الأزمة المالية تدفع العراق إلى قصر الإنفاق على الرواتب

مخاوف من خفض الأجور وإرغام الموظفين على قبول «الادخار الإجباري»

الأزمة المالية تدفع العراق إلى قصر الإنفاق على الرواتب
TT

الأزمة المالية تدفع العراق إلى قصر الإنفاق على الرواتب

الأزمة المالية تدفع العراق إلى قصر الإنفاق على الرواتب

تسيطر مخاوف كبيرة هذه الأيام على معظم الشرائح الاجتماعية العراقية، وخاصة الموظفين والمتقاعدين الذين تساورهم الشكوك من عدم قدرة الحكومة الاتحادية على تأمين مرتباتهم خلال الأشهر القليلة المقبلة، بسبب الأزمة المالية التي تلوح في أفق البلاد والناجمة عن انهيار أسعار النفط الذي يعد مصدر الدخل الرئيس ويرفد الموازنة العامة بأكثر من 90 في المائة من مواردها المالية.
ولم تساعد التطمينات التي يطلقها بعض المسؤولين الحكوميين في تبديد تلك المخاوف، ونظراً لعدم «وضوحها ووثقيتها» أسهمت ربما، في تكريس حالة الهلع التي يشعر بها معظم العراقيين حيال مستقبلهم الاقتصادي والمالي، خاصة مع الأحاديث الشائعة عن عزم الحكومة استقطاع نسب مرتفعة من رواتب الموظفين وإرغامهم على القبول بمبدأ «الادخار الإجباري» لمواجهة الأزمة الاقتصادية المتوقعة.
ولعل التعليمات التي أصدرتها وزارة المالية، أمس، المتعلقة بإيقاف تمويل الموافقات السابقة كافة المتعلقة بصرف الأموال وحصر التمويل برواتب الموظفين والمتقاعدين، تكشف بما لا يقبل التأويل عن حجم المشاكل المالية والاقتصادية التي تتربص بالبلاد.
ووجه الكتاب الصادر عن مدير عام دائرة الموازنة في وزارة المالية بإيقاف تمويل الموافقات السابقة كافة المتعلقة بصرف الأموال وحصر التمويل للرواتب والرواتب التقاعدية، نظراً «لشحة السيولة النقدية لشهر أبريل (نيسان) بسبب انخفاض أسعار النفط». بحسب الكتاب الصادر الذي يؤكد أن التوجيه استند إلى أوامر من رئيس الوزراء.
ويشدد كتاب المالية على حصر «التمويل للرواتب والرواتب التقاعدية وشبكة الحماية الاجتماعية ورواتب الشركات ورواتب المنح وأجور التنظيفات وأجور المختارين وتمويل وزارة الصحة ودوائر الصحة في عموم المحافظات».
وفي حين يرجح معظم الاقتصاديين لجوء الحكومة إلى خفض رواتب الموظفين في الأشهر المقبلة، استبعدت اللجنة المالية في مجلس النواب، أمس، ذلك وأكدت عدم ورود توجيه من الحكومة بهذا الشأن.
وقال عضو اللجنة أحمد الصفار في تصريحات، إن «اللجنة المالية وضعت معايير الهدف منها تحقيق العدالة في توزيع الثروات على أن يقلل الفرق بين الراتب الأعلى والراتب الأدنى، فضلاً عن تخفيض المخصصات». وتابع، أن «الخبراء أكدوا أن أسعار النفط ستعاود الانتعاش، وأن الأزمة قصيرة، لكن في حال استمرارها سيتم الاستعانة بوسائل أخرى منها الاقتراض من البنك المركزي وتقليل النفقات غير الضرورية، بالإضافة إلى إيقاف الاستثمار والتركيز على تأمين الرواتب».
غير أن أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد إحسان جبر، يستبعد قدرة الحكومة على الاقتراض ويرجح خفض رواتب الموظفين في الأشهر المقبلة. ويقول جبر لـ«الشرق الأوسط»، إن «البلاد واجهت أزمة أقل حدة في عام 2014، لكنها تغلبت عليها عبر الإقراض الداخلي لنحو 16 تريليون دينار عراقي، لكن إمكانية الاقتراض هذه غير متوفرة اليوم، لأسباب كثيرة، منها أن 80 في المائة من العملة المحلية موجودة في منازل المواطنين وخارج الجهاز المصرفي، اتصور أن الحكومة استنفذت سابقاً قدرة الاقتراض الداخلي».
وتوقع جبر أن تكون «الحكومة قادر على تأمين رواتب الموظفين وبقية الشرائح حتى شهر يونيو (حزيران) المقبل، ثم ستلجأ بعد ذلك إلى خصم المرتبات بنسبة 35 في المائة، وحسب معدل المرتبات بالنسبة لكبار الموظفين والأقل منهم». ويرى أن «قضايا التوظيف الجديدة والاستثمار والمشاريع أصبحت من التاريخ في ظل انخفاض أسعار النفط وما سبقه من فساد واستنزاف كامل لثروات البلاد».
ويلاحظ مراقبون محليون، أن المخاوف السكانية لا تأتي من انهيار أسعار النفط فقط، إنما أيضاً، من كساد الأسواق وتوقف حركة العمل نتيجة وباء كورونا؛ لذلك نجد أن أعداداً كبيرة من المواطنين العراقيين تقدموا مؤخراً لطلب الإعانة الاجتماعية البالغة (30) ألف دينار للفرد الواحد. وكشفت بعض إحصاءات صادرة عن وزارة التخطيط عن أن إجمالي المتقدمين تجاوز الـ15 مليون مواطن.
ولا تقتصر المخاوف السكانية من الأزمة الاقتصادية المقبلة واحتمال تخفيض أجور الموظفين على محافظات العراق العربية وحسب، بل تمتد لتشمل الموظفين وعموم المواطنين في محافظات إقليم كردستان لإجراء مماثل بالنسبة لقطع الرواتب من الحكومة الاتحادية، خاصة بعد تجدد الخلافات بينها وبين حكومة الإقليم بشأن كميات النفط.
وكانت أمانة مجلس الوزراء، وجهت منتصف الشهر الحالي، كتاباً إلى وزارة المالية تأمر بوقف صرف الرواتب بسبب عدم إيفاء إقليم كردستان بالتزاماته في ميزانية البلاد المالية لعام 2019 والمتمثلة بتسليم 250 ألف برميل يومياً من النفط.
بدورها، عبرت حكومة إقليم كردستان، عن رفضها استخدام مسألة رواتب الموظفين والعاملين في الإقليم بالقطاع العام «كورقة ضغط» سياسية. وقال المتحدث باسم الحكومة جوتيار عادل خلال مؤتمر صحافي عقد، أمس، عقب اجتماع الكتل الكردستانية في البرلمان العراقي مع الوفد الحكومي المفاوض للحكومة الاتحادية، إن «الاجتماع كان إيجابياً، وقد تم التوصل خلاله إلى مجموعة من النقاط منها استمرار التنسيق والتعاون بين الكتل الكردستانية في البرلمان العراقي واللجنة التفاوضية». وأضاف عادل، أنه «تم التأكيد في الاجتماع على عدم جواز استخدام مسألة رواتب الموظفين وقوت شعب كردستان كورقة ضغط تستخدم في المزايدات السياسية، وأن حكومة إقليم كردستان ملتزمة بالاتفاقات المالية والنفطية في إطار ما تمخضت عنه التفاهمات مع الحكومة الاتحادية في نهاية عام 2019».



القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
TT

القطن المصري... محاولة حكومية لاستعادة «عصره الذهبي» تواجه تحديات

مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)
مصطفى مدبولي بصحبة عدد من الوزراء خلال تفقده مصنع الغزل والنسيج في المحلة (مجلس الوزراء المصري)

تراهن الحكومة المصرية على القطن المشهور بجودته، لاستنهاض صناعة الغزل والنسيج وتصدير منتجاتها إلى الخارج، لكن رهانها يواجه تحديات عدة في ظل تراجع المساحات المزروعة من «الذهب الأبيض»، وانخفاض مؤشرات زيادتها قريباً.

ويمتاز القطن المصري بأنه طويل التيلة، وتزرعه دول محدودة حول العالم، حيث يُستخدم في صناعة الأقمشة الفاخرة. وقد ذاع صيته عالمياً منذ القرن التاسع عشر، حتى أن بعض دور الأزياء السويسرية كانت تعتمد عليه بشكل أساسي، حسب كتاب «سبع خواجات - سير رواد الصناعة الأجانب في مصر»، للكاتب مصطفى عبيد.

ولم يكن القطن بالنسبة لمصر مجرد محصول، بل «وقود» لصناعة الغزل والنسيج، «التي مثلت 40 في المائة من قوة الاقتصاد المصري في مرحلة ما، قبل أن تتهاوى وتصل إلى ما بين 2.5 و3 في المائة حالياً»، حسب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، الذي أكد عناية الدولة باستنهاض هذه الصناعة مجدداً، خلال مؤتمر صحافي من داخل مصنع غزل «1» في مدينة المحلة 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

أشار مدبولي، حسب ما نقله بيان مجلس الوزراء، إلى أن مشروع «إحياء الأصول» في الغزل والنسيج يتكلف 56 مليار جنيه (الدولار يعادل 50.7 جنيها مصري)، ويبدأ من حلج القطن، ثم تحويله غزلاً فنسيجاً أو قماشاً، ثم صبغه وتطويره حتى يصل إلى مُنتج سواء ملابس أو منسوجات، متطلعاً إلى أن ينتهي المشروع نهاية 2025 أو بداية 2026 على الأكثر.

وتكمن أهمية المشروع لمصر باعتباره مصدراً للدولار الذي تعاني الدولة من نقصه منذ سنوات؛ ما تسبب في أزمة اقتصادية دفعت الحكومة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي؛ مرتين أولاهما عام 2016 ثم في 2023.

وبينما دعا مدبولي المزارعين إلى زيادة المساحة المزروعة من القطن، أراد أن يطمئن الذين خسروا من زراعته، أو هجروه لزراعة الذرة والموالح، قائلاً: «مع انتهاء تطوير هذه القلعة الصناعية العام المقبل، فسوف نحتاج إلى كل ما تتم زراعته في مصر لتشغيل تلك المصانع».

وتراجعت زراعة القطن في مصر خلال الفترة من 2000 إلى عام 2021 بنسبة 54 في المائة، من 518 ألفاً و33 فداناً، إلى 237 ألفاً و72 فداناً، حسب دراسة صادرة عن مركز البحوث الزراعية في أبريل (نيسان) الماضي.

وأرجعت الدراسة انكماش مساحته إلى مشكلات خاصة بمدخلات الإنتاج من بذور وتقاوٍ وأسمدة، بالإضافة إلى أزمات مرتبطة بالتسويق.

أزمات الفلاحين

سمع المزارع الستيني محمد سعد، وعود رئيس الوزراء من شاشة تليفزيون منزله في محافظة الغربية (دلتا النيل)، لكنه ما زال قلقاً من زراعة القطن الموسم المقبل، الذي يبدأ في غضون 3 أشهر، تحديداً مارس (آذار) كل عام.

يقول لـ«الشرق الأوسط»: «زرعت قطناً الموسم الماضي، لكن التقاوي لم تثمر كما ينبغي... لو كنت أجَّرت الأرض لكسبت أكثر دون عناء». وأشار إلى أنه قرر الموسم المقبل زراعة ذرة أو موالح بدلاً منه.

نقيب الفلاحين المصري حسين أبو صدام (صفحته بفيسبوك)

على بعد مئات الكيلومترات، في محافظة المنيا (جنوب مصر)، زرع نقيب الفلاحين حسين أبو صدام، القطن وكان أفضل حظاً من سعد، فأزهر محصوله، وحصده مع غيره من المزارعين بقريته في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، لكن أزمة أخرى خيَّبت أملهم، متوقعاً أن تتراجع زراعة القطن الموسم المقبل مقارنة بالماضي (2024)، الذي بلغت المساحة المزروعة فيه 311 ألف فدان.

تتلخص الأزمة التي شرحها أبو صدام لـ«الشرق الأوسط» في التسويق، قائلاً إن «المحصول تراكم لدى الفلاحين شهوراً عدة؛ لرفض التجار شراءه وفق سعر الضمان الذي سبق وحدَّدته الحكومة لتشجيع الفلاح على زراعة القطن وزيادة المحصول».

ويوضح أن سعر الضمان هو سعر متغير تحدده الحكومة للفلاح قبل أو خلال الموسم الزراعي، وتضمن به ألا يبيع القنطار (وحدة قياس تساوي 100 كيلوغرام) بأقل منه، ويمكن أن يزيد السعر حسب المزايدات التي تقيمها الحكومة لعرض القطن على التجار.

وكان سعر الضمان الموسم الماضي 10 آلاف جنيه، لمحصول القطن من الوجه القبلي، و12 ألف جنيه للمحصول من الوجه البحري «الأعلى جودة». لكن رياح القطن لم تجرِ كما تشتهي سفن الحكومة، حيث انخفضت قيمة القطن المصري عالمياً في السوق، وأرجع نقيب الفلاحين ذلك إلى «الأزمات الإقليمية وتراجع الطلب عليه».

ويحدّد رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن التابع لوزارة الزراعة، الدكتور مصطفى عمارة، فارق سعر الضمان عن سعر السوق بنحو ألفي جنيه؛ ما نتج منه عزوف من التجار عن الشراء.

وأكد عمارة أن الدولة تدخلت واشترت جزءاً من المحصول، وحاولت التيسير على التجار لشراء الجزء المتبقي، مقابل أن تعوض هي الفلاح عن الفارق، لكن التجار تراجعوا؛ ما عمق الأزمة في السوق.

يتفق معه نقيب الفلاحين، مؤكداً أن مزارعي القطن يتعرضون لخسارة مستمرة «سواء في المحصول نفسه أو في عدم حصول الفلاح على أمواله؛ ما جعل كثيرين يسخطون وينون عدم تكرار التجربة».

د. مصطفى عمارة رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية (مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار المصري)

فرصة ثانية

يتفق المزارع ونقيب الفلاحين والمسؤول في مركز أبحاث القطن، على أن الحكومة أمامها تحدٍ صعب، لكنه ليس مستحيلاً كي تحافظ على مساحة القطن المزروعة وزيادتها.

أول مفاتيح الحل سرعة استيعاب أزمة الموسم الماضي وشراء المحصول من الفلاحين، ثم إعلان سعر ضمان مجزٍ قبل موسم الزراعة بفترة كافية، وتوفير التقاوي والأسمدة، والأهم الذي أكد عليه المزارع من الغربية محمد سعد، هو عودة نظام الإشراف والمراقبة والعناية بمنظومة زراعة القطن.

ويحذر رئيس قسم بحوث المعاملات الزراعية في معهد بحوث القطن من هجران الفلاحين لزراعة القطن، قائلاً: «لو فلاح القطن هجره فـلن نعوضه».

أنواع جديدة

يشير رئيس غرفة الصناعات النسيجية في اتحاد الصناعات محمد المرشدي، إلى حاجة مصر ليس فقط إلى إقناع الفلاحين بزراعة القطن، لكن أيضاً إلى تعدد أنواعه، موضحاً لـ«الشرق الأوسط» أن القطن طويل التيلة رغم تميزه الشديد، لكن نسبة دخوله في المنسوجات عالمياً قليلة ولا تقارن بالقطن قصير التيلة.

ويؤكد المسؤول في معهد بحوث القطن أنهم استنبطوا بالفعل الكثير من الأنواع الجديدة، وأن خطة الدولة للنهوض بصناعة القطن تبدأ من الزراعة، متمنياً أن يقتنع الفلاح ويساعدهم فيها.