«الموت الأسود» في الفن التشكيلي

ظهرت أولى اللوحات عنه في عصر النهضة الإيطالية

لوحة «انتصار الموت» للفنان الهولندي بروغيل عام 1562
لوحة «انتصار الموت» للفنان الهولندي بروغيل عام 1562
TT

«الموت الأسود» في الفن التشكيلي

لوحة «انتصار الموت» للفنان الهولندي بروغيل عام 1562
لوحة «انتصار الموت» للفنان الهولندي بروغيل عام 1562

كلما بلغ التكاثف السكاني، في المدن والحضارات بعامة، حدا معينا وكلما تزايد تنقل الناس وكثرت تحركاتهم، توفرت شروط انتشار الأوبئة القادرة على أن تصيب أقصى عدد من الأفراد في كل الأوقات. ومن أشهر الأوبئة هي الطواعين. فالطاعون يضرب بأصوله في التاريخ القديم وبفعل قوته المدمرة والمخربة فقد صار في المخيال الجماعي يدعى بـ«الموت الأسود» وهو الوباء الذي صاحب الإنسانية لعدة قرون، وغالبا ما نجده منعكسا في الأعمال الأدبية والفنية الكبيرة.
والطاعون معروف منذ 3000 سنة على الأقل. ففي سنة 430 ق م أصاب أثينا فجعل سكانها يتخبطون في حيرة كما ذهب بحياة العُشر من سكانها مثلما أودى بحياة بارقليس صانع الهيمنة الأثينية في بحر إيجة. أما في الصين فقد سجل لنا التاريخ أوبئة منذ سنة 224 ق م.
ومن سنن الحضارة أن يتأثر كل من الثقافة والفن تأثرا بالغا بمثل هذه الأوبئة: في الفنون التشكيلية نجد تأكيدا على محوري الموت والألم مقابل الصفو والرصانة الموجودتين في فن الإيطالي «جوتو» (1266ــ1337) الذي يعتبر فاتح عصر النهضة الإيطالية في الفنون. أما المعماريات فقد عرفت بدورها ضربا من التطور الذي تولد عنه ما يسمى بـ«الغوطي المتلهب»، حيث نجد اندفاعات شبيهة بألسنة النار المتلوية.
يعود الرسم على الجص (الذي لا يختلف تقنيا عن الرسومات الجدارية أو الجداريات) المعنون بـ«انتصار الموت» إلى سنة 1446 وهو محفوظ اليوم في إحدى صالات قصر «أباتلّيس» بمدينة باليرمو العاصمة الإقليمية لجزيرة صقلية. وهذا العمل الفني هو العمل الأكثر تمثيلا لوباء «الطاعون الأسود»، إذ علاوة على كونه الرسم الأفضل حول هذا الموضوع، فإن موضوعه قد أكد، حد الهوس، على ذوات مروعة وغريبة في وحشيتها بتعبيرية قاسية وغليظة وهذه تُعدّ من الخاصيات النادرة في الفن الإيطالي مما يجعلنا نعتقد في أن الرسم المجهول صاحبه، هو من نتاج يد فنان عظيم.
تبدو اللوحة الجصية كما لو أنها صفحة كبيرة قد تضمنت رسوما صغيرة أو نمنمات، حيث نجد حديقة مترفة وبهيجة ينبثق منها شبح الموت، على صهوة طيف حصان قد رد إلى هيكله العظمي، بصدد رمي سهامه القاتلة التي تصيب شخصيات من جميع الطبقات الاجتماعية فتثخن فيهم قتلا. فشبح الموت ذاك قد ربط على جنبه منجلا ويصحب معه كنانة، وكل ذلك يشكل مجموع الصفات الإيكونوغرافية النموذجية لذاك الرسم. أما في أسفل الرسم فتظهر جثث الأشخاص المقتولين: أباطرة، آباء الكنيسة، أساقفة، رهبان، شعراء، فرسان وفتيات نبيلات. أما على اليسار فنجد مجموعة فقراء الناس وهم يضرعون إلى شبح الموت بأن ينهي آلامهم لكنه يتجاهل ذلك بكل قسوة. ومن بين هؤلاء نجد الشكل الذي ينظر إلى من يشاهد اللوحة على أنه رسم محاك لصاحب الرسم ذاته. ورغم ثراء وتعقد الموضوع فإن المشهد قد ركب بطريقة موحدة بفضل أساليب خطية ناجعة وبفضل الضربات واللمسات العريضة للفرشاة، تلك اللمسات القادرة على نقل وإيصال الكثافة المادية للّون.
ويعتقد أن هذا العمل كان له دور العمل الفني الملهم للوحة التي تحمل نفس الاسم والتي رسمها الفنان الفلمنكي الهولندي بيتر بروغل الأكبر (حوالي 1520-1530 - 1569) إثر زيارته لمدينة باليرمو سنة 1552 تقريبا لا تحديدا. كما يعتقد أيضا أن إنجاز اللوحة الجدارية «الغورنيكا» للفنان بيكاسو (1881 - 1973) كان ثمرة إلهام من نفس الرسم بباليرمو. إلا أن لوحة الفنان الهولندي بروغل «انتصار الموت» تعد بحق ما رمزية لفورة وثورة الغضب الشديد ولعدوانية هذا الوباء الذي أصاب أوروبا آنئذ.
والأمر من الناحية الفنية متعلق بموضوع فني قروسطي نموذجي واجهه الفنان بالإحالة إلى محاور إيكونوغرافية مختلفة: كمحور الرقص المروع (للهياكل العظمية مثلا)، فارس نهاية العالم، قيام القيامة (الهيكل العظمي المسلح بالمناجل) ومحور بعث ونشر الموتى، الذي يبديه من بعد الهيكل العظمي الخارج من الحفرة.
وتجدر الإشارة إلى أننا نجد دواعي أخرى قد أعيد تشكيلها في أعمال الفنان هيرونيموس بوش (1453ــ1516) مثل الزوجين المتحابين أو مشهد الناس الذين يقع سحبهم من على الجسر الذي حمل اسم اللوحة «جسر الأرواح» وإلى عذاب المتكبرين. لا شيء يدخر لنا في مثل هذه الأعمال الفنية، بل كل شيء فيها مبذول حتى الطبيعة نفسها: إذ نجد أن الهياكل العظمية تطيح بالأشجار، والبحار تغرق السفن ابتلاعا، وأنهار الحرائق تسوّد السماء، وهياكل عظمية لحيوانات منبجسة من الأرض وحيث ما ولينا نظرنا لا نجد غير الدمار، البؤس واليأس والموت والخراب.
طاعون آخر انتشر قرب مدينة يافا في فلسطين خلال حصارها من قبل القوات المسلحة لنابليون حوالي 1800. ولقد رسم لنا ذاك الطاعون الفنان أنطوان جان غروس (1771 - 1835) الذي تعرف على زوجة نابليون بونابرت جوزبينا بمدينة جنوا الإيطالية والتي بدورها قدمته لاحقا إلى نابليون. وبما أن نابليون قد انبهر بفن الرسام إلى حد كبير فقد طلب من الفنان أن يكون رديفا له كرسام رسمي لحروبه؛ وهي التجربة التي تمخض عنها عمله الأكثر شهرة: نابوليون يزور مطعوني مدينة يافا (1804).
في ذاك العمل الفني نرى القائد الفرنسي - في الوسط - وقد رسم إبان لمسه لأحد المصابين بالطاعون، وهي حركة، حسب تقليد آنئذ، اختص بها الملوك دون غيرهم لما وهبوه من سلطان يجعلهم يمتلكون قدرات هي من طبيعة المعجزات، مثلما كان شائعا، ولأجل هذه العلة نجد أن المصابين يحاولون بدورهم أن يلمسوا نابليون؛ بيد أن معاونه على خلافه نراه يغطي وجهه بمنديل للحماية حتى لا يتأذى من الرائحة الكريهة في المكان.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».