على مدار فصول ممتدة تعرضنا في هذا الباب بشكل مباشر وغير مباشر للمسائل المتعلقة بالسلطة المركزية للدولة الإسلامية عبر التاريخ، سواء من خلال الشخصيات السياسية البارزة أو الدول الإسلامية المتتالية ممثلة في الخلافة الراشدة والأموية والعباسية، وآخرها السلسلة الخاصة بتطرف الخوارج وخطرهم الداخلي والخارجي، وهو ما يدفع اليوم لمحاولة وضع تصور شامل للمشكلات التي اعترت هذه الخلافات المتتالية من خلال عوامل التحليل السياسي والتاريخي، علّنا بذلك نستطيع أن نجيب عن سؤال واضح وصريح وهو: لماذا لم تنل هذه الدول المكانة الممتدة التي نالتها دول وإمبراطوريات أخرى من قبلها ومن بعدها على الرغم من الاتساع السياسي والجغرافي والثراء النسبي لهذه الدولة؟ وفي هذا الإطار أضع أمام القارئ عددا من العناصر الأساسية الداخلية التي أرى أنها أسهمت في إخراج هذا التكتل السياسي التاريخي المهم عن بؤرة التاريخ والحاضر:
أولا: لقد تميز الانتقال الهيكلي للسلطة في الدول الثلاث (الخلافات الثلاث الكبرى الراشدة والأموية والعباسية) بأنه جاء بما يشبه الحرب الأهلية، كما يمكن أن نسوقه وفقا للتعبير العلمي المستخدم اليوم في العلوم السياسية، وهو أمر طبيعي يحدث عند بداية تكوين أغلبية الدول، فكل خلافة بدأت بصراع مسلح واسع النطاق، فبمجرد أن استقر أمر الخلافة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والذي يجب أن يُنظر له في تقديري على أنه مؤسس أركان الدولة الإسلامية بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، بدأت الحرب الأهلية الأولى لهذه الدولة والتي تُعرف في التاريخ الإسلامي بحروب الردة، والتي لولا الصديق رضي الله عنه لفتتت مركزية الدولة، فلقد واجهها بكل قوة وبأس كسياسي عظيم وحكيم، فأعاد للمدينة مركزيتها السياسية كعاصمة للدولة الإسلامية، وشيد أسسها السياسية والشرعية. ويلاحظ في هذا الإطار نشوب الحرب الأهلية مرة أخرى في شكل الفتنة الكبرى ضد السلطة المركزية (موقعة الجمل ثم صفين ثم النهروان)، وأطرافها الثلاثة كما هو واضح مختلفون تماما، فاستمر الصراع إلى أن استقرت الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وهنا تبرز مرة أخرى الحركة العباسية والتي استطاعت أن تقضي على الخلافة الأموية بعد واحد وتسعين عاما من الحكم في حرب أهلية جديدة واسعة النطاق، وصراع مسلح واضح وصريح في إطار حرب أهلية قادها العباسيون من خلال أبي مسلم الخراساني من الشرق وهم في أحضان الأمويين في الغرب، وهي حرب أهلية ثالثة تعرضت لها الدولة الإسلامية في أقل من قرن واحد من الزمان.
في هذا الإطار فإنه يمكن أن نضع حقيقة أساسية، وهي أنه منذ إقرار الخلافة الراشدة في عام 11 من الهجرة، إلى اعتلاء الأمويين سدة الحكم في 41 من الهجرة ثم العباسيين في 132 من الهجرة، فإن معدل الحروب الأهلية يصل إلى حرب كل أربعين عاما وثلاثة أشهر، وهو مُعدل مخيف كفيل بتقويض أي دولة أو إمبراطورية، ولكن مع ذلك صمدت الدولة المركزية الإسلامية، بل إن الفتوحات استمرت خلال أعوام الاستقرار، وهنا تبرز بشكل واضح الأسس الصلبة لهذه الدولة، فهي تمثل بكل تأكيد نموذجا فريدا في الصمود أمام ثلاث حروب أهلية شبه شاملة، ولعل مما أسهم في ذلك كان عنصر التحفيز الإسلامي لها، والذي أعطى دفعاته القوية لكل دولة بعد أن استتب الأمر لها.
ثانيا: أكاد أجزم بشكل يكاد يصل إلى اليقين بأن هذه الدولة كانت أكثر الإمبراطوريات تعرضا لعوامل التآكل الداخلي أكثر من الخارجي، فلم تشهد دولة أو إمبراطورية في تقديري هذا الكم الهائل والمهول من الحركات الثورية والانفصالية والفكرية التي تعرضت لها هذه الدولة على مدار ثلاث خلافات، وأيا كانت التسمية المستخدمة في المصادر الإسلامية فإنها في النهاية تستوي هنا باعتبارها حركات سياسية تضعف السلطة المركزية للدولة، والواقع يعكس ذلك بوضوح، فلقد شهدت هذه الدولة بشكل مخيف انتشار الأفكار السياسية المختلفة والتي تحول بعضها إلى صراعات سياسية مسلحة داخل هذه الدولة، فلقد تابعنا ظهور حركات الخوارج المتطرفين وأثرهم السلبي على السلطات المركزية المختلفة في الخلافات الثلاث، وهي الحركات التي عصفت بالخلافة الراشدة ضمن أمور أخرى، ومثلت أيضا مخاطر شديدة على عاصمتي الدولتين الأموية والعباسية على حد سواء. ومما أضعف هذه السلطة أيضا كان انتشار الفكر الشيعي في ذلك الوقت، فحركات التشيع لعبت دورها العظيم في مواجهة السلطة المركزية، خاصة إبان الحكم الأموي، وفي إنهاك السلطة المركزية لها، فثوراتها الممتدة والتي لم تنته كانت واضحة ويمكن الرجوع لخلفياتها في أغلبية مصادر التاريخ الإسلامي.
ثالثا: أكاد أجزم أيضا بأن الدولة الإسلامية ممثلة في الخلافات الثلاث كانت أكثر الدول التي احتضنت قوميات وأجناسا مختلفة، أكثر من غيرها حتى تاريخها، ويمكن استثناء الإمبراطورية البريطانية باعتبارها أكثر الإمبراطوريات عبر التاريخ التي احتوت على قوميات وعرقيات مختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر، فالخلافات الثلاث بدأت بالعنصر العربي في الأساس، وأبقت السلطة المركزية في أيدي هذا العنصر حتى نهاية العصر العباسي الأول، فلقد شملت هذه الدولة أجناسا من الفرس والهنود والأقباط والبربر وهلم جرا، والتي لا يسعنا حصرها هنا، وقد أسهمت هذه الحقيقة في أمرين أساسيين، الأول الإضعاف المقارن للهوية العربية للسلطة المركزية أمام هذه القوميات، إلى أن خرج العرب من المعادلة بشكل يكاد يكون كاملا لصالح الأتراك والفرس في الأساس؛ والثاني كان انتشار الثقافات والأفكار المختلفة لهذه الأجناس والأعراق، وهو ما أسهم في التنوع الثقافي لها، ولكن بأثمان غالية بسبب انتشار الحركات الفكرية والمذهبية والثورية والتي اصطدم بعضها مباشرة بأصول الدين الإسلامي الحنيف، منها على سبيل المثال لا الحصر المؤلهة، وفتنة خلق القرآن، والزنادقة إلخ.. ومما سهل من هذه التوجهات أن الحضارة العربية التي احتضنت الإسلام كانت بسيطة إلى حد كبير ولم تستطع الصمود الفكري أمام التيارات الفكرية التي بدأت تموج بها الدولة الشاملة.
رابعا: واتصالا بكل ما سبق، فإن المشكلة الأساسية التي واجهت الكثير من الدول الممتدة كانت عدم وجود قاسم مشترك لمفهوم الشرعية في الحكم، فحتى اختيار أبي بكر الصديق رضي الله عنه لم يلق القبول من الجميع بمن فيهم المرتدون ومانعو الزكاة إلخ.. وبنهاية الفتنة الكبرى فإننا نجد بزوغ ثلاثة توجهات كل منها يدعو إلى أسس مختلفة لمفهوم الشرعية الذي يجب أن يبنى عليه الحكم، منها المرجئة أو السنة من ناحية والتي قبلت خلافة معاوية وأضفت عليها الشرعية المناسبة، وفي المقابل ظهر التشيع بشكله الواسع والذي كانت له رؤيته المختلفة لمفهوم الشرعية، ورغم أنه بدأ كتيار سياسي وليس دينيا مبنيا على التشيع لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فإنه انتهى بمنظومة فكرية ودينية وسياسية لها دعائمها الشرعية التي تختلف تماما عن الفكر السني، ثم كان هناك الخوارج بفكرهم المختلف والمتطرف تماما عن مفهوم الإمامة وماهية النظام السياسي الإسلامي، وفي الوقت الذي خفت فيه مفهوم الخوارج للشرعية بخفوتهم سياسيا وعسكريا، استمر التشيع برؤيته المنطوية على شرعية الحكم في سلالة علي بن أبي طالب وما شملته القرون التالية من تطوير لهذا الفكر. والغريب في كل هذا هو أن رحمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأمة الإسلام كانت في تركه شؤون الحكم للزمن وتطوراته، فلو أقر الله سبحانه ورسوله شكلا ضيق الأفق غير مرن ومتشددا لمفاهيم الحكم في الدولة الجديدة لوضعها في صدام مباشر مع التاريخ الآتي وحركة الزمن، فما أعجب من أن تتحول رحمة الله إلى نقمة بسبب ذوي الفكر الضيق والغلاة والمتشبثين برأيهم دون غيره، فالأنظمة السياسية تحتاج لمرونة في مواجهة الزمن والتطور ما دامت أبقت على دعائم شرعيتها.
وإزاء هذه النقاط الأربع، فإن ما يثير علامات استفهام هو كيفية صمود الخلافات الثلاث كل هذا الزمن، وتكوين أكبر دولة أو إمبراطورية عرفتها البشرية حتى ذلك التاريخ، فهذه العوامل كفيلة بأن تفتت أي دولة في أقل من قرن واحد من الزمان، فما بالنا بتجمع كل هذه العوامل النشطة ضد السلطة المركزية في أكثر من قرن؟
من التاريخ: تأملات في السلطة المركزية للدولة الإسلامية
من التاريخ: تأملات في السلطة المركزية للدولة الإسلامية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة