الكتابة دواء لألم الوباءhttps://aawsat.com/home/article/2246131/%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%A1-%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%A8%D8%A7%D8%A1
«هذا المرض جعلني ألبسُ قناعاً... لكن تساقطت حولي كثيرٌ من الأقنعة... كل كلمة نابية وُجهت لي في مرضي كانت كسهمٍ في صدري وكطعنة في ظهري، فكم من مريضٍ يعاني من الأثر النفسي... لكن لا أحد يدري». لم تكن معاناتها مع «كورونا» وحدها، لكن ما هو أشدّ وقعاً، المشاعر العدوانية المتنمرة لبعض أفراد المجتمع، التي كان وقعها أشد فتكاً من الوباء نفسه، بهذا الوصف شرحت الدكتورة السعودية ياسمين الدوسري، رحلتها مع مرض «كورونا»، التي انتهت بالشفاء، لكنها أبقت على جروح غائرة في الصدر، من الصعب تجاوزها بسبب «التنمر» الاجتماعي الذي واجهته، حيث كتبت تقول: «التنمر وضيق الأنفس العارض الأصعب الذي يترك ندبة تبقى مع المريض للأبد». بعد إصابتها بالفيروس، انهالت عليها الاتهامات بأنها تسببت بنقل العدوى للآخرين، سالتها إحداهن: «كيف يمكنك النوم ليلاً؟»، تقول: «كان خوفي وتوتري من ملامة الناس يفوق خوفي على نفسي من المرض...»، «أدركتُ حينها أنّ المرض وحده لا يؤثر على الصحة لكنّ بعض الأشخاص مُضرين أكثر من كورونا»، فـ«كيف لي أن أُلام على شيءٍ خفيٍّ كهذا؟!»، «يبدو أن للمرض جانباً آخر لم ندركه بعد، ففي الوقت الذي فقدت فيه بعض حواسي كان هنالك من فقد إحساسه وإنسانيته ومبادئه ضارباً بخصوصية المريض والأدب والذوق عرض الحائط». حين ينقشع هذا الوباء، ستبقى بعض الصور موشومة في جدار الزمن، لن تُمحى؛ صور لمآسٍ وأحزان، وبطولات أيضاً، واحدة من هذه الصور التي ستبقى دهراً خالدة في الذاكرة، مشهد جنازة الطبيبة المصرية سونيا عبد العظيم، ذات الـ64 عاماً، التي قضت بهذا الفيروس، بعد أن انتقلت لها العدوى من ابنتها، حيث هرع سكان قريتها لمنع سيارة الإسعاف من دخول القرية لمواراة جثمانها، ولم تكن قرية زوجها المجاورة أكثر رأفة بها، مشهد مفجع وصادم للضمير الإنساني، لا يلقي اللوم على الأهالي فحسب بل على منظومة الوعي التي تركتهم فريسة الشائعات المغلوطة. هل يصبح المرض وصمة عار...؟ يجيب عالم الاجتماع الكندي أرفنج غوفمان، في كتابه «وصمة العار: ملاحظات حول إدارة الهوية الفاسدة»، محدداً ثلاثة أنواع للوصمة: وصمة العار الشخصية، ووصمة العار الجسدي، ووصمة العار المتعلقة بالهوية الجماعية. وبالتالي حين يؤدي المرض إلى تمييز أو رفض اجتماعي يصبح «وصمة»، مثله مثل الاعتلال الجسدي والنفسي وحتى السلوك الجرمي. خلال جائحة «كورونا» امتلأ الفضاء الإلكتروني بسيل من التوبيخ والتهكم والشماتة على أصناف محددة من الضحايا، البعض مارس شوفينية وعنجهية وعنصرية تجاههم، وبلا رحمة جرى توجيه اللوم إليهم بنقل الوباء أو التسبب في انتشاره، كان البعض الآخر أيضاً ينقّب في هوية المرضى قبل أن يمنحهم التعاطف والتضامن الإنساني، في سلوك أناني لا يمتّ إلى الإنسانية بصِلة، بعض النعرات العنصرية عبّرت عن نفسها وعن طبيعة أصحابها في هذه الجائحة، ولم يلتفت أحد إلى التأثير المدمر على نفسيات المرضى أو عائلاتهم ومجتمعاتهم. حبّذا لو تنفّس المرضى المتعافون من هذا الوباء الصعداء، وسردوا لنا تجاربهم، ورحلة الألم والأمل التي قطعوها. داووا جروحكم بالكتابة، فالكتابة دواء، وقد أحسنت الدكتورة ياسمين الدوسري أنها كتبت قصتها في الفضاء العام، حيث نفّست عن معاناتها، لكنها أيضاً ساعدت الآخرين على الاقتراب من عالم المرضى، وتحسس آلامهم النفسية قبل أوجاعهم الجسدية.
كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.
سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.
لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.
ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.
ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.
لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.
الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟
قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته
اللقاء الأخير
كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟
ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ
مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم
بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!