عندما انطلقت احتجاجات الأميركيين المُطالبة بالإصلاح البيئي في يوم الأرض الأول سنة 1970 لم يكن أحد يتوقع أن تتحول هذه الحركة إلى مصدر إلهام للعمل البيئي في جميع أنحاء العالم بعد عشرين سنة. في الذكرى الخمسين، أصبحت فعاليات يوم الأرض تجتذب مشاركة أكثر من مليار شخص يطمحون إلى مستقبل أفضل لصحة الإنسان والكوكب. ولكن على نقيض يوم الأرض الأول عام 1970، حيث خرج 20 مليوناً إلى الشوارع والساحات، تقتصر احتفالات هذه السنة على برامج ونشاطات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بمشاركة ملايين الأشخاص الذين احتجزهم وباء «كورونا» في منازلهم.
من المصادفات أن يتزامن انتشار فيروس كورونا المستجد مع الاحتفال بيوم الأرض العالمي الخمسين، تحت عنوان «العمل المناخي»، متقاطعاً مع السنة التي خصصتها الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي. ولكأن هذا الأمر جاء ليذكرنا بالعلاقة القائمة بين تغيُّر المناخ والأنواع الحية وانتشار الأوبئة، وليجعلنا أكثر ميلاً لتصديق تحذيرات العلماء بأن الأسوأ قد يحدث فعلاً.
تغيُّر المناخ وتفشي الأوبئة
يعدد برنامج الأمم المتحدة للبيئة، في تقرير أصدره عام 2016 عن القضايا الناشئة التي تدعو إلى القلق البيئي، مجموعة العوامل التي تزيد من احتمال انتقال العوامل الممرضة مثل فيروس كورونا من الحيوانات إلى البشر. ويوجز التقرير هذه العوامل في التعديات التي تطال التنوع الحيوي، كإزالة الغابات وتغيير استخدامات الأراضي وتكثيف الإنتاج الزراعي والحيواني والاتجار غير المشروع بالأحياء البرية.
ويعتبر التقرير تغيُّر المناخ عاملاً رئيسياً في ظهور الأمراض، فهو يؤثر على الظروف البيئية التي تمكّن أو تعطّل بقاء وتكاثر ووفرة وتوزع العوامل الممرضة والكائنات الناقلة والمضيفة، كما يترك بصمته على وسائل انتقال المرض وأنماط تفشّيه. ويخلص إلى وجود دلائل متزايدة على أن الأمراض الوبائية قد تصبح أكثر تواتراً مع استمرار تغيُّر المناخ.
في حالة فيروس «إيبولا»، وجدت دراسة نُشرت في دورية «نيتشر كوميونيكيشنز» (Nature Communications) نهاية عام 2019، أن مشكلة تغيُّر المناخ ستؤدي إلى زيادة تتراوح بين 75 و220 في المائة في معدلات انتقال الفيروس القاتل من الحيوانات إلى البشر بحلول سنة 2070. وتشير الدراسة إلى أن نطاق المرض سيتّسع في أفريقيا، وستكون هناك فرصة كبيرة لانتشار فيروس «إيبولا» إلى الصين وروسيا والهند وأوروبا والولايات المتحدة.
لا تزال الدراسات حول فيروس كورونا المستجد في مراحلها الأولى، ولعل الاطلاع على الأبحاث حول فيروس «إيبولا»، الذي اكتشف لأول مرة سنة 1972، يعرض صورة أوضح للعلاقة بين تغيُّر المناخ وانتشار الأوبئة. في تقرير نشرته جامعة «ييل» الأميركية سنة 2009، جرى تحليل العلاقة بين انتشار فيروس «إيبولا»، وتغيُّر استخدامات الأراضي، وتحوّل المناخ بشكلٍ مفاجئ، في بعض المناطق، من جافٍ إلى ماطر.
كانت إزالة الغابات في حوض الكونغو أدّت إلى استيطان القرويين في أراضٍ مجاورة لمواطن خفافيش الفاكهة والقردة، ودفعت ظروف الجفاف الشديدة الأشجار المثمرة إلى تأخير إثمارها لحين هطول الأمطار. وعندما هطلت الأمطار وأثمرت الأشجار، اجتمعت الكائنات الجائعة لالتهام الثمار، مما جعل الفرصة مؤاتية لفيروس «إيبولا»، كي ينتقل من كائن إلى آخر، بما في ذلك الناس الذين احتكوا بشكل مباشر بالخفافيش الناقلة للفيروس أو القردة المريضة.
ركود اقتصادي وتراجع في الانبعاثات
كان منظّمو يوم الأرض العالمي يرون في انتقاء شعار «العمل المناخي» فرصة لتذكير العالم بواجباته تجاه خفض انبعاثات غازات الدفيئة، على أمل أن تعزز الدول التزاماتها الوطنية بموجب اتفاقية باريس المناخية.
ويبدو أن تفشي فيروس كورونا لن يكتفي بتأجيل هذه الآمال، مع إرجاء مؤتمر قمة المناخ الذي كان مقرراً بعد أشهر، بل قد يهدد مسألة العمل المناخي برمتها لسنوات مقبلة. قبل أسبوع من يوم الأرض العالمي في 22 أبريل، أعلن فاتح بيرول، المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية، أن تفشي فيروس كورونا سيقلّص الطلب العالمي على النفط، بحيث تكون 2020 أسوأ سنة في تاريخ القطاع.
ويرجّح بيرول أن يؤدي انهيار أسعار النفط إلى انخفاض كبير في الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري هذا العام.
من قصر النظر الاحتفال بانخفاض الانبعاثات هذه السنة، لأنها ناتجة عن مأساة إنسانية كبيرة وانهيار اقتصادي عالمي وفقدان للوظائف، لا سيما أن القراءة المتأنية للأحداث المشابهة تُظهر أن الأحوال الطارئة تؤدي غالباً إلى ارتدادات عنيفة.
ومن الأمثلة القريبة انخفاض انبعاث غازات الدفيئة بعد الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2009 بمقدار 400 مليون طن مكافئ كربوني، ثم عودتها في السنة التالية إلى الارتفاع بمقدار 1700 مليون طن، بمعدل زيادة هو الأعلى خلال 50 سنة.
وفي المقابل، يمكن لإجراءات التحفيز الاقتصادي بعد صدمة «كورونا» أن تدفع العالم إلى ترسيخ خفض الانبعاثات إذا كانت موجهة إلى دعم الاقتصاد الأخضر. وتستطيع الحكومات والمؤسسات المالية الدولية أن تدمج العمل المناخي في جهود التحفيز، من خلال تمويل الاستثمار في الطاقة النظيفة وتخزين البطاريات وتكنولوجيا التقاط الكربون، بدلاً من دعم صناعات الوقود الأحفوري واستنزاف موارد الطبيعة. كما يعد تفشي الوباء فرصة لاختبار تراجع الرحلات الجوية وتقليص سلاسل التوريد وتعزيز العمل عن بعد في تحقيق نمو اقتصادي منخفض الانبعاثات.
عند الاحتفال في السنة المقبلة بـ«يوم الأرض»، كيف ستبدو معركة إبطاء الاحترار العالمي في عالم ما بعد فيروس كورونا؟ سؤال يطرحه كثير من خبراء السياسة والناشطين هذه الأيام، والإجابة عليه تنطوي على الأمل، كما تعكس الكثير من الخوف. الأمل في أن يتحول الإيمان بالعلم والابتكار في مواجهة الوباء إلى حافز جدي لمعالجة قضية وجودية كتغيُّر المناخ، والخوف من أن يؤدي الاندفاع غير المستدام لإنعاش الاقتصاد العالمي إلى مزيد من الانبعاثات.