«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

يمتد زمنها من 1948 حتى الوقت الحاضر

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي
TT

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

صدرت عن «دار العين» في القاهرة رواية «بيت النقب» للكاتبة الفلسطينية سوزان الفرا، ترجمة ندى الأزهري، الناقدة السورية المُقيمة في باريس. وقد تميّزت هذه الترجمة بالسلاسة والانسيابية، لدرجة أنّ القارئ يشعر وكأنّ النص مكتوب بالعربية مباشرة. يمكن أن يُصنّف هذا الكتاب كـ«سيرة ذاتية روائية» أو «أدب رحلات»، لأن معطياته الأساسية تقوم على هذين النوعَين الأدبيين المُحاذيّين للمناخ الروائي. ثمة شخصية مركزيّة في هذا الكتاب، وهي الراوية التي تسرد لنا الوقائع والأحداث التي تراها رأي العين، أو تسمعها هنا وهناك، وتتفاعل معها بطريقتها الخاصة.
فهذه الشخصية معقّدة لأنها مثقفة، وكوزموبوليتانية مُحمّلة بالنَفَس اليساري الذي استمدته من والدها الذي يناضل البرجوزاية، ومن زوجها «علي الكنز» الذي عرّفها على كارل ماركس، وزنوفييف، وهنري ميلر، وغيرهم من أساطين الأدب والفن والفكر الذين ساهموا في تثقيفها وتنوير ذهنيتها المتأججة أصلاً.
ينحصر زمان الرواية منذ النكبة عام 1948 وحتى الوقت الحاضر، لكن تعالقات الرواية مع الفئة السامرية تعود بنا إلى هيمنة الآشوريين على فلسطين، والسبي البابلي لليهود السامريين الذي يعدّون أنفسهم أصحاب الديانة اليهودية الأصلية التي لم تتعرّض للتحريف.
أما المكان فيمتد من غزّة، إلى السعودية، والجزائر، وتونس، ونانت الفرنسية، ليعود مرة أخرى إلى فلسطين على شكل رَحَلات إلى عدد غير قليل من المدن الفلسطينية والإسرائيلية. هذا الشكل الرحَلاتي يُقارب «أفلام الطريق»، لكنه يغوص في التفاصيل، ويستشفّ منها الكثير من العِبَر والخُلاصات الحسّاسة التي ترصد الشيء ونقيضه.
تضع سوزان الفرا قارئها أمام الإشكالية الأولى، وهي رغبة الأم في اصطحاب ولديها لزيارة بيتها في بير السبع، وهما البنت الراوية التي بلغت سنّ الخامسة عشرة؛ وشقيقها أنيس الذي يصغرها بعام واحد، وابن خالتهم سالم الذي يقود السيارة ويتذمّر طوال الطريق المؤدّي إلى «بيت النقب».
وعلى عكس تمنيات البنت الراوية بأن يكون مُحتل البيت ومُغتصبه يهودياً يسارياً سلس القياد يتبيّن بأنه رجل دين منفعل تدفعه الأم وتدخل إلى الصالون، لترى كل شيء كما كان عليه في السابق، البوفيه الكبير، وطقم السُفرة، وكرسي الخيزران الذي يجلس عليه الجد، بل حتى الطبق لا يزال موجوداً على منضدة الطعام الذي حملته الأم، مستذكرة الأيام الخوالي، لكن ما إن تدخل شقيقة اليهودي حتى تخطف الطبق من يد الأم، وتقذفه على الأرض، ليتحطّم إلى شظايا متناثرة فتصرخ الأم قائلة: «يا بنت الكلب، هذا طبقي، هذا بيتي!». ثم يغادرون المنزل من دون أن يلتفتوا إلى الوراء.
تعود بنا الراوية إلى عام النكبة الذي تبعثَر فيها الفلسطينيون، لكنهم لم يستكينوا رغم ضعفهم، فهم مقاومون يصطحبون معهم حكاياتهم أنّى ذهبوا ليسردوها إلى صغارهم. ويُشكِّل زواج الأبوين حدثاً فارقاً، لأن أم الراوية كانت «مرغوبة وعسيرة المنال» تنحدر من أسرة ثرية، بينما لم يكن هاشم سوى رجل غريب لا يليق بمنزلتها الاجتماعية. وهذا هذا الأب سيأخذ العائلة إلى أكثر من بلد، حيث يترك فلسطين ويعمل في أحد المصارف السعودية في بداية الستينات، وحينما يمرض ينصحه الأطباء بالعودة إلى غزّة، لكنه يغادر إلى الجزائر في مغامرة جديدة، ويُعيّن مدرّساً للغة العربية.
تندلع حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، فيصبح المنفى أبدياً من وجهة نظر الراوية التي ترتدي قناع المؤلِفة.
على الرغم من أهمية الفصول الروائية جميعاً، إلاّ أنّ هناك فصولاً أخرى أكثر أهمية من غيرها، ويمكن أن نعُدّها وحدات سردية مُثقلة بالثيمات والأفكار الرئيسية التي يقوم عليها النص الروائي مثل الفصل الأول الذي أشرنا إليه سلفاً، والفصل الثاني عشر الذي يتواطأ معها المسافرون اليهود على متن الطائرة السويسرية، لكنهم سيضعونها في خانة «الآخرين»، بمجرد أن يكتشفوا جواز سفرها، فيمرّ الجميع بسرعة كبيرة، بينما تقضي الراوية وابنها ساعتي تحقيق قبل أن يُسمح لهما بالعبور من الحاجز الأول.
يمثِّل الفصل الثالث والعشرون صدمة للراوية التي رأت بيت النقب ثانية فوجدت أنهم قد حوّلوه إلى كنيس صغير للحيّ. تُرى، هل سيأتي ابنها بعد ثلاثين سنة مصطحباً أولاده لكي يتعرّفوا على منزل الأجداد؟
ما يميّز هذه الرواية هو تعالقها في الفصل الرابع والعشرين مع السامريين الذين يعدّون أنفسهم أعرق سلالة يهودية مُحافظة في الشرق الأوسط، وأصحاب التوراة الحقيقية الذين سكنوا في جبل جرزيم، وشيّدوا هيكلهم عليه، وآمنوا بأركان الدين الخمسة، وتضاءلت أعدادهم بسبب الحروب، ولم يبقَ منهم سوى 800 سامري لا غير موزعين بين نابلس ومدينة حولون الواقعة جنوب تل أبيب!
وربما تكون الخاتمة التي جاءت بعد الفصل السادس والعشرين أشبه بمناجاة داخلية، لأنها تعتقد أن هذه الرحلة قد تكون رحلتها الأخيرة التي رأت فيها أشياء كثيرة وتحسستها عن قرب، وأعادتها إلى نفسها، وشعورها الدائم بالتيه، والخواء والدُوار. وعندما قرّرت العودة مع ابنها إلى مدينة نانت ثانية، شعرت بأنها قد أورثته حكايتها التي سيمرّرها حتماً إلى أبنائه في السنوات المقبلة.
يُعدّ الفصل الثامن من الرواية فضاءً نموذجياً للحرية الشخصية، ففيه تتفتح موهبة الراوية كطالبة جامعية تدرس العلوم السياسية، وتكتشف الماركسية والحُب والرفاق، مودعة تقاليد الأهل وقيمهم الاجتماعية التي لم تعد تتلاءم مع روح العصر، وقد ساعدها في ذلك زوجها «علي الكنز» الذي حرّرها من عبودية المجتمع.
والروائية سوزان الفرا من مواليد غزّة عام 1958، تقيم في نانت، غرب فرنسا، وتعمل مدّرسة للغة العربية في مدرسة ثانوية. عاشت في خمس دول عربية وأجنبية وهي مصر والمملكة العربية السعودية والجزائر وتونس وبلجيكا، قبل أن تنتقل إلى فرنسا، لتمارس الكتابة الأدبية. حازت روايتها الأولى «بيت النَقَب» على «جائزة يامبو أولوكَوم»، التي تحمل اسم الكاتب المالي نفسه، وهي جائزة أفريقية مرموقة.



رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله
TT

رحيل مكي حسين... نحات أجساد الضحايا

مكي حسين في مشغله
مكي حسين في مشغله

فجع الوسط الثقافي والتشكيلي العراقي بالرحيل المفاجئ والمأساوي للنحات مكي حسين، الذي مات وحيداً في شقته التي كان يقطنها بالملجأ الألماني، ولم تكتشف جثته إلا بعد أربعة أيام بعدما اقتحمت الشرطة الشقة، تاركاً خلفه إرثاً إبداعياً ضخماً في مشغله يواجه مصيراً مجهولاً.

ولد الراحل في مدينة البصرة عام 1947، ودرس فن النحت في معهد الفنون الجميلة، الذي تخرج فيه عام 1968. وأصبح عضواً في جمعية التشكيلين العراقيين منذ سنة تخرجه، ثم عضواً في هيئتها الإدارية في عام 1971. غادر العراق، مثل مئات المثقفين العراقيين، بعد حملة النظام العراقي السابق على معارضيه، ثم التحق بحركة الأنصار اليسارية المسلحة في كردستان العراق، وبعدها رحل إلى سوريا ثم إلى منفاه الأخير في ألمانيا.

في عقد السبعينات من القرن الماضي، شارك مكي حسين مع فنانين عراقيين في معارض عديدة، وواصل نشاطه بعد مغادرته العراق عام 1979، وكان آخر معرض شخصي له في مدينة لاهاي الهولندية، عرض فيه تمثاله «صرخة من عمق الجبال» الذي أدان فيه مجزرة «بشتاشان» ضد فصائل الأنصار في كردستان.

من أعماله

تميزت تجربة مكي حسين، كما يتفق معظم النقاد، بـ«قدرة استثنائية» على جعل «البرونز» قناة إيصال إنسانية. فمنذ عمله الأول «الرجل صاحب الجناح» انهمك في صراع فني لتطويع الخامة في خدمة موضوع «الجسد المحاصر». إن منحوتاته، كما يقول أحد النقاد، لا تقدم احتفاءً جمالياً مجرداً، بل هي «أجساد منتزعة من عذابات الضحايا، حيث تعكس حالة اللاتوازن مع عالم مضطرب ومطعون في أخلاقياته».

ويقول الناقد العراقي عادل كامل عن أعماله: «لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءاً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم العلمي لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، حقوق المرأة... إلخ، كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي، ذاكرته الجمعية، كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني».


هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا
TT

هل كان أبو العلاء المعري متشائماً حقاً؟

تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز  النحات السوري عاصم الباشا
تمثال أبي العلاء المعري وهو من إنجاز النحات السوري عاصم الباشا

غَيْرُ مُجْدٍ فِي مِلَّتِي وَاعْتِقَادِي

نَوْحُ بَاكٍ وَلَا تَرَنُّمُ شَادِ

وَشَبِيهٌ صَوْتُ النَّعِيِّ إِذَا قِيـ

ـسَ بِصَوْتِ الْبَشِيرِ فِي كُلِّ نَادِ

أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَنَّـ

ـتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ

صَاحِ هَذِي قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْـ

ـبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟

خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْ

أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ

(...)

فَاسْأَلِ الْفَرْقَدَيْنِ عَمَّنْ أَحَسَّا

مِنْ قَبِيلٍ وَآنَسَا مِنْ بِلَادِ

كَمْ أَقَامَا عَلَى زَوَالِ نَهَارٍ

وَأَنَارَا لِمُدْلِجٍ فِي سَوَادِ

تَعَبٌ كُلُّهَا الْحَيَاةُ فَمَا أَعْــ

جَبُ إِلَّا مِنْ رَاغِبٍ فِي ازْدِيَادِ

إِنَّ حُزْناً فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَا

فُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ

(...)

ضَجْعَةُ الْمَوْتِ رَقْدَةٌ يَسْتَرِيحُ الْــ

جِسْمُ فِيهَا وَالْعَيْشُ مِثْلُ السُّهَادِ

أبيات أبو العلاء المعري الذائعة هذه والمأخوذة من قصيدته في رثاء قاضٍ فقيه يُقال له أبو حمزة التنوخي كانت بينهما صداقة أو قرابة - هذه الأبيات التي نشأنا نرددها في سذاجة من أيام المدرسة والتي كثيراً ما تتخذ عنواناً على تشاؤم المعري الشهير – هذه الأبيات لا أرى فيها تشاؤماً، ولا يأساً، ولا قعوداً عن مجهود الحياة، فقائلها عاش حياة مديدة جاوزت الثمانين عاماً (973-1057م)، وأنجز في الأدب والشعر ما نتغنى به ونستلهم منه الفن والحكمة بعد قرابة عشرة قرون مضت على زمنه. فعل هذا في عصر بالغ الاضطراب سياسياً واجتماعياً ومذهبياً وعنصرياً، سادت فيه الصراعات بين القوى المتصارعة على السلطة في ظل ضعف الخلافة العباسية وزوال السلطة المركزية لبغداد. فعل هذا كله وهو ضرير منذ طفولته، مضطر للاستعانة بغيره في شؤون العيش. عاش حياة رفيعة متنزهة زاهدة معتزلة للناس لكنها حافلة بالمعرفة والحكمة والحب والإنتاج والفيض على المريدين والصحاب. عاش حياته بشروطه. وليس في شيء من هذا كله تشاؤم ولا يأس ولا تخاذل عن عناء الحياة مما تفرضه فرضاً على الأحياء أو مما اختاره هو في حياته الزاهدة من شظف إضافي، كما فعل في شعره أيضاً حين ألزم نفسه بما لا تلزمه به قواعد الشعر.

كتب المعري مرثيته هذه وهو في العشرينات من عمره، والحقيقة أني أتردد في نعتها بالمرثية، وإنما هي قصيدة تأمل في الحياة والموت والوجود والعدم، قصيدة فلسفة وموقف فكري، ولم يكن رثاء الصديق إلا المناسبة التي فجّرت في الشاعر مشاعر وأفكاراً كانت تختمر وتسعى إلى صياغة شعرية. فالقصيدة التي تقع في 64 بيتاً تُفتح بالتأملات الشهيرة أعلاه ولا يرد فيها ذكر لموضوع الرثاء، القاضي أبو حمزة، حتى نصل إلى البيت الثالث والعشرين، وينحصر الحزن المباشر على الصديق الراحل وتعداد مناقبه في نحو نصف القصيدة، مسبوقاً ومتبوعاً بالتأملات الفلسفية.

ما أراه في هذه القصيدة الشهيرة التي ظهرت في ديوان المعري الأول «سقط الزند» وفي غيرها من شعره إنما هو موقف وجودي. موقف توصل إليه الشاعر في صدر شبابه. ليست هذه القصيدة المبكرة نتاج اعتراك طويل للحياة، ولا هي حكمة شيخ في نهاية العمر، وإنما هي موقف وجودي. موقف واعٍ بالأبعاد العبثية في الحياة، والتي يجللها العبث الأكبر الذي اسمه الموت. فالحياة تنتهي بنقيضها، ومن هنا تساويها مع الموت. ومن هنا أيضاً تساوي كل النقائض التي تعددها تلك الأبيات: النوح والترنم، النعي والبشارة... إلخ. فالباكي والمترنم، والناعي والمبشر، والحمامة شدت أو بكت، وكل موجب وسالب صائر إلى الموت الذي ينفي ما بينهما من اختلاف ويؤالف تناقضهما. بل إن المعري في انفساح نظرته الوجودية لا يقصر تأمله على حياة البشر وسائر المخلوقات على الأرض، بل إنه يعلن أن الموت أو الفناء مصير كل وجود في الكون، سواء كان وجوداً واعياً أو غير واعٍ، فكوكب «زحل من لقاء الردى على ميعاد»، والمريخ «ستنطفأ ناره وإن علتْ في اتقاد»، والثريَّا ستموت نجومها تباعاً ويفترق شملها، تماماً كما يفرّق الموت شمل الأسر والجماعات من بني الإنسان.

يدرك المعري أن الفناء مصير كل موجود من أصغر مخلوقات الأرض شأناً إلى الكواكب والنجوم في عمق الفضاء اللامتناهي. «كل بيت للهدم» سواء كان عش حمامة أو قصراً منيفاً «لسيد رفيع العماد». من هنا التعادلية في موقف المعري. أي فرق هناك؟ كل جهد عظيم أو حقير، كل حياة بهيجة أو بائسة هي «تعب غير نافع». هي «اجتهاد لا يؤدي إلى غناء». لكننا مع ذلك نعيشها. نعيشها كما عاشها. الفارق أنه عاشها مدركاً كنهَها، سابراً غورها، ولم يعشها منكبّاً عليها، مخدوعاً بها. عاشها بشروطه بقدر ما تسمح الحياة أن تُملى عليها الشروط: «اللبيب من ليس يغترّ بكونٍ مصيره للفساد». هذا موقف فلسفي وجودي بطولي لأن حياة الشاعر جاءت ترجمة «لملته واعتقاده». أو أنه على عكس الكثيرين عاش اعتقاده، ولم يعانِ من تلك الفجوة الشهيرة بين القول والفعل، بين المعتقد والممارسة.

هذا المتشائم المزعوم هو القائل «ولو أني حُبيتُ الخلدَ فرداً لما أحببتُ بالخلد انفرادا / فلا هطلتْ عليَّ ولا بأرضي سحائبُ ليس تنتظم البلادا»، وفي موضع آخر: «والناس للناس من بدو وحاضرة، بعضٌ لبعضٍ، وإن لم يشعروا، خدم». لا تشاؤم ولا عزلة ولا اجتواء للخلق في مثل هذه الفلسفة، بل فكر اجتماعي تكافلي تضامني ملتزم إلى حد رفض كل نعيم، دائمه وزائله، إن لم يعمَّ خيره على الناس قاطبة. فجهد الحياة عنده جهد مشتَرك يتعاضد الناس فيه من أجل البقاء، عن قصد وإدراك أو بغير قصد وإدراك. لهذا كله نجد المعري مثالاً باهظاً، فنريح أنفسنا بنبذه باعتباره «متشائماً» لا يقدّر مسرّات الحياة ومتعها، أو بالعبارة العامية «نِكدي»، أجدر بنا أن نبعد عن أفكاره «السوداوية» ولننشغل بالترنم والشدو وحمل البشارات. فلننشغل سادرين حتى الموت.


مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
TT

مجامر أثرية من البحرين

أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.
أربع مجامر محفوظة في متحف البحرين الوطني بالمنامة.

يحتفظ متحف البحرين الوطني بمجموعة من المجامر عُثر عليها خلال حملات التنقيب المتواصلة في عدد من المدافن الأثرية، منها ما صُنع من المادة الحجرية، ومنها ما صُنع من طينة الفخار. تنتمي هذه المجامر إلى مراحل متعاقبة زمنياً، فمنها ما يعود إلى الحقبة التي شكّلت فيها البحرين حاضرة من حواضر إقليم تجاري وسيط عُرف باسم دلمون في المصادر السومرية، ومنها ما يعود إلى حقبة لاحقة عُرفت فيها هذه الجزيرة باسم تايلوس في المصادر اليونانية. من جهة أخرى، تعكس هذه القطع تعدّدية كبيرة في الطرز الفنية المعتمدة، وتظهر هذه التعدّدية بشكل جليّ في اختلاف البنى التكوينية الخاصة بها، كما في اختلاف الحلل التي تزيّن هذه البنى.

يتمثّل ميراث دلمون بمجمرة من الفخار تتميّز ببنيتها التكوينية المختزلة، مصدرها مدافن عالي التي تشكّل جزءاً من تلال تمتدّ على مدى 20 كيلومتراً في الجزء الغربي من جزيرة البحرين. يُعرف هذا الموقع رسمياً باسم «تلال مدافن دلمون»، وبهذا الاسم أُدرج في قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) في صيف 2019. عُثر على هذه المجمرة خلال حملة تنقيب محلّية جرت بين عام 1988 وعام 1989، وهي من الحجم الصغير؛ إذ يبلغ طولها نحو 20 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل عمود أسطواني يعلوه وعاء عريض خصّص لاحتواء الجمر الخاص بإحراق البخور أو الطيوب وما شابه. تعود هذه القطعة الفخارية على الأرجح إلى القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل المسيح، والقطع التي تشبهها نادرة للغاية في ميراث دلمون الأثري، ممّا يوحي بأّنها دخلت إلى البحرين من الخارج، وليست من النتاج المحلّي، ويرجّح أهل الاختصاص أن وظيفتها ترتبط بالطقوس الجنائزية المعتمدة في الدفن.

دخلت هذه المجمرة متحف البحرين الوطني بالمنامة، ودخلت من قبلها مجمرة مغايرة تماماً في التكوين، عُثر عليها كما يبدو في مطلع سبعينات القرن الماضي. تختلف المصادر في تحديد موقع هذا الاكتشاف؛ إذ ينسبه البعض إلى قلعة البحرين التي تقع على الساحل الشمالي، وينسبه البعض الآخر إلى مقبرة تُعرف باسم الحجر، نسبة إلى القرية التي تجاورها، وتشرف على شارع البديع في المحافظة الشمالية. صيغت هذه المجمرة على شكل مكعّب صغير من الحجر، طوله 7 سنتيمترات وعرضه 6 سنتيمترات، وكلّ من واجهاتها الأربع مزينة بشبكة من النقوش زخرفية، قوامها نجم ذو أربعة أطراف مقوّسة، تحيط به خانات عدة، وُشح كلّ منها بسلسلة من العواميد، تعلوها خطوط أفقية متجانسة. تتبع هذه المجمرة الحجرية تقليداً راسخاً نشأ وشاع في جنوب الجزيرة العربية خلال القرون الأخيرة من الألفية الأولى قبل المسيح، وشواهد هذا التقليد عديدة، منها عدد كبير دخل المتاحف العالمية الكبرى في الغرب. بلغ هذا الطراز الجنوبي شرق الجزيرة العربية، كما بلغ شرق أقاليم البحر الأبيض المتوسّط وبلاد ما بين النهرين. وتشهد مجمرة البحرين على ظهور هذا الطراز في وسط ساحل الخليج العربي.

يحوي متحف البحرين الوطني كذلك مجمرتين من الفخار تمثّلان نتاج ما يُعرف اليوم بحقبة تايلوس، وهما من نتاج المرحلة الممتدة من القرن الأول قبل المسيح إلى القرن الأول للمسيح. تعود إحدى هاتين القطعتين إلى مقبرة حمد التي تشكّل جزءاً من «تلال مدافن دلمون»، وتعود الأخرى إلى مقبرة الشاخورة التي تحمل اسم القرية التي تجاورها، وتقع على بعد نحو 700 متر جنوب شارع البديع.

يبلغ طول مجمرة تل حمد 20 سنتيمتراً، وعرضها 8 سنتيمترات، وهي على شكل عمود ذي أربع قوائم، يعلوه وعاء المجمرة العريض. يتكون هذا العمود من ست حلقات دائرية ناتئة ومتراصة، تزيّنها حلية لونية متقشفة مطلية باللون الأحمر القاني، قوامها بضعة خطوط أفقية تستقر بينها بضعة خطوط عمودية. تكلّل وعاء المجمرة هذه الحلقات الدائرية المتراصة، وتزيّنه شبكة مشابهة من الخطوط المطلية.

في المقابل، يبلغ طول مجمرة الشاخورة نحو 19 سنتيمتراً، وعرضها 11 سنتيمتراً، وهي على شكل جرة تستقرّ فوق قاعدة أسطوانية. ترتفع هذه القاعدة فوق أربع قوائم عريضة، ويعلوها عمود أسطواني قصير، يفصل بينها وبين الحرة التي تعلوها. تشكّل هذه الجرة وعاء للمجمرة يتميّز بضخامته، والطرف الأعلى لهذا الوعاء ناتئ وبارز، وبعض من تكوينه تساقط للأسف.

تمثّل هذه المجامر الأربع نتاجاً من البحرين يبدو محدوداً مقارنة بنتاج مناطق أخرى من جزيرة العرب خرجت منها مجموعات كبيرة من المجامر. يشهد هذا النتاج المحدود من جهة لتعدّدية كبيرة في الأساليب المتبعة في الصناعة والصوغ، وتعكس هذه التعددية من جهة أخرى المكانة الوسيطة التي تميّز بها نتاج البحرين الأثري على مدى العصور.