«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

يمتد زمنها من 1948 حتى الوقت الحاضر

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي
TT

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

«بيت النقب»... سيرة ذاتية مُحاذية للمناخ الروائي

صدرت عن «دار العين» في القاهرة رواية «بيت النقب» للكاتبة الفلسطينية سوزان الفرا، ترجمة ندى الأزهري، الناقدة السورية المُقيمة في باريس. وقد تميّزت هذه الترجمة بالسلاسة والانسيابية، لدرجة أنّ القارئ يشعر وكأنّ النص مكتوب بالعربية مباشرة. يمكن أن يُصنّف هذا الكتاب كـ«سيرة ذاتية روائية» أو «أدب رحلات»، لأن معطياته الأساسية تقوم على هذين النوعَين الأدبيين المُحاذيّين للمناخ الروائي. ثمة شخصية مركزيّة في هذا الكتاب، وهي الراوية التي تسرد لنا الوقائع والأحداث التي تراها رأي العين، أو تسمعها هنا وهناك، وتتفاعل معها بطريقتها الخاصة.
فهذه الشخصية معقّدة لأنها مثقفة، وكوزموبوليتانية مُحمّلة بالنَفَس اليساري الذي استمدته من والدها الذي يناضل البرجوزاية، ومن زوجها «علي الكنز» الذي عرّفها على كارل ماركس، وزنوفييف، وهنري ميلر، وغيرهم من أساطين الأدب والفن والفكر الذين ساهموا في تثقيفها وتنوير ذهنيتها المتأججة أصلاً.
ينحصر زمان الرواية منذ النكبة عام 1948 وحتى الوقت الحاضر، لكن تعالقات الرواية مع الفئة السامرية تعود بنا إلى هيمنة الآشوريين على فلسطين، والسبي البابلي لليهود السامريين الذي يعدّون أنفسهم أصحاب الديانة اليهودية الأصلية التي لم تتعرّض للتحريف.
أما المكان فيمتد من غزّة، إلى السعودية، والجزائر، وتونس، ونانت الفرنسية، ليعود مرة أخرى إلى فلسطين على شكل رَحَلات إلى عدد غير قليل من المدن الفلسطينية والإسرائيلية. هذا الشكل الرحَلاتي يُقارب «أفلام الطريق»، لكنه يغوص في التفاصيل، ويستشفّ منها الكثير من العِبَر والخُلاصات الحسّاسة التي ترصد الشيء ونقيضه.
تضع سوزان الفرا قارئها أمام الإشكالية الأولى، وهي رغبة الأم في اصطحاب ولديها لزيارة بيتها في بير السبع، وهما البنت الراوية التي بلغت سنّ الخامسة عشرة؛ وشقيقها أنيس الذي يصغرها بعام واحد، وابن خالتهم سالم الذي يقود السيارة ويتذمّر طوال الطريق المؤدّي إلى «بيت النقب».
وعلى عكس تمنيات البنت الراوية بأن يكون مُحتل البيت ومُغتصبه يهودياً يسارياً سلس القياد يتبيّن بأنه رجل دين منفعل تدفعه الأم وتدخل إلى الصالون، لترى كل شيء كما كان عليه في السابق، البوفيه الكبير، وطقم السُفرة، وكرسي الخيزران الذي يجلس عليه الجد، بل حتى الطبق لا يزال موجوداً على منضدة الطعام الذي حملته الأم، مستذكرة الأيام الخوالي، لكن ما إن تدخل شقيقة اليهودي حتى تخطف الطبق من يد الأم، وتقذفه على الأرض، ليتحطّم إلى شظايا متناثرة فتصرخ الأم قائلة: «يا بنت الكلب، هذا طبقي، هذا بيتي!». ثم يغادرون المنزل من دون أن يلتفتوا إلى الوراء.
تعود بنا الراوية إلى عام النكبة الذي تبعثَر فيها الفلسطينيون، لكنهم لم يستكينوا رغم ضعفهم، فهم مقاومون يصطحبون معهم حكاياتهم أنّى ذهبوا ليسردوها إلى صغارهم. ويُشكِّل زواج الأبوين حدثاً فارقاً، لأن أم الراوية كانت «مرغوبة وعسيرة المنال» تنحدر من أسرة ثرية، بينما لم يكن هاشم سوى رجل غريب لا يليق بمنزلتها الاجتماعية. وهذا هذا الأب سيأخذ العائلة إلى أكثر من بلد، حيث يترك فلسطين ويعمل في أحد المصارف السعودية في بداية الستينات، وحينما يمرض ينصحه الأطباء بالعودة إلى غزّة، لكنه يغادر إلى الجزائر في مغامرة جديدة، ويُعيّن مدرّساً للغة العربية.
تندلع حرب 5 يونيو (حزيران) 1967، فيصبح المنفى أبدياً من وجهة نظر الراوية التي ترتدي قناع المؤلِفة.
على الرغم من أهمية الفصول الروائية جميعاً، إلاّ أنّ هناك فصولاً أخرى أكثر أهمية من غيرها، ويمكن أن نعُدّها وحدات سردية مُثقلة بالثيمات والأفكار الرئيسية التي يقوم عليها النص الروائي مثل الفصل الأول الذي أشرنا إليه سلفاً، والفصل الثاني عشر الذي يتواطأ معها المسافرون اليهود على متن الطائرة السويسرية، لكنهم سيضعونها في خانة «الآخرين»، بمجرد أن يكتشفوا جواز سفرها، فيمرّ الجميع بسرعة كبيرة، بينما تقضي الراوية وابنها ساعتي تحقيق قبل أن يُسمح لهما بالعبور من الحاجز الأول.
يمثِّل الفصل الثالث والعشرون صدمة للراوية التي رأت بيت النقب ثانية فوجدت أنهم قد حوّلوه إلى كنيس صغير للحيّ. تُرى، هل سيأتي ابنها بعد ثلاثين سنة مصطحباً أولاده لكي يتعرّفوا على منزل الأجداد؟
ما يميّز هذه الرواية هو تعالقها في الفصل الرابع والعشرين مع السامريين الذين يعدّون أنفسهم أعرق سلالة يهودية مُحافظة في الشرق الأوسط، وأصحاب التوراة الحقيقية الذين سكنوا في جبل جرزيم، وشيّدوا هيكلهم عليه، وآمنوا بأركان الدين الخمسة، وتضاءلت أعدادهم بسبب الحروب، ولم يبقَ منهم سوى 800 سامري لا غير موزعين بين نابلس ومدينة حولون الواقعة جنوب تل أبيب!
وربما تكون الخاتمة التي جاءت بعد الفصل السادس والعشرين أشبه بمناجاة داخلية، لأنها تعتقد أن هذه الرحلة قد تكون رحلتها الأخيرة التي رأت فيها أشياء كثيرة وتحسستها عن قرب، وأعادتها إلى نفسها، وشعورها الدائم بالتيه، والخواء والدُوار. وعندما قرّرت العودة مع ابنها إلى مدينة نانت ثانية، شعرت بأنها قد أورثته حكايتها التي سيمرّرها حتماً إلى أبنائه في السنوات المقبلة.
يُعدّ الفصل الثامن من الرواية فضاءً نموذجياً للحرية الشخصية، ففيه تتفتح موهبة الراوية كطالبة جامعية تدرس العلوم السياسية، وتكتشف الماركسية والحُب والرفاق، مودعة تقاليد الأهل وقيمهم الاجتماعية التي لم تعد تتلاءم مع روح العصر، وقد ساعدها في ذلك زوجها «علي الكنز» الذي حرّرها من عبودية المجتمع.
والروائية سوزان الفرا من مواليد غزّة عام 1958، تقيم في نانت، غرب فرنسا، وتعمل مدّرسة للغة العربية في مدرسة ثانوية. عاشت في خمس دول عربية وأجنبية وهي مصر والمملكة العربية السعودية والجزائر وتونس وبلجيكا، قبل أن تنتقل إلى فرنسا، لتمارس الكتابة الأدبية. حازت روايتها الأولى «بيت النَقَب» على «جائزة يامبو أولوكَوم»، التي تحمل اسم الكاتب المالي نفسه، وهي جائزة أفريقية مرموقة.



فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون
TT

فريدريك جيمسون... آخر المثقفين الكلاسيكيين

فريدريك جيمسون
فريدريك جيمسون

ربما لم يكن الناقد الأدبي الأميركيّ البارز، فريدريك جيمسون (1934 - 2024) الذي رحل في الثاني والعشرين من الشهر الماضي عن 90 عاماً، من طينة المثقفين العامين الذين يهوون إثارة الجدل والظهور، ولكن برحيله يسدل الستار عملياً على فكرة المثقف الكلاسيكي الملم بشكل شمولي بثقافة عصره، والقادر على تقديم تصور نظري عابر لصناديق التخصص الأكاديمي الدقيق، التي عرفناها بداية مع عصر النهضة بأوروبا من خلال شخصيات مثل ليوناردو دافنشي ونيقولا ميكافيللي وفيليبو برونليسكي، واستمرت إلى النصف الثاني من القرن العشرين عبر أسماء مثل جان بول سارتر، وميشيل فوكو، وجاك دريدا، وإمبرتو إيكو.

بدأ جيمسون الذي ولد في كليفيلاند بالولايات المتحدة مشواره الفكريّ بحصوله على الإجازة الجامعيّة الأولى في اللغة الفرنسيّة من كليّة هافرفورد قبل أن يسافر إلى أوروبا لفترة وجيزة، حيث وسع معرفته هناك بأعمال مفكري ما بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما البنيويين الفرنسيين ورواد الفلسفة القاريّة. وتركزت أبحاثه وقتها على النظريّة النقديّة التي أنتجتها مدرسة فرنكفورت ومن تأثروا بأعمالها، بمن في ذلك جان بول سارتر، وجورج لوكاتش، وثيودور أدورنو، ووالتر بنيامين، ولويس ألتوسير، وهيربرت ماركوز. وقد عاد بعدها إلى جامعة ييل بالولايات المتحدة حيث منح في 1959 درجة الدكتوراه على أطروحة حول أسلوب سارتر.

دراسته لسارتر قادته إلى تعميق معرفته بالماركسيّة - وبالتبعيّة النظريّة الأدبيّة الماركسيّة - لا سيّما أن الفيلسوف الفرنسيّ الشهير كان يعد النقد الثقافيّ فضاء أساسيّاً للفكر الماركسي. وما لبث جيمسون أن شرع يتموضع سياسياً في فضاء اليسار الغربيّ الجديد، وحركات النضال السلميّ، واحتفى بالثورة الكوبيّة التي عدّها علامة على أن «الماركسية ليست حيّة فحسب، وإنما هي كذلك قوّة ملهمة للحراك الاجتماعي ومنتجة ثقافياً». وبعد عودته إلى الولايات المتحدة شارك (في 1969) بتأسيس ما عرف بالمجموعة الأدبية الماركسية مع عدد من طلاب الدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا، بسان دييغو، وتزامل لبعض الوقت مع هيربرت ماركوز في أثناء تدريسهما في جامعتي هارفارد وكاليفورنيا.

بعد رسالته للدكتوراه عن سارتر، واصل الكتابة عن مفكرين أوروبيين آخرين؛ أمثال أدورنو وألتوسير، ليس بالضرورة تبنياً لمقارباتهم بقدر سعيه إلى تحديد موقع تلك المقاربات في الجدل حول البنية الاجتماعية وعلاقتها بالمنتجات الثقافية، وفي ذلك نشر (الماركسيّة والشكل – 1971) و(سجن اللغة: قراءة نقديّة للبنيوية والشكليّة الروسيّة – 1972)، لينتقل بعدها للخوض في اللغة والسيميائيّة والمرحلة الثقافية التي سماها الرأسماليّة المتأخرة.

لقد نقل هذا الجيل من المفكرين الماركسيين الغربيين النقد الماركسيّ من المنظور التقليديّ الذي اعتمد على فكرة أن «البنية الفوقية الثقافية» للمجتمعات تحددها أساساً القاعدة الاقتصادية، إلى مرحلة تبني تحليل نقدي للثقافة بوصفها أيضاً ظاهرة تاريخية واجتماعية، إلى جانب «علاقات الإنتاج» و«توزيع الثروة» الاقتصاديَيْن، وما يرتبط بذلك من علاقات القوة السياسية. لكن إذا أصبح النقاد الماركسيون قادرين على تقديم تحليل معمق للسياق التاريخي والطبقي لأعمال أدبيّة؛ مثل روايات جين أوستن أو قصائد تي إس إليوت مثلاً، فإن ناقداً من طينة جيمسون فقط يمكنه أن يقدم نقداً أسلوبياً ماركسياً لمروحة واسعة من منتجات الثقافة المعاصرة من المدارس الفكريّة المعقدة، مثل البنيوية، وما بعد الحداثة في سياقاتها التاريخيّة، إلى تحليل الأفلام الشعبيّة كمجموعة أفلام (حرب النجوم)، وكل ما يمكن أن يكون بينهما في الفلسفة، وأنواع الفنون، والآداب، والعمارة.

تدريجياً أصبح التاريخ يلعب دوراً أكثر مركزيّة في نقد جيمسون للمنتجات الثقافية إنتاجاً واستهلاكاً، ونشر عبر سلسلة من الأعمال مفهوم اللاوعي السياسيّ وراء النص، بوصف ذلك طريقة بديلة لتفسير الأعمال الروائيّة، ما منحه مكانة بارزة في فضاء النقد الأدبي في الثقافة الأمريكيّة.

على أن كثيرين يعدّون مساهمة جيمسون الأهم ربما كانت تحليله لما أصبح يعرف في تاريخ الثقافة بمرحلة «ما بعد الحداثة»، وعُدّ ناقدها الأبرز، رغم أنّه أتى إليها عن طريق أعمال جان فرنسوا ليوتار.

عند جيمسون، «ما بعد الحداثة» تعبير بمنتجات الثقافة عن فترتنا الحاليّة من الرأسماليّة المتأخرة التي شهدت توسعاً هائلاً في أساليب الإنتاج الثقافي ربطاً بتنوع صيغ المشهديّة التي يقدّم بها هذا الإنتاج. وكان جيمسون قد انضم إلى هذا النقاش في عام 1984 بمقالته بعنوان «ما بعد الحداثة، أو المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة» التي نشرها بداية في مجلة «اليسار الجديد»، قبل أن يوسعها إلى كتاب نشره عام 1991، أصبح منذ حينها أكثر أعماله مبيعاً، وأكثرها شهرة، لا سيّما في الصين حيث تمتع جيمسون هناك بمكانة رفيعة بين المثقفين وطلاب الجامعات.

يذهب جيمسون إلى ضرورة التعامل مع «ما بعد الحداثة» على أنها نتاج تاريخي، ولذلك فهو يرفض أي معارضة أخلاقية لها بوصفها ظاهرة ثقافية، ويقترح بدلاً من ذلك مقاربتها بمنهج الديالكتيك الهيغلي الذي من شأنه أن يقرأ التّطور الثّقافي للرأسمالية المتأخرة جدلياً، أي بوصفه كارثة وتقدماً معاً.

أكاديمياً، بدأ جيمسون مهنته أستاذاً للأدب الفرنسي والمقارن بجامعة هارفارد عام 1959، وتنقل بعدها بين عدة جامعات مرموقة، قبل توليه في 1985 منصب أستاذ كنوت شميدت نيلسن للأدب المقارن، وأستاذ الدراسات الرومانسية (الفرنسية)، ومدير معهد النظرية النقدية في جامعة ديوك، التي تقاعد عن التدريس فيها، دون أن يتوقف عن الكتابة.

لم يسلم جيمسون من النقد، لكن أهم منتقديه كان رفيقه الماركسيّ تيري إيغلتون، الذي، وإن أعجب بمقارباته للعديد من المنتجات الثقافية، عدّ إسرافه في الحديث عن اليوتوبيا كان بلا رافعة سياسيّة، إذ أهمل في مجمل أعماله الجانب السياسي والمضمون الثوري للماركسيّة، ولم يشتبك على الإطلاق بأعمال المفكرين الماركسيين مثل فلاديمير لينين، أو روزا لوكسمبورغ، أو أنطونيو غرامشي، كما اتهمه بمزج تبنيه للأفكار المختلفة بنهج ليبرالي، يلفق بينها دون الأخذ بتناقضاتها. ومع ذلك، فإن ثمة توافقاً بين المثقفين من جميع المشارب على أنه ظلّ، ولأكثر من خمسة عقود، الناقد الأدبي والثقافي الماركسي الأهم في الولايات المتحدة، إن لم يكن في العالم أجمع.