عُزلة تتشبث بـ«حياة مثقوبة»

الموريتاني أحمد ولد إسلم يطرح أسئلة الخوف والحياة

عُزلة تتشبث بـ«حياة مثقوبة»
TT

عُزلة تتشبث بـ«حياة مثقوبة»

عُزلة تتشبث بـ«حياة مثقوبة»

في مشهد يبدو قريباً مما يحدث في العالم الآن، يترك البطل قبل موته في مشفاه رسالة طويلة كتبها بلغة عربية سليمة لا تفهمها الممرضة «فيث»، إلا أنها تنفذ وصيته فترسلها إلى صاحبة عنوان البريد الإلكتروني الذي أعطاه لها.
بطل رواية «حياة مثقوبة» للكاتب الموريتاني أحمد ولد إسلم، الصادرة أخيراً عن دار «الشروق» المصرية، هو بطل حُكم عليه بقضاء الفترة الأخيرة من حياته مُحاصراً بجنون العزلة، يُجاهد ذاكرته المشوشة المُحاصرة معه داخل غرفة بالمستشفى، فيتخيل بصيصاً من نور ينسرب منها، ولا يعكس أمامه سوى وجه فتاة يُحدثها كما لو كان يراها على مدار الرواية، لا يسأم طيلة الوقت من سؤالها وانعدام إجابتها: «هل تذكرين تلك الصورة التي أرسلتِ إلى عشية ربيعية تُحدِّث زخات المطر المتكاسلة فيها نافذتي حديثاً هامساً كحديثنا؟».
يظهر ولعه الشديد بالفتاة، تماماً كما يظهر ولعه الكبير بالشعر العربي القديم؛ حيث يقتبس وينهل من شعر أبي الحسن اليشكري، والعباس بن الأحنف، وامرئ القيس. الشعر هنا مجاز لانتقائية الذاكرة أحياناً، كما أنه يمثل عنده حالة استثنائية نجت بأعجوبة من بطش مرضه الذي يرتع في جهازه العصبي، وما يتبعه من تقييد يلزم الرعاية القصوى والاستنفار الطبي الذي يخضع تماماً لأجهزته المعقدة، لا يكسر خشونته سوى مرور بعض ملائكة الرحمة، و«كلير» اختصاصية علم النفس الإيجابي التي يتخيل أحياناً أنها فتاته التي يُسائلها شوقاً.
لم تُفلح خلايا ذاكرته المُتآكلة من عذاب أسئلة الخوف والحياة: «الغرفة الفسيحة مُحاط سريرها بعدد كبير من أجهزة المراقبة الطبية، وبين الفينة والأخرى تُطل الممرضة للاطمئنان على وضعية السرير وقوائمه وحواجزه، ولكني خلوت بنفسي على أي حال، ومما استغرق مني وقتاً طويلاً في التفكير، محاولة فهم الموت، لماذا يكرهه الناس إلى هذه الدرجة؟».
يحتفظ البطل بمُفكرة لتدوين الأحداث اللافتة في حياته الجديدة، فرغم عدم مغادرته المكان أبداً، فإن الأحداث في حالته كانت شديدة التلاحق، ذاكرة تتداعى، يليها عدم القدرة على تحريك ساقه اليسرى، وانطفاء لنور عينه اليسرى أيضاً «تلك العين التي فقدت البصر، ولكنها لم تفقد بعد قدرتها على إسالة الدمع»، يجد بطل الرواية نفسه في مواجهة غير متكافئة مع مرض «التصلب اللويحي المُتعدد»، أحد أمراض المناعة الذاتية؛ حيث يضطرب ويختل جهاز المناعة، فبدلاً من القيام بوظيفة الدفاع عن الجسم، يصبح أكثر ميلاً إلى الهجوم عليه في تجربة أشبه بالثأر منه، ما يجعل صاحبه يعاني أزمة مستمرة في توصيل رسائل إلى حواسه وأعضائه، كأن «يطلب من الأنف أن تستمتع بالسوناتا العاشرة لبتهوفن»؛ لكنها لا تستجيب، فيصف هذا الأمر بالعصيان الفج لأوامر القيادة العليا للجهاز العصبي، ويصل به الاضطراب إلى تلعثم واضح في الكلام، يتطور إلى فقد النطق، والاستعانة بجهاز أقرب لتقنيات «الروبوت» الحديثة، يُحصي عدد الكلمات وينطقها نيابة عنه بصوت آلي. وتحت وطأة التشبث بالحياة يستسلم للأطباء وتطبيقهم لعلاج تجريبي دخل لتوه مرحلة التجارب السريرية على البشر، أملاً في استعادة قدرته على الكلام والحركة والبصر؛ لكنه أمل غير قاطع في استعادة ذاكرته طويلة المدى، وفي كل وقت لا يغيب وجه فتاته عنه، ولا حروفها «بدأ التنميل يسري في قدمي اليمنى صاعداً إلى رجلي وظهري، وأسمع خشخشة خفيفة في عمودي الفقري، كأنها حفيف أوراق يداعبها النسيم، وأصابعي الثلاث لم تعد تقوى على إمساك القلم، تلمع الآن في مخيلتي عيناك الهاربتان من اللقاء الأخير، وشفتاك تتحركان في عرض بطيء وهما تتلامسان لنطق الباء ثم تفترقان بمسافة سنتيمتر واحد لمد القاف، وتحافظان على المسافة ذاتها فيحمل الهواء منطوق لفظك، ثم يكتمل المشهد مستقراً عليهما مزمومتين في نطق صاد مضمومة، دون أن يؤثر فيها سكون اللام. هل قلت: نبقى على تواصل؟».
تتسلل على مدار الرواية مقاطع من أغنيات التراث الموريتاني، فهو يستمع، وتطرب معه الممرضات المناوبات، لصوت المطربة الموريتانية الراحلة «ديمي بنت آبه»، تستمع الممرضة «أنجيلا» لصوتها، فتنسى واجبات التحفظ المهني، وهي تختبر مشاعر الألفة التي تختلط بصوت بنت آبه التي لا تعرف عن سياقاتها الثقافية أو اللغوية شيئاً.
على مدار الرواية التي تقع في 141 صفحة، يتذكر البطل في ومضات سينمائية لقاءاته بفتاة ما، يبدو أنها كل من يذكر، لم يقل إنهما عاشقان، ولكنهما أكثر من صديقين، لتصير هي حارسة ما تبقى من خلايا ذاكرة على وشك الهلاك. تستمر الذكريات في التصاعد، حتى تصل إلى قمة ذروتها، وتتسلم منه «فيث» المهمة الثقيلة. يخبرها بعنوان بريد إلكتروني لترسل إليه ملف كتابته الطويلة لها المتروك على جهازه، فتفي بوعدها له بعد وفاته، إلا أن كاتب الرواية يترك قارئه في لغز حقيقي، بعدما يتعذر على صاحبة عنوان البريد الإلكتروني التي يصل لها الملف أن تتعرف على هوية هذا المريض. تقرأ رسالته الطويلة فلا تجد فيها سوى مجرد نص عذب ليس أكثر، فهي لا تعرفه، ليتركك الكاتب في متاهة وتساؤلات لا نهائية عن حقيقة الحضور المادي لتلك الفتاة من الأصل، مُحرضاً القارئ لإعادة التوقف أمام عبارات دوَّنها البطل عبر يومياته، في محاولة للقبض على سر تلك الفتاة، وهل كانت مجرد حلم صنعه خياله كخط دفاع أخير هروباً من كربه؟ ربما تميل الكفة لهذا الطرح عندما تستدعي عبارة يقول فيها: «في لحظات الهشاشة البشرية تميل الأنفس -حتى القوية منها- إلى التعلق بأي شيء لتفسير ما تعجز عن إدراكه»، أو ربما تتوقف عند بيت استدعاه من العباس بن الأحنف: «إذا قيلَ تُقريكَ السَّلامَ... تَماسَكَت حُشاشَة قلبي وَانجَلَت غَمرَة الكَربِ»، وربما يناديك في موضع آخر من السرد وهو يتساءل: «هل الحب فعل واعٍ؟».



العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً
TT

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

العيش على حدّ الذاكرة... روائيّاً

تلتقط هدى بركات، في روايتها الجديدة «هند أو أجمل امرأة في العالم» الصادرة عن «دار الآداب» لحظة موت الأم. تلك الهنيهة المفصلية القاصمة، التي تنقل المرء من حالة عيشه اللحظوية، إلى مراجعة الذات واستقراء الذاكرة وإعادة ترتيب الماضي، على ضوء الفقد العضوي الباتر. هكذا تترك الروائية لبطلتها المصابة بمرض «الأكروميغاليا»، أو تضخم الأطراف، حرية أن تمضي جيئة وذهاباً على خط الزمن، في محاولة للتصالح مع الذات والذوات الأخرى التي أحاطتها.

حين تموت الأم

ماتت الأم إذن، وها هي هنادي تعود للوطن، وتجد نفسها في تلك الأماكن القديمة التي عرفتها برفقة والدتها، لكنها هذه المرة وحيدة، ومعها زادها الثقيل من الصور والحكايات التي انقضت، وتجربتها القاسية في الغربة، وحاضرها الصعب، وقد تعرضت البلاد لعواصف من الأحداث الأليمة، لعل آخرها انفجار مرفأ بيروت، الذي تبدو آثاره جلية في الرواية، وفي حياة الأهالي.

بالرواية شخصيات عدة: الأم التي رحلت وتركت خلفها علاقتها المتوترة مع هنادي، وهند الشقيقة التي رحلت باكراً، والجيران (أم منصور)، والعمات وعامل الإنترنت أحمد، والحبيب رشيد، وآخرون، يظهرون سريعاً ويغيبون. غير أن القصة تبدو للقارئ وكأنها «مونولوغ» طويل بسبب أن الراوية - هنادي التي على لسانها يدور السرد، وتتفرد وحدها بأن تحكي لنا قصتها، من وجهة نظرها وكما تراها، من زاوية خاصة بسبب المرض النادر الذي تعاني منه وجعل حياتها متفردة أيضاً. فهو ينتج عن اضطراب هرموني لا يجعل الشكل مشوهاً والرأس متضخماً، والجسد متعملقاً، والشعر كالإبر، فحسب، بل يتطور بمرور الوقت ويتسبب بإعاقات، وعلل تودي بصاحبها، أو في أحسن الأحوال تتسبب بتدهور صحته.

حال هنادي نعيشه معها وهو يتردى مع تقدم العمر، ويسهم أيضاً في تأجيج الذاكرة، وتفتيق الجراح. المشكلة تبدأ باكراً، حين تلحظ الأم المفتونة بالجمال أن هنادي التي أرادتها بدلاً عن ابنتها الفقيدة هند بجمالها الأخاذ، لن تكون كما تمنتها، بل ستجلب لها شفقة الآخرين ونظراتهم المواربة، عندما تبدأ تفقد حسنها، وتظهر عليها آثار المرض. «بدأت عظام رأسي تكبر على غير اتساق. ذقني يبرز بقوة» تقول هنادي: «وفكاي صارا كفكي رجل تجاوز المراهقة، مباعداً بين أسناني. عظام الحاجبين انتفخت كما عند القردة، وتكورت جبهتي وتحززت كطابة مبعوجة، وفقد صوتي نعومة صوت البنات».

لم تستسغ الأم الأمر ولم تتقبله، لذلك تحجب هنادي عن أعين الناس، تضعها في العلّية، تخبئها هناك، تناولها الأكل، وما يلزم، وربما غابت عن البيت لوقت، ونسيتها. بينما تقضي هي وقتها بقراءة تلك المجلات والكتب التي تركها والدها قبل أن يغيب. وحين يسأل عنها أحد من المعارف، تقول الأم عنها، إنها سافرت عند عمتها.

تحاول هنادي أن تجد المبررات لجفاء والدتها: «حرام أمي حبيبتي. مسكينة. كان ذلك فوق طاقتها. كانت تتعذب أكثر مني من بلوتي». لقد أصيبت الأم بصدمة من مرض ابنتها؛ وباتت تختفي وتنام في غرفتها بالساعات، تخرج من البيت ولا تعود، تستفيق في الليل وتبحلق بعينين مشدوهتين، كمن يستيقظ من كابوس.

البحث عن الذات

لا إحساس من هنادي بالضيم، إذن، بقدر ما هي الرغبة في الانفصال عن الأم، لكن عمتها التي لجأت إليها ترسلها بهدف العلاج، عند عمة أخرى في باريس، لن تعثر عليها أبداً. في المقابل، تقع هنادي في مطبات وتتعرف على شخصيات لكل منها سمتها، هناك غلوريا الراقصة النيجيرية التي تحنو عليها، وفرنسوا الذي يتبين لها بعد ذلك أنه رشيد، الجزائري الأصل، المبتور الذراع، صاحب الماضي الغامض، تربطها به صلة حب لم تكتمل، وسرعان ما يرجع إلى حياة التشرد والمخدرات. هذا ما سيقودها إلى رجعة باتجاه الوطن.

قليلاً ما انشغلت الروايات العربية بالعلاقة بين الأهل وأولادهم الذين يعانون من عاهات، وصلات تشوبها الكثير من التعقيدات، قد تتراوح بين الحب الجارف النابع من الشفقة، والنفور المتأتي من رفض القبول بواقع قاسٍ له تبعات ممتدة في الزمن. لكن هنادي، لا تحقد ولا تكره، بقدر ما تبحث عن نوافذ حب لتريح نفسها. «وأنا في بحثي الدائم بل المحموم عن أصول الحب وأغراضه، وخاصة حب الأم، أي حب أمي لي، كنت أحفر في كامل كياني كل معلومة أقرأها أينما وجدت». استشعرت هذا الحب مثلاً، حين أصيبت بالجدري، رأت لهفة أمها عليها. فحب الأم حقيقة لا شك فيها، إلا في بعض حالات الخلل الهرموني الشاذة. هذا كله لترتاح وتقول إن الأمر قدري، ولا مسؤولية لأحد: «أنا ملكة الهواجس... ملكة الحظ السيئ».

هنادي شخصية أقرب إلى اللطف والدعة، والأم تبدو وكأنها تمتلك الشيء وضده، لها سمات متناقضة، مما يصعّب على الابنة العائدة، بناء شخصيتها من جديد، تحاول كي تحرر نفسها من عبء العلاقة المتوترة مع الأم أن تجد لها مبررات لسوء مزاجها: «ربما صارت أمي قاسية ومنعزلة ولئيمة، أنا أيضاً قد أصبح كذلك، حين يشتد علي الألم. تصبح رؤية الناس أو سماع أصواتهم عذاباً خالصاً».

مناجاة الكائنات

وفيما يشبه الهروب أو مؤانسة الذات تلجأ هنادي إلى مصاحبة الشجر والنبات، والقطة زكية، التي ترافقها في يومياتها، والكلب رامبو، وشجرة التين الموجودة في الشرفة، وشجرة الصفصاف. تقضي وقتاً مع رشيد، وآخر مع الميكانيكي نبيل ونكتشف جانباً من شخصية هنادي وهي تتعرف على عالم جديد، عبر الإنترنت بمعونة أحمد العامل الباكستاني قرب منزلها. لكن الكاتبة تبقي كل هذه الشخصيات في خدمة الكشف عن أبعاد شخصية هنادي، وتلك العلاقة الملتبسة مع أمها، وكأنما هي حكاية نسائية أكثر من أي شيء آخر. ونساء لهن تجربة خاصة، لسن كبقية النساء. فالعلاقة بين الأم وشقيقها، بقيت متشنجة، ومع والدها لم تكن سهلة. هنادي هي الأخرى، كان حظها مع الرجال يتحرك صعوداً ونزولاً، لتنتهي في عزلتها.

هي أيضاً رحلة بحث الابنة الغائبة التي تشعر بالندم على ما فات. هربت لتريح والدتها منها. «هربي كان صفقة لصالحنا نحن الاثنتان... لكنها قد تكون تغيرت وندمت وحين ندمت لم يعد بمقدورها أن تجدني، وأن تعتذر مني».

تتحرى حقيقة شخصية الأم من رائحة الشراشف والنبش في الأغراض، ورق مخبأ، «لماذا احتفظت أمي بمزقة الجريدة هذه وقد طوتها بعناية؟ هل تكون نسيتها أو أضاعتها بين غيرها من الأوراق وتاهت عنها تماماً؟».

إيقاع هادئ

النص يسير وفق إيقاع هادئ، وبطيء، يواكب حركة هنادي التي تفتقد للحيوية بسبب المرض، إلى أن نكتشف في النهاية سرّ والدها، وقصته المثيرة، التي خبأتها الأم عنها. وهو ما يربط النص قليلاً بما نشهد من أحداث حالية. حيث إن الأب ذهب إلى إسرائيل مع العملاء الذين هربوا بعد حرب التحرير عام 2000 لا لأنه عميل بل اعتقد أنها وسيلة للهروب من وجه العدالة بعد ارتكاب جريمة بطريق الخطأ ومطاردته بهدف الثأر. ظن أن العودة إلى الوطن ستكون متاحة لاحقاً، لكنه بقي هناك، وفي إسرائيل صارت له حياة أخرى، نكتشفها في نهاية الرواية.

صحيح أن تيمة الحرب ليست في مركز القصة، لكنها مبثوثة فيها، هي في الخلفية من خلال غياب الأب وانكفائه عن الصورة، ثم حين يشكل المفاجأة بنهايته غير المتوقعة، ونكتشف أسراره الصادمة. الحرب حاضرة في التفاصيل اليومية، في تعامل الناس مع بعضهم، في انقطاع الماء، في غياب الكهرباء، وأزمات العيش.

رواية تأملية، هادئة، مشغولة بالحفر الداخلي الباطني، أكثر من عنايتها بالصخب الخارج والإيقاع الحياتي للبطلة. وهي مواكبة حميمة لامرأة مريضة، تكافح وحيدة، دون تبرّم كي تصل إلى نهايتها بسلام.