قدم شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي وصفات علاجية لمصائب الدهر المتعددة، كتبها في «روشتات» شعرية غاية في الروعة والجمال، انطلقت من تجربة ومواقف تعرض لها الشاعر شخصياً في حياته الضاجّة الصاخبة، لكنها وصفات تعدت واقعه الشخصي إلى واقع الإنسانية كلها.
ولعل من الصعوبة الإحاطة بكل وصفات المتنبي الشعرية، لكن، وفي ظل جائحة «كوفيد - 19». التي اجتاحت العالم بأسره بعد أن خلفت موتى ومصابين بالملايين، وما سببته من ذعر وخوف وإجراءات احترازية، يمكن الوقوف على نماذج من هذه الوصفات التي قدمها شاعر العربية لمحبي شعره لعلاج كثير من الجوائح والمواقف والمصاعب والآمال والآلام التي تواجه الإنسان، ويقف عاجزاً عن حلّها ولا يجد إزاءها من خيار سوى اليأس واختيار الموت.
أولى هذه الالتقاطات ما قاله المتنبي، عقب مفارقته سيف الدولة الحمداني، وتوجُّهه إلى مصر، بعد أن كاتبه كافور الإخشيدي بالمسير إليه في الفسطاط، وأنشده إياها عام 957م، التي يعرّض فيها بسيف الدولة، بعد قصة جرت أحداثها في مسألة باللغة، بحضرة سيف الدولة والشاعر، بين أبي الطيب اللغوي، وابن خالويه، فتكلَّم أبو الطيب المتنبي، وضعّف قول ابن خالويه، ولم يجد ابن خالويه من رد غير أن يخرج من كمه مفتاحاً من حديد، ويشير به إلى المتنبي. فقال المتنبي: «ويحك اسكت فإنك أعجمي وأصلك خوزي فمالك والعربية؟!»، فضرب وجه المتنبي بذلك المفتاح فأسال دمه على وجهه وثيابه، فغضب المتنبي من ذلك، لا سيما إذ لم ينتصر له سيف الدولة، لا قول ولا فعل، وكان ذلك أحد أسباب مفارقته لسيف الدولة.
بدأ المتنبي قصيدته بمطلع يخاطب فيه نفسه:
كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شافيا
وحَسبُ المنايا أن يكنَّ أمانيا
ثم فسر ما ذكره في هذا البيت بالقول:
تمنيت المنية لما تمنيتُ أن تجد صديقاً مصافياً فأعجزك أو عدواً يداريك، فلم تجده، وهذه نهاية اليأس الذي يختار فيه الموت على البقاء.
تمنَّيتها لما تمنيتَ أن ترى
صديقاً فأعيَا أو عدواً مُداجياً
ثم أعطى المتنبي في ذات القصيدة حلاً للتعامل مع «الغادر»، حتى ولو جاء الغدر في موقف عارض، كما حدث للشاعر عندما لم ينتصر له سيف الدولة، وهو يشاهد الدم يسيل على وجهه، فأخذ يعرض بسيف الدولة ويقول لقلبه: إني أحببتك قبل أن تحبه، أي سيف الدولة، وهو قد غدر بي فلا تغدر أنت أيضاً، بمعنى: لا تكن مشتاقاً إليه ولا مقيماً على حبه، فإنك إن أحببت من غدر بي فلست بوافٍ لي.
حَببتكَ قلبي قبلَ حُبّكَ من نأى
وقد كان غداراً فكُن أنتَ وافيا
مواصلاً في بيت آخر القول لقلبه: أعلم أنك تشكو فراقه (أي سيف الدولة) لإلفكَ إياه، ثم هدد قلبه فقال: إن شكوتْ فراقه تبرأت منك:
وأعلم أن البين يشكيك بَعدهُ
فلستَ فؤادي إن رأيتكَ شاكيا.
ليعلن أن الدموع إذا جرت على فراق الغادر، كانت غادرة بصاحبها لأنه ليس من حق الغادر أن يُبكى على فراقه:
فإن دموعَ العين غُدرٌ بربها
إذا كُنَّ إثرَ الغادرينَ جواريا
ثم يواصل أبو الطيب طرح مزيد من الوصفات حول إبطال العطايا والصداقات والجود بالمن والأذى، وكأنه ينظر إلى الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ»، معتبراً أن الجود إذا كُدر بالمن بطل الحمد ولم يبق المال، فيُفقدان كلاهما، مشدداً على أن أخلاق النفس تدل على صاحبها فيعرف جوده أطبع هو أم تكلف:
إذا الجودُ لم يُرزقْ خلاصاً من الأذى
فلا الحمد مكسوباً ولا المالُ باقيا
وللنفس أخلاق تدلُّ على الفتى
أكانَ سخاءً ما أتى أم تساخيا
ويبحر المتنبي في إعطاء «وصفات حكمية»، ناهياً عن المبالغة في الاشتياق والهيام به لمن لا يبادل الود بمثله، مخاطباً قلبه بألا يشتاق إلى مَن فارقه، لأنه بذلك يصفي وده من ليس بصاف له، كما أعطى وصفاً في صحة «الإلف» بتفضيله الشيب على الصبى لو خُيّر بينهما لكثرة إلفه للأول وهو من الاستحالة أن يتحقق:
أقلّ اشتياقاً أيها القلب ربما
رأيتكَ تصفي الود من ليس صافيا
خُلِقتُ ألُوفاً لو رجعتُ إلى الصّبى
لفارقتُ شيبي موجعَ القلبِ باكيا
وفي موضع آخر وبالتحديد عام 959م، أي بعد عام على مفارقته سيف الدولة، نالت أبا الطيب حمى وهو في مصر وصف حاله معها بقصيدة رائعة، حيث كان رهن الإقامة الجبرية بما يشبه الحجر الصحي في زمن «الكورونا»، ويعرض في القصيدة بالرحيل بعد أن أصابه اليأس من تحقيق آماله ومطالبه عند كافور الإخشيدي، بمنحه ضيعة أو ولاية، وفي القصيدة وصفات حكمية، بل وعلاج لمصائب الدهر، بنات الدهر، ومنها الحمى التي أتت من الزحام، حيث ألزمته الفراش وغادر بعدها مصر هارباً فيما يمكن تسميته بـ«الهروب السياسي الأكبر»، بدأ قصيدته الميميمة بمخاطبة صاحبيه اللذين يلومانه على ركوب الأخطار، طالباً منهما تركه يسلك الصحارى بغير دليل يهديه لأنه خبير بمسالكها، لافتاً في أحد أبيات القصيدة إلى إحدى الظواهر في المجتمعات الإنسانية، وهي ظاهرة انتشار الفساد في عموم الخلق، وهو ما جعل الشاعر يتهم من اختاره لمودته لعلمه أنه واحد منهم:
وصرتُ أشكُّ فيمن أصطفيهِ
لعلميَ أنهُ بعض الأنامِ
ولم أرَ في عيوبِ الناسِ شيئاً
كنقصِ القادرين على التمام ِ
ثم يعبّر الشاعر عن ملله من لزومه الإقامة الجبرية في أرض مصر، بعد أن أصابته الحمى ومراقبة كافور له، خشية الهروب، وكأنه يعيش أيام العالم هذا اليوم في الحجر الصحي الإجباري في زمن «الكورونا»، مبرزاً مرضه الذي طال حتى ملّه الفراش، بعد أن كان هو يمل الفراش، معبراً عن ألمه في غربته وقلة عائديه في مرضه، وتراكم الهموم عليه، وكثرة حساده، لوفور فضله وصعوبة مراميه؛ لأنه يطلب شيئاً عظيماً وصعب المنال وهو «المُلْكْ»، مقدماً وصفاً لأعراض الحمى، من خلال صور وخيال رهب لا يجيده إلا هو، معتبراً أن وصفة الطبيب الذي عاينه وشخّص حالته لم تكن دقيقة عندما أرجع سبب علته إلى الطعام والشراب الذي يتناوله، مشدداً على أن الطبيب ليس في قاموسه الطبي أن مرضه كان بسبب طول إقامته والقعود عن الأسفار، مثله في ذلك مثل الفرس الجواد:
أقمتُ بأرض مِصْر فلا ورائي
تخبُّ بي الركاب ولا أمامي
ومَلني الفراش وكان جنبي
يمل لقاءه في كل عامِ
قليلٌ عائدي سقم فؤادي
كثيرٌ حاسدي صعبٌ مرامي
وزائرتي كأنّ بها حياءً
فليسَ تزور إلا في الظلامِ
أبنتَ الدهرِ عندي كلُّ بنتٍ
فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحامِ
يقولُ ليَ الطبيبُ أكلتَ شيئاً
وداؤكَ في شرابكَ والطعامِ
وما في طبهِ أني جوادٌ
أضرّ بجسمهِ طول الجمامِ
وفي قصيدة أكثر فيها التشاؤم على نفسه بما لم يقع له في غيرها، وما لم يخطر على قلبه في جميع أسفاره مع كثرتها، وكأنه ينعى بها نفسه، وإن لم يقصده، يشخّص المتنبي في أبيات رائعة خصصها بمدح عضد الدولة بعد ارتحاله من شيراز، ومفارقته لأعمال فارس، بعد أن نال عطايا كثيرة ليلقى حتفه على يد فاتك الأسدي، بعد اجتيازه دير العاقول وهو على مشارف بغداد، وذلك في عام 964م وهي آخر شعر قاله:
أروحُ وقد ختمتَ على فؤادي
بحبكَ أن يحلّ به سواكا
وقد حمَّلتني شكراً طويلاً
ثقيلاً لا أطيقُ به حراكا
إذا استشفيت من داءٍ بداءٍ
فأقْتَلُ ما أعلّكَ ما شفاكَ
وأنى شئتِ يا طرقي فكوني
أذاة أو نجاة أو هلاكا
ونختتم هذه الالتقاطات من شعر شاعر العربية الكبير ببيت من الشعر ضمن قصيدة طويلة قالها في سيف الدولة، في أحد معاركه مع الروم:
فكانَ أثبتُ ما فيهم جسومَهُمُ
يسقطنَ حولكَ والأرواح تنهزمُ