الكتابة دواء لألم الوباء

الكتابة دواء لألم الوباء
TT

الكتابة دواء لألم الوباء

الكتابة دواء لألم الوباء

«هذا المرض جعلني ألبسُ قناعاً... لكن تساقطت حولي كثيرٌ من الأقنعة... كل كلمة نابية وُجهت لي في مرضي كانت كسهمٍ في صدري وكطعنة في ظهري، فكم من مريضٍ يعاني من الأثر النفسي... لكن لا أحد يدري».
لم تكن معاناتها مع «كورونا» وحدها، لكن ما هو أشدّ وقعاً، المشاعر العدوانية المتنمرة لبعض أفراد المجتمع، التي كان وقعها أشد فتكاً من الوباء نفسه، بهذا الوصف شرحت الدكتورة السعودية ياسمين الدوسري، رحلتها مع مرض «كورونا»، التي انتهت بالشفاء، لكنها أبقت على جروح غائرة في الصدر، من الصعب تجاوزها بسبب «التنمر» الاجتماعي الذي واجهته، حيث كتبت تقول: «التنمر وضيق الأنفس العارض الأصعب الذي يترك ندبة تبقى مع المريض للأبد».
بعد إصابتها بالفيروس، انهالت عليها الاتهامات بأنها تسببت بنقل العدوى للآخرين، سالتها إحداهن: «كيف يمكنك النوم ليلاً؟»، تقول: «كان خوفي وتوتري من ملامة الناس يفوق خوفي على نفسي من المرض...»، «أدركتُ حينها أنّ المرض وحده لا يؤثر على الصحة لكنّ بعض الأشخاص مُضرين أكثر من كورونا»، فـ«كيف لي أن أُلام على شيءٍ خفيٍّ كهذا؟!»، «يبدو أن للمرض جانباً آخر لم ندركه بعد، ففي الوقت الذي فقدت فيه بعض حواسي كان هنالك من فقد إحساسه وإنسانيته ومبادئه ضارباً بخصوصية المريض والأدب والذوق عرض الحائط».
حين ينقشع هذا الوباء، ستبقى بعض الصور موشومة في جدار الزمن، لن تُمحى؛ صور لمآسٍ وأحزان، وبطولات أيضاً، واحدة من هذه الصور التي ستبقى دهراً خالدة في الذاكرة، مشهد جنازة الطبيبة المصرية سونيا عبد العظيم، ذات الـ64 عاماً، التي قضت بهذا الفيروس، بعد أن انتقلت لها العدوى من ابنتها، حيث هرع سكان قريتها لمنع سيارة الإسعاف من دخول القرية لمواراة جثمانها، ولم تكن قرية زوجها المجاورة أكثر رأفة بها، مشهد مفجع وصادم للضمير الإنساني، لا يلقي اللوم على الأهالي فحسب بل على منظومة الوعي التي تركتهم فريسة الشائعات المغلوطة.
هل يصبح المرض وصمة عار...؟ يجيب عالم الاجتماع الكندي أرفنج غوفمان، في كتابه «وصمة العار: ملاحظات حول إدارة الهوية الفاسدة»، محدداً ثلاثة أنواع للوصمة: وصمة العار الشخصية، ووصمة العار الجسدي، ووصمة العار المتعلقة بالهوية الجماعية. وبالتالي حين يؤدي المرض إلى تمييز أو رفض اجتماعي يصبح «وصمة»، مثله مثل الاعتلال الجسدي والنفسي وحتى السلوك الجرمي.
خلال جائحة «كورونا» امتلأ الفضاء الإلكتروني بسيل من التوبيخ والتهكم والشماتة على أصناف محددة من الضحايا، البعض مارس شوفينية وعنجهية وعنصرية تجاههم، وبلا رحمة جرى توجيه اللوم إليهم بنقل الوباء أو التسبب في انتشاره، كان البعض الآخر أيضاً ينقّب في هوية المرضى قبل أن يمنحهم التعاطف والتضامن الإنساني، في سلوك أناني لا يمتّ إلى الإنسانية بصِلة، بعض النعرات العنصرية عبّرت عن نفسها وعن طبيعة أصحابها في هذه الجائحة، ولم يلتفت أحد إلى التأثير المدمر على نفسيات المرضى أو عائلاتهم ومجتمعاتهم.
حبّذا لو تنفّس المرضى المتعافون من هذا الوباء الصعداء، وسردوا لنا تجاربهم، ورحلة الألم والأمل التي قطعوها. داووا جروحكم بالكتابة، فالكتابة دواء، وقد أحسنت الدكتورة ياسمين الدوسري أنها كتبت قصتها في الفضاء العام، حيث نفّست عن معاناتها، لكنها أيضاً ساعدت الآخرين على الاقتراب من عالم المرضى، وتحسس آلامهم النفسية قبل أوجاعهم الجسدية.



معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
TT

معرض إيطالي لعشرات اللوحات الفنية المصادرة من المافيا (صور)

امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)
امرأة تلتقط صوراً لرسوم توضيحية لـ«روميو وجولييت» لسلفادور دالي في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (أ.ف.ب)

ينطلق في القصر الملكي في ميلانو «بالاتزو رياله»، يوم الثلاثاء، معرض فني يضم أكثر من 80 لوحة، بينها روائع تحمل توقيع سلفادور دالي، وآندي وارهول، وكريستو، وجورجيو دي شيريكو؛ كلها مصادرة من المافيا جرى إنقاذها على يد محققين متمرسين في تعقّب «الأموال القذرة».

وأوضحت المسؤولة المحلية في المنطقة ماريا روزاريا لاغانا، أن «الأعمال التي كان من المفترض أن تظل مدفونة في دوائر الجريمة المنظمة أُعيدت أخيراً إلى المجتمع لتلعب دوراً رمزياً في مقاومة الجريمة».

منذ سبتمبر (أيلول)، تدير لاغانا الوكالة الوطنية لإدارة الممتلكات المصادرة من عصابات الجريمة المنظمة التي توفّر منصة تتيح للمشترين توجيه أنظارهم إلى الممتلكات المصادرة، بما يشمل سيارات «فيراري» أو دراجات نارية من طراز «هارلي ديفيدسون».

وبينما تُباع هذه السلع بمزادات علنية وباتت في متناول الجميع، يُخصص جزء منها؛ مثل: الشقق، والمنازل، والأراضي الزراعية، مجاناً لمنظمات عامة وأخرى غير حكومية.

أما بالنسبة للأعمال المعروضة في ميلانو، «فهذه سلع كان من الممكن بيعها، لكن تم اختيار الاحتفاظ بها في المتاحف، لأن لها قيمة مهمة»، حسبما أوضحت لاغانا لـ«وكالة الصحافة الفرنسية».

«ولادة جديدة»

وقالت لاغانا: «إنها ولادة جديدة لهذه الأعمال، ويبدو الأمر كما لو كنا نُخرجها من الأرض، مثل علماء الآثار، لعرضها في أماكن يمكن للجميع رؤيتها فيها».

يحتوي المعرض الذي يحمل عنوان «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» على أكثر من عشرين عملاً تمت مصادرتها في عام 2016 من زعيم في مافيا «ندرانغيتا» النافذة في كالابريا.

امرأة تقف بجوار لوحتَي «بيازا دي إيطاليا» لجورجيو دي كيريكو و«كابانو سولا ريفا» لكارلو كارا في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

في الغرفة الصغيرة المخصصة للأعمال التي صادرتها محكمة ريجيو كالابريا، مطبوعة حجرية بالحبر الهندي لـ«روميو وجولييت»، بتوقيع الرسام السريالي الإسباني سلفادور دالي (1904 - 1989)، بجانب لوحة «ساحة إيطاليا» الزيتية اللافتة المرسومة على قماش بتوقيع المعلم الإيطالي جيورجيو دي شيريكو (1888 - 1978).

كما أن جدران الموقع مغطاة بقصاصات من صحف تشهد على هذه المضبوطات المذهلة، في حين مقاطع فيديو من الشرطة المالية في ريجيو كالابريا تُعرض بشكل متواصل عند مدخل المعرض.

ويأتي نحو ستين لوحة أخرى من عملية مصادرة أمرت بها محكمة روما في عام 2013 بصفتها جزءاً من عملية احتيال ضخمة مرتبطة بشبكة دولية لغسل الأموال.

ومن بين هذه الأعمال شاشة حريرية لنجم الفن الشعبي الأميركي آندي وارهول (1928 - 1987) بعنوان: «فنون الصيف في الحدائق»، وطباعة حجرية لـ«فينوس مغلفة» بتوقيع الفنان كريستو (1935 - 2020) لفيلا بورغيزي في روما.

امرأة تسير أمام تمثال «قرص به كرة» لأرنالدو بومودورو في معرض «سالفارتي... من المصادرات إلى المجموعات العامة» وهو معرض للأعمال الفنية المعاصرة القادمة من عمليات المصادرة التي نفّذتها السلطات العامة ضد الجريمة المنظمة في ميلانو (رويترز)

وقالت لاغانا: «إبداع وجمال (الفن المتحرر) من الأيدي الإجرامية يتم تقديمه للرؤية الجماعية لتعزيز الثقافة، مع تحفيز الوعي بالطبيعة الخبيثة لآفة المافيا».

وتستخدم المافيا الأعمال الفنية المسروقة بوصفها عملة في تهريب المخدرات والأسلحة. ومن بين أبرز السرقات كانت لوحة «الميلاد مع القديسَيْن فرنسيس ولورانس»، وهي لوحة رسمها كارافاجيو، وسُرقت من كنيسة سان لورينزو في باليرمو عام 1969 وبقيت موضع عمليات بحث مذاك.

ويستمر المعرض الذي يمكن دخوله مجاناً حتى 26 يناير (كانون الثاني) في قصر «رياله» في ميلانو، قبل أن ينتقل إلى قصر الثقافة في ريجيو كالابريا، في الفترة من 8 فبراير (شباط) إلى 27 أبريل (نيسان).