تجارب حياتية تطل من المتخيل

شاكر نوري في «جحيم الراهب» يواصل النبش في حفريات الحروب

شاكر نوري  و غلاف جحيم الراهب
شاكر نوري و غلاف جحيم الراهب
TT

تجارب حياتية تطل من المتخيل

شاكر نوري  و غلاف جحيم الراهب
شاكر نوري و غلاف جحيم الراهب

هو واحد من الذين يطيب لي أن أُسميهم قدامى المحاربين. عرفته زميلا للمهنة في باريس، يجري في الاتجاهات الـ4 لكي يصطاد خبرا ثقافيا، أو يجري مقابلة مع مستعرب، أو يكتب عن فيلم جديد. هكذا هو شاكر نوري منذ أكثر من 30 سنة، حتى بعد انتقاله للإقامة في دبي.
وبمثل هذا الدأب، كان يسرق نفسه من عمله الصحافي لكي يؤلف، بين حين وآخر، كتابا في النقد أو السيرة أو الرواية. وروايته الأخيرة «جحيم الراهب»، الصادرة حديثا عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، هي قطعة تضاف إلى الفسيفساء الأدبية التي أرخت لأجيال المنافي والهجرات، وفصل في الرواية الكبيرة التي ترسم ملامح الجحيم العراقي ويسجلها روائيون من كل الأجيال، لا في الوطن وحسب بل الموزعون في قارات العالم، كل من زاويته.
الراوي أو الشخصية الرئيسة يدعى إسحاق، عراقي يتلبس ثوب الكهنوت ويتقلب ما بين الشك والإيمان. عاش الحروب كلها وعانى من القمع والرقابة والطائفية. وحكايته لا يمكن إلا أن تكون واقعية. لكنه ذلك الواقع الرهيب العصي على التصديق. ولدى سؤال الكاتب عن بطله يستشهد بما قاله نيكوس كازنزاكيس: «الفن يملك الحق، وليس الحق وحسب، بل إن من واجبه أن يعيد كل شيء إلى جوهره. إنه يغذي القصة، ثم يختزلها ببطء، وبشكل متألق، ويحيلها إلى أسطورة». ومعنى هذا، أن البطل حقيقي، ويمكن أن يكون فلانا من مئات الذين مروا بباريس وتعرفنا إليهم، وما حكاية اضطراره، وهو المسلم، إلى الالتجاء إلى دير للرهبان في جبل لبنان، والاندماج في أجواء الدير، سوى حجة يمكن أن تقوده إلى الدراسة في الفاتيكان، أي بلوغ عتبة اللجوء إلى أوروبا.
سمع شاكر نوري الحكاية، وبنى عليها عمارته الروائية. سافر إلى لبنان واخترع تسمية «دير الأيقونات»، وتخيل الرهبان الـ7 المقيمين فيه، ونسج علاقة كل منهم ببطله الذي بلغ الـ50. وما زال يبحث عن بقعة يقيم عليها مستقبله. إنه الراهب الذي يرتل في سره تعاويذه المختلفة عنهم: «رب أنقذني من عذاب الذاكرة ومطارقها الثقيلة. كنت أبغي أن يكون عقلي صفحة بيضاء ناصعة، لكنه متاهة مكتظة بخطوط أخطبوطية». إنه يتمنى لو «يضغط على زر ويمسح كل ما رسم في ذهنه من علامات وندوب». ثم يرى نفسه «يندحر في دولاب الزمن الدائر، عاجزا عن الوقوف في وجهه». ولأن في كل رواية شيئا من كاتبها، فإن تجارب شاكر نوري وأسفاره وتخصصه في الأدب الإنجليزي، ثم في الفن السينمائي، وإجادته للغتين أجنبيتين، تطل برأسها من تفاصيل رواياته. وهو أيضا قارئ نهم، يؤمن بالمثل القائل: «كل لسان بإنسان»، ويعتبر المطالعة عصا سحرية أفادته في الاطلاع على أساليب الروايات التي تكتب في الشرق والغرب، لا سيما الرواية النفسية. ويقول: «إن الأبعاد النفسية للشخصيات شبه غائبة في الرواية العربية، ومعظمها يهتم بظاهر الشخصيات ولا يبحث في دواخلها. إن دوستويفسكي العرب لم يولد بعد، ولا حتى تولستوي، الكاتب المبدع عن الحرب». أما الترجمات التي تنجز إلى العربية، فيرى شاكر أنها لا تعبّر عن روح النصوص باللغة التي كتبت بها.
وطبعا، فإن الاشتغال بالصحافة، رفد الكاتب بالكثير مما تحتاج إليه الكتابة الروائية من مشاهدات واقتراب من مختلف أنواع البشر. وهو يؤمن بأن الصحافيين هم «رواة المدن»، لكن الخطورة تكمن في الخلط بين الصحافي والروائي. فالأول، يمتلك لغة بسيطة ومختزلة تتوجه لجميع الفئات، بينما لغة الروائي معقدة، ومفكرة، واستطرادية، بالإضافة إلى مهارات أخرى في البناء والتفكير والصياغة. «نحن في الرواية نستطيع أن نتلاعب بالزمن والمعلومات، نعيد صياغتها ونضفي عليها الكثير من خيالاتنا. بينما نتجنب ذلك في المادة الصحافية بأنواعها كافة. وبالنسبة لي، لا أنكر ازدواجيتي. فأنا أتغيّر كثيرا حتى في جلستي على المكتب، وأنا أكتب الرواية، ويحدث أن أستيقظ ليلا أو عند الفجر لكي أكتب فصلا أو بضعة أسطر، أما المقالة فأكتبها في وقت محدد ومن دون طقوس».
يلفت النظر في «جحيم الراهب»، وفرة المعلومات التاريخية واللاهوتية والإثنوغرافية المبثوثة فيها. ويقول نوري، إن فكرة الرواية كانت تدور في رأسه منذ 1992، عندما التقى بصديقه الرسام عدنان الجبوري، وسمع منه ما سمع. ومنذ ذلك الوقت، بدأ يطلع على الأديان، وتفاصيل الحياة في الأديرة. واستفاد كثيرا من كتاب ألبير أبونا «شهداء الشرق»، من دون أن يسمح للوثائق الفكرية واللاهوتية بأن تكون عقبات جامدة ومملة تشل التدفق العاطفي للسرد الروائي. وبهذا المعنى، فإننا لا نجد الحرب، أو الحروب والصراعات التي مرت على العراق، حاضرة في الرواية، مثل الكثير من النصوص التي كتبها أدباء وشعراء جربوا الجندية وحملوا السلاح. إن الراهب في جحيمه، هو نتاج تلك الأحداث، وواحد من بيادق صغيرة لا تعد ولا تحصى، حرفتها الحرب وطاشت بها عن مساراتها الطبيعية. هل تكتب النصوص الكبرى في المعمعة، أم أن الرواية العميقة هي تلك التي تأتي بعد خمود الحرائق؟ ومتى نطوي صفحة اللون الخاكي ونبدأ الكتابة عن شؤون الحياة اليومية وهمومنا الصغيرة؟
يقول شاكر نوري «إن الحرب العالمية الثانية لم تستمر سوى 4 أعوام، لكنها أنتجت وما تزال تشغل كما هائلا من الروايات والقصائد والأفلام والدراسات. بينما نحن في حرب مستمرة لا أول لها ولا آخر منذ أكثر من 3 عقود، فكيف ستكون عليه ذاكرتنا؟ لذا تراودني الضحكات عندما يقول لي البعض إنه لم يحن الوقت للكتابة عن الحرب. لنأخذ مثلا من الكاتب الفرنسي باتريك موديانو، آخر الحائزين على (نوبل) في الأدب. لقد ظل طوال حياته يكتب عن ذاكرة الحرب، فكيف بنا نحن الذين نشهد برابرة جددا جاءوا لتدمير حضارة عمرها أكثر من 7 آلاف سنة؟ إن كل متر مربع من بلدنا يحتاج إلى رواية».
بعد «نافذة العنكبوت» و«كلاب جلجامش» و«نزوة الموتى» و«المنطقة الخضراء» و«مجانين بوكا»، تأتي رواية «جحيم الراهب» استمرارا لدأب شاكر نوري في حفريات الحروب. «الحرب مرآة لنا، نرى فيها ذواتنا بصورة أفضل، ونبحث عن مصائرنا المكنونة في التاريخ. أظن أننا غير قادرين على مفارقة تاريخنا للحظة واحدة».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»