في مديح البيت والعُزلة!

TT

في مديح البيت والعُزلة!

ربما لم يسبق للعالم أن انغلق على نفسه كما يحدث اليوم، أعداد هائلة من البشر ترزح تحت نير سجن كبير بألوان مختلفة وبغرف كثيرة، الكل يغلق الباب على نفسه خوفاً من رسائل الموت، الموقعة باسم قاتل مجهول غير مرئي وغير مفهوم حتى الآن، الجميع يضرب عن خطى الطرقات التزاماً بما تمليه ظروف الجائحة الكونية.
يتوحش العالم بالوباء، فنعود نحن إلى البيت... نعود إلى البيت، لا إلى أي مكان آخر، إنها حالة فطرية تجعلنا نستشعر في هذا المكان دون غيره كل أحاسيس الأمان والهدوء والشعور اللذيذ بالسكينة، كما يقول الكاتب المسرحي الأميركي تشانينج بولوك: «البيت سيظل أفضل الأماكن على كوكب الأرض».
رمزية البيت كمكان أو كبيئة حاضنة للطمأنينة تنبع أساساً من تفاصيله الكامنة خلف الشكل، والتي لا تفصح عن ملامحها إلا في حالات الضرورة الطارئة، في الخوف والحزن، وفي حالات أخرى من اللذة والفرح... هذا الموطن الصغير بهوامشَ متّسعة حيث تولد أولى الأفكار وأكثرها حميمية، هو موطنٌ أرحَبُ من حدود الجدران.
وفي حالة الحجر الصحي التي يعيشها العالم اليوم، يصبح البحث عن عناصر الحياة المتاحة أمراً ملحاً للغاية، إنها عناصر حيوية ذات قيمة عليا، لكنها لا تنبع من الخارج كما جرت العادة، بل تولد الآن من رحم هذا الداخل الضيق... من قفص البيت. وقد يكون للأدب والفن واللمسات المبدعة في الطبخ والديكور، حتى الحركات الرياضية، دور بارز في كسر حاجز الفراغ الذي بات يحاصر مليارات البشر المحتجزين في رقعة جغرافية محدودة، يتسع فيها صخبُ الصمت، وتصبح فيها خيوط الزمن متشابكة ومتشابهة وبلا معنى.
قبل أيام فقط، صرّح عالم الاجتماع الفرنسي الشهير، ألان تورين، قائلاً؛ إن فيروس كورونا جعلنا نعيش اللّامعنى في بيوتنا!
كان تورين يقصد حالة القلق الصامت المعجون بالخوف والمدفوع بالريبة، وهي أحاسيس مركبة يشعر بها الإنسان اليوم في غمرة الذهول، ولا سيما وهو يجد نفسه فجأة وبصفة دراماتيكية أمام أسوأ سيناريو يعشيه منذ الحرب العالمية تقريباً. حالة اللّامعنى تلك، تنبع من عدم معرفته لما يجري على نحو صحيح، فهو لا يعرف عن فيروس كورونا أكثر مما التقطَتْهُ الأسماع من عموميات طبية متباينة وغير حاسمة، وهو لا يعلم ما إذا كان العالم قادراً على كبح جماح هذا العدو الغريب في أفق منظور، أم أن الأمر سيدوم طويلاً، كما أنه لا يعرف على وجه الدقة كيف سيتغير العالم من حوله حين يرحل الوباء، وكيف سينعكس ذلك على حياته الخاصة... يكتفي هذا الإنسان التائه بالجلوس في بيته معزولاً عن الآخرين بقوة التباعد الصارم، وفي خانة ضيقة من الحجر المفروض عليه، متجرداً من اليقين تماماً وممسكاً بالخوف والانتظار، يجلس في الداخل كي ينجو مما لا يعرفه في الخارج!
وفي البيت، تجول المخيلة في مسارات بعيدة من الصور التي تستعيدها الذاكرة، كي لا تقع في شرَك العدم أو كي لا يسقط الأفق، وحين تشحُّ الصور تحت ضغط القلق أو أمام فقر التجربة، يصبح الخيال نشيطاً، وهو يلبي دعوة الأمل بالغناء، كما فعل الإيطاليون من شرفاتهم، مرددين أناشيد الانتصار حين كانت أرقام الوفيات في ذروتها، أو بحملات الصور الإيجابية التي أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي كنوع من السخرية الجماعية القوية، أو بتبادل التصفيقات بين الماكثين في بيوتهم وبين أولئك العاملين في ساحة المعركة من شرطة وأطباء وعمال نظافة. من هنا، كان الجلوس في البيت عنصراً محرضاً على اكتشاف الأفراد لعادات جديدة، أو لإعادة إحياء الميت منها والمنسي. كل ذلك يحدث من وحي هذه الصلة المستجدة بين الأفراد ومنازلهم، في إطار عزلة من نوع خاص، فرضتها الضرورة، لكنها في المقابل، حرّضت عوامل الإبداع على السعي لامتلاك مزيد من الخيارات لمواجهة الأزمة، لقد كانت العزلة على الدوام خياراً مُلهماً... ربما نستحضر الآن بوعي أكبر وصيةَ نيتشه للإنسان الحكيم؛ سارع إلى عزلتك يا صديقي!
لقد أصبح الوباء شبحاً غادراً يتربص بالأحبة والأقربين ممن أُجبر ذووهم على الابتعاد عنهم كشكل من أشكال الوقاية القاسية. الشباب والشيوخ جميعهم في البيت، في تلك اللحظات الحاسمة يصبح البيت رحيماً وقاسياً، فيه تسكن الهشاشة، وتتوحش أكثر بمشاعر الخوف والقلق على الآخرين الضعفاء، تماماً مثلما يتعاظم القلق على الذات! كل ذلك يحدث في البيت الذي يصبح في لحظة ما مَركزاً لاستقبال الهواجس القاتلة، فهي تنطلق منه وإليه تعود... «كُلُّ ظَلامٍ سيعود إلى البيت ليحلُمَ ذاتَ الحلم؛ وطنٌ وصغارٌ وسلام، كُلُّ ظلامٍ سيعودُ بلا جدوى لينام»، تقول الشاعرة الكويتية سعدية مفرح.
في البيت أيضاً ينمو شعور مسالمٌ بالفراغ والهشاشة والحيادية التامة أمام الظواهر والأشياء، في الحالات العادية، تكون للأمر علاقة مباشرة بالرتابة، فمن المنطقي جداً أن يضجر الإنسان بعد مكوثه الطويل في المنزل بلا حافز. كان درويش يقول: «في البيت أجلسُ، لا سعيداً لا حزيناً، بين بينَ، ولا أُبالي». لكن هذه الحالة الاستثنائية التي نعيشها اليوم بكل تفاصيلها، تمنح البيت جاذبية خاصة لا نظير لها، جاذبية لا تسحقُها الرتابة ولا يجحدها الحالمون بترَف الخروج، إنها جاذبية متقشّفة وعميقة تنبع من مسافة الأمان التي يأخذها الشخص مع الخارج بمعطياته المخيفة، لذا فإن الشوق للحظة الخروج من الحَجْر لا تدعمه الآن الرغبة في مواجهة الخطر الذي يتربص بمن يغادرون بيوتهم. الآن لن تصحّ مقولة جورج برنارد شو: «أكره الشعور بأنني في البيت عندما أكون خارجاً!» على العكس من ذلك، سيحبّ الناس منازلهم أكثر... حتى وهم يحلمون بأضواء الخارج.

- شاعر وكاتب مغربي



رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».