كان يُعتقد أنه «مشكلة سورية» تحوّل إلى وباءٍ يهدد أمن واستقرار الشرق الأوسط بأكمله. فتجارة الكبتاغون، التي تغذت من جشع الأسد للسلطة وتحالفه مع الميليشيات المدعومة من إيران، صارت جزءاً من اقتصاد الظل الإقليمي، تُموِّل عصاباتٍ في لبنان، وتُغذي الجريمة في الأردن، وتُدخل السموم إلى الخليج عبر العراق. وكل دقيقة تمر تعني ولادة مدمن جديد وخط إنتاج جديد.

عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة
عنصر أمن سوري يقف أمام معمل لصناعة حبوب الكبتاغون صادرها الأمن السوري خلال حملة التمشيط الأخيرة

ولا تزال دول الجوار تعاني من تبعات انتشار الكبتاغون السوري حتى بعد سقوط نظام الأسد، لكن تعاملها مع الأزمة يختلف باختلاف الأولويات والموارد. ففي الأردن ومنذ 2015، تشدد السلطات على عمليات التفتيش الحدودية وتعتمد على تقنيات متطورة في «الجدار الأمني»، الذي يتكون من أسلاك شائكة وعوائق برية ومراقبة جوية بالدرون وأنظمة المراقبة الإلكترونية النهارية والليلية عالية الدقة.

لكن المشكلة الأخطر تبقى مع لبنان والعراق، حيث يوجد الكثير من الضباط السابقين والأشخاص النافذين المتورطين في تجارة وتصنيع الكبتاغون، الذين يستفيدون من غطاء سياسي وأمني. لذا فإن الخوف الآن هو أن تستأنف صناعة الكبتاغون المنظمة والدقيقة في كل من البلدين أو أحدهما بالاستناد إلى الخبرات السابقة وقنوات التصريف المعروفة.