نامق سلطان يرسم خريطة الموصل... بالشعر

أصدر مجموعته الشعرية الأولى وهو في الستين

نامق سلطان يرسم خريطة الموصل... بالشعر
TT

نامق سلطان يرسم خريطة الموصل... بالشعر

نامق سلطان يرسم خريطة الموصل... بالشعر

قبل أن يصدر نامق سلطان مجموعته الشعرية «مثل غيمة بيضاء» لم يكن اسمه ذائعاً في الوسط الثقافي، الرجل الموصلي الستيني العمر، والذي يحمل شهادة مرموقة في الهندسة، ويعمل أستاذا في الجامعة، إلا أنه يعيش في عزلة عن محيطه:
بيني وبين العالم
بابٌ مسدودٌ
لا أدخلُ
ولا أخرجُ
ولا آبهُ بما يحدث خلف الباب.
هو شاعر غائب تماماً عن الصحافة والمنتديات والأوساط الأدبية، لكن ذاته حاضرة في شعره، وبصورة حميمية، إلى درجة نظنّ أنه يكتب سيرة ذاتية له يتتبعها القارئ في صفحات الكتاب. هناك حدٌّ وهمي يفصل بين نعمة أن يكون الكلام شعراً وفداحة أن لا يكون:
أُمّي
حربٌ عاقر
ولدتني في أرض محروقة
وفي يدي اليمنى بندقية قديمة
لأحرّر وطني...
وفي اليسرى نشيد طويل...
لا وزن هنا ولا قافية، لا انزياح ولا تباعد في المعنى، لا أنفاس شعرية ملفعة بالغموض، لا صور شعرية... بمعنى أن القصيدة فقيرة شعريّاً حسب المفهوم النقدي السائد، لكن مفردات قليلة وضاءة وريانة استطاعت أن تجعل المقطع يسحّ شعراً: الحرب عاقر، والأرض محروقة، والبندقية قديمة والنشيد طويل. وفي بعض القصائد يخلع نامق سلطان ثوب الشاعر ويكتب بلغة تقريرية تلغي الحدود بين الشعر والنثر، وينعدم فيها وجود أي تنويع لحني.
أكثر ما يغضب الشاعر هو هذا الصمت الذي يلفّ العالم من حوله، جميع العالم، بما فيه بلده. سكوت يشبه اللامبالاة لما جرى ويجري من جور، ومن فظائع لم تحدث في أي مكان آخر في العالم. الفصل الأهم في الكتاب هو حديثه عن مدينته المنكوبة بالحرب، الموصل، يرسم خارطتها بالشعر، ويأخذ بيد القارئ، ويدلّه على أماكن الدمار:
في الجانب الأيمن
الأشياءُ العالية لم تعد عالية
كلّها نزلت إلى الأرض
حتى السماءْ
يستعرض الشاعر مدينته الآمنة وقد حوّلتها نيران الحرب إلى غبار، الطين والحجر والأبواب، بسقّاطاتها الثقيلة، والنهر، رائحته وصوته، والسينمات والكتب والمقاهي والحانات... كل هذه الأشياء «كانت تتكلم وتغني»، قبل الحرب، والآن ليس يوجد غير الخيوط الواهنات، وغير الغراب:
«قلب الموصل هنا:
في باب الطوب وباب السراي ورأس الجسر...».
ويمضي الشاعر بتلاوة أسماء تسع وعشرين محلة، يرسمها بحروفها، ويقولها لنا بعينيه عندما يسمّرها في موضعها في القصيدة:
... ومحضر باشي والنبي جرجيس ورأس الكور...
هذا يذكّرنا بالمقدمة الطللية التي كان الشاعر القديم يفتتح بها قصيدته، والتي كانت وظيفتها أنها تنقل بشكل ما اللاوعي الجماعي نحو الماضي، لأن استمالة طاغية وحتمية تجذب الجميع إليه. عندما يكون الماضي مكتملاً يكون زمناً لا ينتهي، مثل الأبد. ويعيد هذا إلى الأذهان كيف كان كافافيس يستعيد الحضارة الهيلينية التي لا تعيش سوى في كتب التاريخ، والتي يدرج بروحه إليها مئات السنين إلى الوراء، ليجعل الماضي يحيا من جديد، متألقاً أمامنا، بهياً، بطولياً. وبالنسبة لنامق سلطان فإن السلام الذي كان يعمّ مدينته المهدّمة هو الحضارة التي ينتمي إليها، والتي فقدها بسبب الحرب، ويحاول أن يعيد خلقها بواسطة الشعر:
في (السرجخانة) التي أعرفها
كنت أشمّ رائحة الفساتين
تأتي من بعيد
وأرى الأنوثة تمشي
غيرَ آبهة بالخراب.
أما من لا يعرفها
فلا يشم غير رائحة الغبار.
الشاعر يحاول أن يعيد إحياء مدينته المحترقة إلى الوجود ثانية بواسطة هذا الهدوء الذي يشبه الغناء الحزين، ناحتا حجارة المباني التي تحولت إلى غبار من صخر آلامه، ليثبّتها لنا في متحف الشمع هذا على الورق:
في (الميدان)
ثمة عجوز تجلس قرب باب مخلوعٍ
تحدّق في مجرى وسط الطريق
الطريقُ خالٍ
والمجرى خالٍ
والبيت خالٍ
نبرة الشاعر تريد أن تؤكد عكس ما تقوله القصيدة. فهناك شغور، وهنالك حضور في الوقت نفسه، أي أن الشاعر يقول عكس ما يقصده، وهذا هو السحر الذي يمتلكه الشعر، ويستطيع بواسطته إيهامنا بأن الأبيض هو في الحقيقة أسود، تبرّأ من لونه بفعل السحر، وصار أبيض. المجرى في القصيدة موجود وغير موجود، وكذلك البيت، والطريق. هذه اللعبة يكررها الشاعر في قصيدة أخرى:
في المحطة
صالة الانتظار خالية
وكلّ شيء هادئٌ
وباردٌ
حتى الشبّاكُ الوحيدُ المفتوحُ
أرى ضوءَه يرتجفُ
من البرد
الصالة هنا فارغة، لأن لا أحد فيها ينتظر، ولا مسافر يصل، وهذا هو تأكيد الشِعر على الوجود رغم عدمه، فالفراغ هو الشكل الفني للامتلاء، والهدوء في صالة الانتظار الخالية يشير إلى الضجة المفقودة في المكان، بسبب الحرب التي هدّمت كل شيء وجعلت الناس يهاجرون من المدينة، تاركة الشاعر مثل من كان لديه كل شيء وخسر كل شيء، ولا وقت لديه كي يبدأ من جديد، وتبدو المدينة التي يتحدث عنها الشاعر كما لو أنها مُحقت بمشهد سريالي لم يُبقِ فيها غير:
«... مقابر
أو مشأنق
أو مرابض لذئاب ضالة
أما الأشجار فهي خارج المشهد
والأنهار كذلك
والأمطار».
كأن نامق سلطان كان يحتاج أن يعيش الشعر، حتى يقوله، وقد حقّقت له الحرب الأخيرة التي دارت في شوارع مدينته، وفي بيوتها، وفي أسواقها وخاناتها وفنادقها ومقاهيها... إن صوت الشعر المبذول في الواقع هو الذي يصيحُ بالشاعر، يصحّيه على زمانه. شوت نار الحرب حروف الشاعر، وصلّبتها، وأزالت عن فولاذها كل ما علق به من شوائب. كيف يمكننا الكلام عن موضوع الأمل في هذه القصيدة، غير أنه موجود بقوة، ومفقود كذلك، وبالقوة نفسها:
قادني طفلٌ
إلى بيوتٍ تهدّمتْ على أهلها
كان الطفلُ مذهولاً
وهو يروي ما رأى
لم يكن خائفاً
أنا الذي كاد قلبي يتوقف
من الخوف
رهبة الشاعر، ورعبه مما حلّ بمدينته، تقف منهما بالمرصاد شجاعة الطفل الراوي، والذي بإمكانه شطبَ كلّ ما شاهد، وتأليف قصة جديدة تكون المدينة هي المكان فيها، وهي الزمان والشخصيات والأحداث والحبكة، وكل شيء.
ويجرّب الشاعر أن يختار تقنية جديدة في بناء القصيدة. في واحدة عنوانها «صورة سوداء» يخاطب صورة شخص قريب أو صديق:
الثاني من يمين الصورة
وصلتْ رسالتُك
هذه بلاد انتهت صلاحيتها
وتاريخنا الذي يشبه حقلاً من نباتات ضارة
بحاجة إلى من يشعل فيه النار.



«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
TT

«نوابغ العرب» تختار البروفسور اللبناني بادي هاني لجائزة «الاقتصاد»

حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)
حصل البروفسور اللبناني بادي هاني على جائزة فئة الاقتصاد لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية (الشرق الأوسط)

اختارت مبادرة «نوابغ العرب» البروفسور اللبناني بادي هاني للفوز بالجائزة عن فئة الاقتصاد، تقديراً لإسهاماته العلمية في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية.

وهنّأ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، البروفسور هاني، مؤكداً أن استدامة النمو الاقتصادي المرن والمتوازن تُعد ركناً أساسياً لتقدم المجتمعات وازدهار الحضارة الإنسانية. وقال في منشور على منصة «إكس» إن هاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة سيراكيوز، قدّم «إسهامات استثنائية» في الاقتصاد القياسي وتطوير نماذج تحليل البيانات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه نشر أكثر من 200 بحث علمي، وأن كتابه في تحليل نماذج البيانات الاقتصادية بات مرجعاً للباحثين حول العالم.

وأشار الشيخ محمد بن راشد إلى حاجة المجتمعات العربية إلى اقتصاديين محترفين، مؤكداً أن السياسات الفاعلة تُبنى على علم راسخ وبيانات دقيقة، وأن «اقتصاد الأمة يُصنع بعقولها»، معبّراً عن تطلعه إلى «فصل عربي جديد» في مسيرة استئناف الحضارة العربية.

وجاء منح جائزة الاقتصاد هذا العام للبروفسور بادي هاني تقديراً لإسهاماته في تطوير أدوات التحليل الاقتصادي، خصوصاً في مجال «تحليل لوحة البيانات الاقتصادية»، الذي يعزز دقة دراسة البيانات عبر دمج معلومات من فترات زمنية ومصادر متعددة. وأسهمت ابتكاراته، بحسب المبادرة، في تحسين تقييم آثار السياسات الاقتصادية على المدى البعيد وعبر مناطق مختلفة، ما دفع حكومات ومؤسسات إلى تبنّي أساليبه في قياس كفاءة السياسات والإنفاق العام والأطر التنظيمية.

كما قدّم هاني دورات تدريبية لمختصين اقتصاديين ضمن مؤسسات دولية، بينها البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، وبنوك مركزية عدة. ونشر أكثر من 200 بحث علمي، وله مؤلفات أكاديمية مؤثرة، أبرزها كتاب «تحليل نماذج البيانات الاقتصادية» المرجعي. وهو يحمل درجة البكالوريوس في الإحصاء من الجامعة الأميركية في بيروت، والماجستير من جامعة كارنيجي ميلون، والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة بنسلفانيا.

وفي إطار الإعلان عن الجائزة، أجرى محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء ورئيس اللجنة العليا لمبادرة «نوابغ العرب»، اتصالاً مرئياً بالبروفسور بادي هاني أبلغه خلاله بفوزه بجائزة «نوابغ العرب 2025» عن فئة الاقتصاد، مشيراً إلى أهمية الأبحاث والنظريات والأدوات التي طورها على مدى عقود، والتي أصبحت ركيزة أساسية في التحليل الاقتصادي الاستراتيجي القائم على المعطيات والبيانات الدقيقة لاستشراف مستقبل التنمية وتعظيم فرصها.

واعتبر القرقاوي أن فوز هاني يمنح «دافعاً قوياً» لجيل جديد من الباحثين والمحللين والاقتصاديين العرب للإسهام في رسم المرحلة المقبلة من التنمية الشاملة في المنطقة.


آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
TT

آلاف يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند «ستونهنج» في إنجلترا

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)
أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

احتشد آلاف الأشخاص ورقصوا حول «ستونهنج» في إنجلترا، بينما ارتفعت الشمس فوق الدائرة الحجرية ما قبل التاريخ، اليوم (الأحد)، في الانقلاب الشتوي.

وتجمعت الحشود، العديد منهم مرتدون زي الدرويد والمشعوذين الوثنيين، قبل الفجر، منتظرين بصبر في الحقل البارد والمظلم في جنوب غربي إنجلترا. وغنى بعضهم، وضربوا الطبول، بينما أخذ آخرون وقتهم للتأمل بين الأعمدة الحجرية الضخمة.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

يقوم كثيرون بزيارة هذه الدائرة الحجرية كل صيف وشتاء، معتبرين ذلك تجربة روحية. ويعد النصب القديم، الذي بني بين 5000 و3500 سنة مضت، مصمماً ليتوافق مع حركة الشمس خلال الانقلابات، وهي تواريخ رئيسية في التقويم بالنسبة للمزارعين القدماء.

وقالت منظمة إنجلش هيريتاج، المسؤولة عن إدارة «ستونهنج»، إن نحو 8500 شخص احتفلوا يوم السبت بالموقع في سالزبوري بلين، على بعد نحو 75 ميلاً (120 كيلومتراً) جنوب غربي لندن. وأضافت أن البثّ المباشر للاحتفالات جذب أكثر من 242 ألف مشاهدة من جميع أنحاء العالم.

أشخاص يحتفلون بشروق شمس الانقلاب الشتوي عند موقع «ستونهنج» في إنجلترا (أ.ب)

واليوم (الأحد)، هو أقصر يوم في السنة شمال خط الاستواء، حيث يشير الانقلاب الشتوي إلى بداية الشتاء الفلكي. أما في نصف الكرة الجنوبي، فهو أطول يوم في السنة ويبدأ الصيف.

ويحدث الانقلاب الشتوي عندما تصنع الشمس أقصر وأدنى قوس لها، لكن العديد من الأشخاص يحتفلون به كوقت للتجديد، لأن الشمس بعد يوم الأحد ستبدأ بالارتفاع مجدداً، وستزداد مدة النهار يوماً بعد يوم حتى أواخر يونيو (حزيران).


«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
TT

«الأسود على نهر دجلة»... صراع إنساني تكشفه بوابة نجت من الدمار

المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)
المخرج العراقي زرادشت أحمد (الشركة المنتجة للفيلم)

يقدّم الفيلم العراقي «الأسود على نهر دجلة» تجربة تتقاطع فيها الذاكرة الشخصية بالذاكرة الجماعية، ويعود فيها المخرج زرادشت أحمد إلى المُوصل، مدينة الجراح المفتوحة، بعد سنوات من محاولته الابتعاد عن العراق وصراعاته، فبعد نجاح فيلمه السابق «لا مكان للاختباء» وما تركه من أثر عاطفي ثقيل عليه، كان المخرج يؤكد لنفسه أنه لن يصوّر في المنطقة مرة أخرى.

لكن المُوصل كما يقول لـ«الشرق الأوسط» أعادت جذبه ببطء حين رأى الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب مع تنظيم «داعش»، وواجه أسئلة لم يتمكن من تجاهلها حول كيفية سقوط مدينة بهذا التاريخ أمام 800 مقاتل فقط، وكيف يحاول سكانها اليوم النهوض من جديد.

الفيلم الذي حصد التانيت الفضي للفيلم الوثائقي الطويل ضمن فعاليات الدورة الـ36 من «أيام قرطاج السينمائية»، بتونس، بدأت رحلة مخرجه من فكرة مختلفة تماماً، إذ كان يبحث عن تحفة أثرية، تُعرف باسم «بطارية بغداد»، ظنّ أنها سُرقت بعد عام 2003، قبل أن يكتشف وجودها في قبو المتحف الوطني.

وثّق الفيلم جانباً من الأضرار التي لحقت بالموصل (الشركة المنتجة)

لكن زيارة إلى الموصل بدّلت مسار الفيلم، ففي أحد الأزقة الضيقة للمدينة القديمة، وقف أمام منزل دُمر بالكامل، ولم يبقَ منه سوى بوابة رخامية، يعلوها أسدان منحوتان، كأنهما الحارسان الأخيران لزمنٍ مضى، هذا المشهد كان كافياً ليقرر أنه أمام قصة أكبر من مجرد بحث أثري، بل أمام ذاكرة مدينة بأكملها.

تعرف أحمد خلال تلك الرحلات إلى بشّار، الصياد ابن الموصل وصاحب المنزل المدمر، 4 أجيال من عائلته عاشت في ذلك البيت، واليوم لم يبقَ لهم سوى هذين الأسدين، في نظر بشّار لم يكونا حجارة، بل كانا امتداداً لعائلته، لذكرياته، لروحه كلها، يذهب يومياً إلى الأطلال ليحرسهما، ويواجه محاولات سرقة متكررة، ويقاوم شعوراً لا ينتهي بأن الدولة تخلّت عنه، وأن مدينته فقدت القدرة على ضمّه، مأساته في الفيلم ليست فقدان منزل فقط، بل فقدان هوية، وفشل محاولات الإقناع بأن الوقت قد حان للبدء من جديد.

رصد الفيلم جوانب مختلفة من الحياة في الموصل (الشركة المنتجة)

وفي مقابل بشار، يظهر فخري، الشخصية التي تضيف بعداً مختلفاً للفيلم، رجلاً ستينياً، جمع على مدى سنوات أكثر من 6 آلاف قطعة أثرية أنقذها من بيوت مهجورة وبقايا خراب الحرب، وحوّل منزله إلى متحف مفتوح للناس، باع سيارته، ومقتنيات زوجته، ومدخراته كلها ليحافظ على جزء من هوية الموصل. في البداية، كان يحلم بأن يضم باب منزل بشّار إلى مجموعته، معتقداً أنه يحمي تاريخ المدينة من الضياع.

لكن مع الوقت تبدأ تحولات داخلية عميقة تظهر في شخصيته، خصوصاً حين يواجهه صديقه الموسيقار فاضل بأن التاريخ ليس سلعة، وأن ما تبقى لبشّار ليس حجراً بل حياته نفسها، فيصبح هذا الصراع الإنساني بين رجلين يحبان مدينتهما على طريقتين مختلفتين محوراً أساسياً ينبني عليه الفيلم.

أما فاضل، الموسيقار الذي عاش 3 سنوات من الرعب تحت حكم «داعش»، فكان يخفي آلته الموسيقية خشية إعدامه. يخرج اليوم إلى الشارع، يعزف وسط الأنقاض، يعلّم جيلاً جديداً من الشباب ومعظمهم من الفتيات ويعيد الموسيقى إلى مدينة حاول التطرف أن يخنق صوتها، وجوده في الفيلم لا يقدّم بعداً موسيقياً جمالياً فقط، بل يعكس التغيّر الأعمق الذي عاشته الموصل بعد التحرير، انفتاحاً ثقافياً مفاجئاً وغير متوقع، وعودة للحياة المدنية من خلال الفن، لا السياسة.

التصوير كان رحلة محفوفة بالمخاطر كما يؤكد المخرج، فالكاميرا في العراق ليست موضع ترحيب، الناس يخشونها، السلطات تشك فيها، والمخابئ والممرات تحت الأرض كانت لا تزال مليئة بالألغام وبقايا العبوات، كثيراً ما أوقفته الشرطة أو اتهمه البعض بالتجسس، بينما كان يحاول الحفاظ على سلامة فريقه وسلامة الشخصيات التي ترافقه داخل أحياء مهدمة. ومع ذلك، كان الإحساس بأن الوقت ضيق والمدينة تتغير بسرعة دافعاً له للاستمرار، كما لو أنه يصوّر آخر فرصة لتوثيق ما تبقى من ذاكرة شفافة قبل أن تذوب.

خلال 5 سنوات من العمل، جمع المخرج أكثر من 600 ساعة تصوير، لم يكن يعتمد على سيناريو ثابت، بل على تطور القصة من قلب الواقع، وعلى اللحظة التي يلتقطها بعفوية، وعلى مشاهد تنشأ من الصمت أو من جملة يقولها بشّار أو فخري أو فاضل. ولهذا يبدو الفيلم حياً، غير مشكَّل مسبقاً، أقرب إلى تسجيل نبض مدينة تبحث عن روحها.

عودة الروح والموسيقى إلى الموصل بعد تحريرها من أيدي «داعش» (الشركة المنتجة)

يمتد أثر الفيلم إلى ما يتجاوز الشخصيات، فالموصل التي يظهرها أحمد ليست مجرد مدينة مدمرة، بل مدينة تحاول استعادة معمارها وروحها وذاكرتها، حيث نساء يخرجن إلى الساحات من جديد، فنانون يعيدون افتتاح المسرح، موسيقيون يدرّبون أطفالاً صغاراً، ومتحف وطني يُرمَّم بعد أن دمّره «داعش»، كل تفصيلة تتحرك داخل الفيلم باعتبارها جزءاً من سؤال أكبر؛ هل يمكن لمدينة فقدت كل شيء أن تستعيد هويتها؟ وهل يستطيع الإنسان أن يشفى من ذاكرة الحرب؟

ورغم أن الموصل اليوم أكثر أماناً، فإن المخرج يذكّر بأن الأفكار المتطرفة لا تختفي بسهولة، ويرى أن المدينة مثل مرآة للمنطقة كلها، وأن ما يحدث فيها يعكس ما يمكن أن يحدث في مدن أخرى إذا تُركت بلا دعم حقيقي أو دون إعادة بناء للثقة والوعي والانتماء.