رسالة الأرض للإنسان على هامش الوباء: ارحل إلى المريخ... «كورونا» لن يعيش هناك

رسالة الأرض للإنسان على هامش الوباء: ارحل إلى المريخ... «كورونا» لن يعيش هناك
TT

رسالة الأرض للإنسان على هامش الوباء: ارحل إلى المريخ... «كورونا» لن يعيش هناك

رسالة الأرض للإنسان على هامش الوباء: ارحل إلى المريخ... «كورونا» لن يعيش هناك

لم يكتف فيروس «كوفيد - 19» بأن ينتقل من بعض الحيوانات إلى الإنسان وحده من بين الكائنات الحية، محدثاً الهلع لنحو 8 مليارات إنسان يعيشون على الأرض، معطلاً عجلة الحياة على الكوكب، ومطلقاً سباقاً دولياً في محاولة لوقفه، بعدما انتشر بشكل متسارع مخلفاً عشرات الآلاف من الموتى وأكثر من مليون مصاب.
فُرض على سكان المعمورة حجر إلزامي لم يعهدوه. ووقفت أكبر المراكز الطبية والبحثية العالمية عاجزة عن فعل أي شيء لاكتشاف علاج ناجع لهذا الغازي الجديد، في حين اكتفى المختصون وغير المختصين بطرح آراء ورؤى واجتهادات حول كيفية التعامل مع هذا الوباء. وامتلأت ثلاجات الموتى بالجثث، والمستشفيات بأكثر من مليون مصاب، وتهافت الناجون إلى مراكز التسوق لشراء احتياجاتهم من المعقمات والمطهرات والسلع والمواد التموينية؛ خوفاً من المصير المجهول.
إنها أجواء أشبه بالحلم، لم تحدث على وجه البسيطة على مر تاريخها. ومعها نزعت الأرض رداءها الذي تدثرت به منذ مليارات السنين لتبوح بالحقيقة المرّة، وتكشف سر هذا «الغازي» الذي زحف بجيشه الخفي المجلجل على سطحها على حين غرة، محدثاً الفزع والهلع، ومعطلاً كل مظاهر الحياة على كوكب الحياة.
في هذا الحوار الافتراضي، تحدثت الأرض بصوت أعياه التعب عما حلّ بها بسبب عبث الإنسان بمكوناتها الطبيعية خلال قرون مضت، وخاصة في القرنين الماضيين، مشددة على أنها ضاقت بسكانها من البشر، فلم تجد مناصاً إلا ببعث «كورونا» حاملاً رسالة مفادها: إما إيقاف العبث أو الفناء أو البحث عن كوكب آخر ليعيش فيه المتسبب بهذا العبث.
بداية، قدمت الأرض تعريفاً بنفسها بالقول «أنا الأرض ثالث كواكب النظام الشمسي بعداً عن الشمس، وأكبر الكواكب من حيث الحجم والكتلة، والكوكب الوحيد المناسب للحياة، ورغم عدم معرفتي تاريخ ميلادي، فإنه يمكن القول إن عمري يقدر بنحو 4.6 مليار سنة، قد تزيد أو تنقص عن هذا الرقم بعشرات الملايين من السنين. لكن هذا كله لا يهم في حسابات الكون». وأضافت «لا أريد أن أتناول المخلوقات التي احتضنتها وانقرض الكثير منها لأسباب كثيرة، لكنني لا أتذكر إلا الإنسان. هذا المخلوق الذي ظهر بهذه الصفة قبل آلاف من السنين، فهو مخلوق عجيب يمتلك مجموعة من الصفات التي لا تتوافر عند الكائنات الأخرى، ولعل أبرزها امتلاكه دماغاً وعقلاً عاليي التطور، مع قدرة على التفكير المجرد واستخدام اللغة والنطق».
ذكّرت الأرض بأن «الإنسان تدخل في أحد المكونات البيئية التي نشأت بصورة طبيعية على سطحي، وأقصد به الغطاء النباتي الذي أعتبره رئتي التي أتنفس بها، ويلعب دوراً كبيراً في حفظ توازن بيئتي؛ فهذا الغطاء المكون من الغابات والأحراش والنباتات البرية والشجيرات والطحالب والحدائق لم يسلم من الإنسان، رغم معرفته التامة بأن هذا الغطاء النباتي هو القاعدة الأساسية في الهرم الغذائي لجميع الكائنات الحية على سطحي، فهو يقوم بأهم وظيفة في البيئة بامتصاص ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين الضروري للتنفس. تلك العملية التي تسمونها التمثيل الغذائي، وتعلمونها في مناهجكم الدراسية لطلابكم في مادة العلوم وبجميع لغاتكم التي تنطقون بها، وأود أن أذكركم أيها البشر بأن قيامكم بالبحث عن علاج لهذا الوباء الذي أسميتموه (كورونا)، أجبركم على التوجه إلى الأكسجين، ليس عبر فضائي الواسع، بل عبر أجهزة مصنعة يحتاج إليها مصابوكم من حاملي الوباء».
هذا الغطاء الذي «يوفر لكم المواد الطبيعية من غذاء وكساء، وخامات لتصنيع أدويتكم، ومنها ما تعكف بها مختبراتكم الطبية على تصنيع دواء قد يطول لإيجاد علاج ناجع لهذا الجائحة»، كما تضيف الأرض «ولعل هذا العبث بالغطاء النباتي قد أبرز وخلق ظواهر ظهرت مع عصر ما تسمونه بالثورة الصناعية وإلى اليوم، منها الاحتباس الحراري وانتشار الغازات السامة وتلوث الجو بالمواد الضارة العالقة في الهواء الذي أتنفس وتتنفسون منه، والغبار، فضلاً عما حدث من خلل في درجة الحرارة المناسبة للحياة، وفي دورات العناصر العضوية والمعدنية والتربة والرطوبة، وتأثيراته على دورة المياه، مع بروز ظاهرة التعرية وانجراف التربة والتضاريس، والإخلال بنظام الرياح وحركة السحب والأمطار وتوزيعها على سطحي والاختلال في البيئة الغذائية وشبكتها. لقد أحدثتم اختلالاً في العلاقة بينكم وبين البيئة تحت ذريعة الانفجار السكاني والتقدم التقني، وهآنذا أبعث لكم (كورونا) ليخفف من هذا الانفجار ويوقف تقدمكم التقني لتتفرغوا لكل ما يبعث التنمية وتحقيق الأمن والأمان لكم أيها البشر».
وتختم الأرض حديثها بالقول «رغم مساحة الحزن الذي حملته منذ قرون، وخصوصاً خلال القرنين الماضيين، أقول: لعل من المضحك المبكي أنه في ظل هذا العبث بمكوناتي الطبيعية منكم أيها البشر التي تؤثر على الحياة فوق سطحي وكان بطلها الإنسان ولا غير فقد تابعت منذ سنين مغامرات هذا الكائن الغريب الذي اسمه الإنسان عندما تخلى عن توظيف جهوده بالحفاظ على مكوناتي الطبيعية، كي يعيش بأمان، وتوجه إلى ما أسماه بغزو الفضاء واستكشافه لأغراض جاسوسية فيما أسميتموه الحرب الباردة، بل إنكم بالغتم في البحث عن حياة افتراضية خارج الأرض. وحتى لا أكلف الإنسان عناء البحث، أقترح عليه أن يذهب إلى المريخ الذي يليني رابعاً في ترتيب كواكب النظام الشمسي بعداً عن الشمس، ولا أعتقد أن الإنسان سيجد مناخاً أفضل مني، خاصة أن درجة حرارة هذا الكوكب تبلغ 63 درجة مئوية، وهو ما يسهل الحياة على سطحه ولن يكون بيئة لتكاثر فيروس كورونا الذي تدعون أن الحرارة تقتله».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)