آينشتاين وغوديل... عبقريان على طرفي نقيض

الأول أكبر فيزيائي بعد إسحاق نيوتن والثاني أكبر عالم منطق بعد أرسطو

غوديل وآينشتاين
غوديل وآينشتاين
TT

آينشتاين وغوديل... عبقريان على طرفي نقيض

غوديل وآينشتاين
غوديل وآينشتاين

نريد أن نقدم هنا صورة شخصية (أو بورتريه) عن اثنين من كبار عباقرة العلم في القرن العشرين: ألبرت آينشتاين، وكورت غوديل. الأول هو أكبر فيزيائي بعد إسحاق نيوتن، والثاني أكبر عالم منطق بعد أرسطو؛ وهذا يعني مدى عظمتهما وأهميتهما في تاريخ الفكر البشري.
ورغم أنه يفصل بينهما ربع قرن من حيث العمر، فإن صداقة وثيقة ترسّخت بينهما. يقول عنهما العالم فريمان دايزون ما يلي: «كان غوديل الشخص الوحيد الذي يتجرأ على أن يتعامل مع آينشتاين معاملة الند للند. كل الزملاء الآخرين في الجامعة كانوا يهابون صاحب نظرية النسبية، ويقدمون له الطاعة سلفاً، ما عدا غوديل. وكان آينشتاين يحترم غوديل ويهابه، رغم أنه يصغره بخمس وعشرين سنة؛ كان يعرف قيمته ووزنه في مجال علم المنطق والرياضيات».
لقد نشأت بينهما صداقة كبيرة في الولايات المتحدة بعد أن هربا إليها خوفاً من هتلر والنازية. وقد التقيا في جامعة برنستون بالولايات المتحدة لأول مرة عام 1942. ومعلوم أن أميركا عرفت كيف تستقبل الأدمغة الألمانية، وتستفيد منها لتحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي، بل وصناعة القنبلة الذرية، قبل أن يسبقها هتلر إلى ذلك. كانت مسألة حياة أو موت بالنسبة لكلا الطرفين. والواقع أن هذا السلاح الرهيب الفتاك غير المسبوق في تاريخ البشرية هو الذي جعل أميركا تتفوق على هتلر، وتنتصر عليه وعلى حليفه الياباني في نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن بين العلماء الكبار الذين استقبلتهم أميركا آنذاك نذكر آينشتاين صاحب مشروع القنبلة الذرية وغوديل. والناس يتذكرون الأول بعد أن تحول إلى أسطورة، ولكنهم يجهلون الثاني كلياً، بل يعتقدون أنه كان يهودياً، كمعظم العلماء الذين طردهم هتلر. ولكن في الحقيقة، فإن غوديل لم يكن يهودياً، وإنما مسيحياً لوثرياً، أي تابعاً للمذهب البروتستانتي الذي يهيمن على شمال ألمانيا، والذي أسسه المصلح الديني الكبير: مارتن لوثر. ومعلوم أن ألمانيا احتفلت بذكراه العطرة مؤخراً لأنه فضح ألاعيب رجال الدين، وصكوك غفرانهم، وتهافتهم على المال، قبل خمسمائة سنة بالضبط.
ورغم أن كل شيء كان يفرق بين آينشتاين وغوديل، فإنهما أصبحا صديقين حميمين. نذكر من بين المفارقات أن آينشتاين كان رجلاً ضخماً من الناحية الجسدية، طويلاً نسبياً، في حين أن غوديل كان قصيراً نحيفاً جداً. وفي حين أن آينشتاين كان شخصاً منشرح النفس واثقاً من إمكانياته ميالاً للضحك والسخرية والفرح بالحياة، كان غوديل منقبض النفس، بل مريضاً معقداً جداً من الناحية النفسية. وأكبر دليل على ذلك أنه كان يلبس معطفاً شتوياً سميكاً في عزّ الصيف! وهذا الشيء كان يثير استغراب الناس، إن لم يكن سخريتهم. أما آينشتاين، فكان شخصاً مقبلاً على الحياة بنهم. فهو يأكل جيداً، ويدخن الغليون، ويحب النساء، وينجب الأطفال من زوجاته الشرعيات وغير الشرعيات دون أي مبالاة. وكان ناجحاً في الحياة الاجتماعية، وغير معقد على الإطلاق. أما صديقه غوديل، فكان على العكس من ذلك تماماً؛ كان يخاف حتى من ظله، ويتحاشى ملاقاة الناس، ما عدا قلة قليلة من أصدقائه الخلص، من بينهم آينشتاين بالطبع. باختصار شديد: كان هذا العالم العبقري، بل الذي لا يقل عبقرية عن آينشتاين، معقداً جداً من الناحية النفسية.
وقد أصيب في أواخر حياته بمرض البارانويا، أو الذُهان العصبي، ومنه مات في نهاية المطاف. فقد رفض أن يتغذى أو يأكل خوفاً من أن يكون الطعام فاسداً أو مسموماً! كان يعتقد أن هناك مؤامرة سرية لتسميمه، أي لقتله عن طريق دس السم في غذائه. ولذلك أصبح يشك في كل شيء. وهكذا، مات من قلة التغذية ووزنه لا يزيد على الثلاثين كيلوغراماً! ثم تقول لنا كتب التاريخ ما معناه: كان آينشتاين مولعاً بالموسيقى، وبخاصة سيمفونيات كبار الموسيقيين الألمان والنمساويين، من أمثال: باخ، وبيتهوفين، وبالأخص موزار. وكان يعزف على الكمان بشكل جيد جداً. وقد حاول بكل إصرار أن يجذب غوديل نحو الموسيقى، ولكن عبثاً. فالرجل لم يكن مولعاً بها، على عكس صديقه الكبير. ولكنه كان يحب السينما الأميركية والصور المتحركة على طريقة والت ديزني؛ الشيء الذي كان يكرهه آينشتاين (بين قوسين، نيتشه كان يقول: لولا الموسيقى لكانت الحياة خطأً كبيراً).
ونذكر من بين المفارقات أيضاً أن ضحكة آينشتاين كانت صريحة صاخبة مدوية، في حين أن غوديل لم يكن يضحك إلا قليلاً. وإذا ما ضحك، نادراً أن تسمع ضحكته الخافتة. كان يضحك في عبه، كما يقال. باختصار: كان كل شيء يفصل بينهما. ومع ذلك، فقد أصبحا صديقين حميمين جداً. ألا تتلاقى الأضداد؟ وهل يعقل أن تحب شخصاً من أمثالك؟
كان آينشتاين يمر كل يوم على بيت غوديل لأخذه معه إلى المكتب في الجامعة، جامعة برنستون. وعندما ينتهي الدوام، كانا يعودان إلى البيت معاً أيضاً. كان الناس يرونهما في الشارع وهما يمشيان جنباً إلى جنب باستمرار. والواقع أن فارق السن زاد من التلاحم بينهما، على عكس ما نتوقع. ينبغي العلم بأن آينشتاين ولد عام 1879؛ أي في السنة التي ولدت فيها أم غوديل. ثم مات عام 1955؛ أي قبل غوديل بربع قرن أو يزيد. وقد شكل موته صدمة كبيرة لغوديل، وهي صدمة لم يقم منها حتى مات هو الآخر عام 1978.
لكن، لنعد إلى الوراء قليلاً: في 1879، صدر كتاب مهم للعالم الألماني غوتلوب فريج عن علم المنطق الرياضي. وقد أدى إلى تأسيس هذا العلم بالذات. ومعلوم أن غوديل الذي سيجيء بعده مباشرة هو الذي وصل بهذا العلم إلى قمة القمم لاحقاً. ولهذا السبب، أحبه آينشتاين، وكان ينظر إليه بصفة زميل حقيقي في مجال العلوم الرياضية والفيزيائية؛ كان يعرف أنه عبقري مثله، وكان بحاجة إليه لحل بعض المشكلات العلمية التي حيرته، والتي لم يستطع حلها بوسائله الخاصة. وكان آينشتاين يشعر أحياناً بالخوف من غوديل، ومن ذكائه العبقري الذي لا يضاهى. فإذا كان آينشتاين يخاف منه، فما بالك بالآخرين؟
وأما من الناحية الدينية، فقد كان آينشتاين ملحداً في بداية حياته، ولكن صعود النازية أجبره على الإحساس بيهوديته. ولذلك عاد إليها دون أن يتبنى الإيمان الديني لأسلافه اليهود. كان يقول عن نفسه هذه العبارة العجائبية المليئة بالتناقض ظاهرياً: أنا ملحد متديّن بعمق! ولكن لم يكن النبي موسى (عليه السلام) هو الشخص الأهم بالنسبة له، كما يحصل لجميع اليهود، وإنما كان الفيلسوف سبينوزا الذي عاش ومات في القرن السابع عشر. ومعلوم أن هذا الفيلسوف الكبير كان يهودياً مثل آينشتاين، ولكن الطائفة اليهودية فصلته من صفوفها، وكفرته وأباحت دمه، لأنه خرج على عقائد الآباء والأجداد، واتبع فلسفة ديكارت والعلم الحديث، بل وكان من أتباع نظرية وحدة الوجود: أي التي تقول إن الله يتجلى في كل شيء في الطبيعة؛ وهذا يشبه إيمان ابن عربي عندنا في الإسلام.
أما غوديل، فلم يكن ملحداً على الإطلاق، بل كان مؤمناً بالله على طريقة الفيلسوف الألماني الكبير لايبنتز. ومعلوم أن هذا الأخير خلع العقلانية على الإيمان الديني، قائلاً: لقد خلق الله -عز وجل- هذا العالم على أفضل وجه ممكن. وبالتالي، فلا داعي للتذمر والشكوى، حتى لو ابتلينا بكل أنواع الكوارث والمصائب الشخصية أو الجماعية، فليس بالإمكان إيجاد عالم آخر أفضل منه. وقد أسس لايبنتز بذلك ظاهرة التفاؤل الفلسفي في الفكر الألماني، والبشري بشكل عام، وربط ربطاً وثيقاً بين الإيمان الديني العميق والفلسفة العقلانية الكبرى.
وكان غوديل يقول ما معناه: الناس ينسون غالباً أن مؤسسي العالم الحديث لم يكونوا ملاحدة. فكوبرنيكوس كان مؤمناً بالله، وكذلك غاليليو، وإسحاق نيوتن. وبالتالي، فمن أين جاءت هذه الفكرة التي تقول إن كل العلماء كفار أو ملاحدة؟ هذا خطأ ما بعده خطأ. ولكن، وكما قال العالم الفرنسي الشهير باستور، فإن القليل من العلم يبعد عن الله، والكثير منه يعيد إليه! «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، كما يقول القرآن الكريم عن حق وصدق.
وأخيراً، نستنتج من كل ما تقدم ما يلي: المشكلة ليست في الإيمان، ولا في الدين، معاذ الله. المشكلة تكمن في التعصب الأعمى والدوغمائيات المتحجرة التي تقودنا مباشرة إلى تكفير الآخر، لمجرد أنه لا ينتمي إلى ديننا أو طائفتنا. وهذا يعني أن إيمان ما بعد التنوير يختلف راديكالياً عن إيمان ما قبل التنوير. أو قل إن إيمان الحداثة، أو ما بعد الحداثة، يختلف كلياً عن إيمان ما قبل الحداثة، أي إيمان القرون الوسطى. وهنا بالضبط تكمن مشكلة مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي لا تزال غاطسة كلياً تقريباً في ظلاميات القرون الوسطى والإيمان الداعشي، وهو إيمان تكفيري بالضرورة لأنه مفرغ من الثقافة العلمية والفلسفية، على عكس الإيمان المستنير السائد في مجتمعات الغرب المتقدمة. ولكن الإيمان التنويري العربي الإسلامي آت لا ريب فيه. وسوف يكون على مستوى عظمة الإسلام وتاريخه الطويل العريض.



علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
TT

علي بن تميم: لا بدّ من الريادة في التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي

جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024
جانب من معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2024

في حوار «الشرق الأوسط» مع الدكتور علي بن تميم، رئيس «مركز أبوظبي للغة العربية»، في هيئة الثقافة والسياحة في أبوظبي، الذي يتبع له مشروع «كلمة» للترجمة؛ أحد أكبر المشاريع الثقافية في العالم العربي، تحدّث عن التحديات التي تسوقها وسائل التواصل للهوية الثقافية للمجتمعات المحلية، لكنه دعا إلى الريادة في استخدام التقنيات الرقمية والذكاء الاصطناعي بوصفها سبيلاً للحفاظ على الهوية الثقافية وتعزيزها، وذلك عبر تغذية الفضاء الرقمي بالمنتجات الفكرية والأدبية الجادة والرصينة.

لاحظ الدكتور علي بن تميم، أن الوسائل الرقمية فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب، وهي تحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل. وهنا نص الحوار:

> كيف ترون التحديات التي تواجهها الهوية الثقافية، وسط طوفان الثقافات السريعة التي تفرضها العولمة؟

- بالتأكيد فإن الثقافة التجارية السريعة، ومخرجات العولمة، التي قد تشكل فرصاً لتعزيز الهوية المتفردة، لها تأثيرات كبيرة وتفرض تحديات بالغة على المجتمعات، خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من تشويه للغة العربية، والمفردات والتراكيب وغيرها، وما تنشره من محتوى مجهول المنشأ خصوصاً في مجالات الأدب والشعر والسرد، وهو ما بات يشكل تهديداً وجودياً لقطاع النشر من خلال إمكانية الوصول وتفضيلات الشباب لتلك الوسائل، وعدم التزام الوسائل الرقمية بحقوق الملكية الفكرية، لا بل بالتلاعب بالمحتوى واجتزائه وتشويهه، والأخطاء الجسيمة في حق اللغة والهوية الثقافية والاجتماعية التي تمارسها بعض المنصات.

الدكتور علي بن تميم (رئيس مركز أبوظبي للغة العربية)

> كيف رصدتم الأثر غير الإيجابي للوسائل الرقمية؟

- من الملاحظ أن تلك الوسائل فرضت تغييرات في اهتمامات الشباب ونظرتهم ومحاكمتهم لمختلف الشؤون التي يعبرون بها في حياتهم، واللجوء إلى المعلومات المبتورة والابتعاد عن القراءات الطويلة والنصوص الأدبية والمعرفية الشاملة وغيرها التي تحقق غنى معرفياً حقيقياً.

وتأتي تلك التحديات مدعومة بالفجوة في المحتوى الثقافي العربي الحقيقي على تلك الوسائل، ما يعزز ضعف التفاعل مع الموروث الثقافي، حيث تفتقر العديد من المبادرات الثقافية التي تركز على الترويج للأصالة بصورة تتفاعل مع الأجيال الجديدة، إلى الوسائل الحديثة والتفاعلية التي تجعلها جذابة للأجيال الشابة. ويضاف إلى ذلك تأثير اختلاف طبيعة الأعمال وأسواق العمل، التي يتم فيها تسليع الثقافة لغايات تجارية.

> لكن الإمارات – كما بقية دول الخليج – قطعت شوطاً كبيراً في تمكين التقنيات الرقمية... فهل يأتي ذلك على حساب الهوية الثقافية؟

- صحيح، ينبغي النظر إلى أن ريادة الدولة في المجالات الرقمية والذكاء الاصطناعي تشكل بحد ذاتها عامل دعم للهوية الثقافية، إضافة إلى تأثير البيئة الاجتماعية ومخزونها القوي من الثقافة وغنى هويتها، والدور الإيجابي للمعرفة الرقمية في تعزيز تنافسية الدولة وريادة الأعمال، ووجود كفاءات متعددة للاستفادة منها في تعزيز المحتوى الثقافي والهوية الثقافية، على دراية كاملة بأساليب ووسائل انتشار تلك المنصات ووصول المحتوى إلى الجمهور المستهدف، وإمكانية استغلال ذلك في خلق محتوى ثقافي جديد موازٍ للمحتوى المضلل يمتلك كفاءة الوصول، والقدرة على مخاطبة الشباب بلغتهم الجديدة والعصرية والسليمة، لمواجهة المحتوى المضلل، إن جاز التعبير.

> ما استراتيجيتكم في مواجهة مثل هذه التحديات؟

- تساهم استراتيجية مركز أبوظبي للغة العربية، في تعزيز الهوية الثقافية الإماراتية والحفاظ عليها وسط تأثيرات العولمة. وتشكل المهرجانات الشاملة مثل مهرجان العين للكتاب ومهرجان الظفرة للكتاب ومعرض أبوظبي الدولي للكتاب، والجوائز الرائدة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجائزة سرد الذهب، وغيرها، بما تتضمنه من مبادرات متكاملة ثقافية واجتماعية وفنية ورياضية ومسابقات تنافسية، واحدة من وسائل لتعزيز جاذبية تلك المهرجانات والجوائز للجمهور، وتحفيزهم على المشاركة بها، من خلال دمج الموروث الثقافي بالوسائل العصرية.

كما يقوم مركز أبوظبي للغة العربية من خلال الشراكات الدولية بتعزيز نشر الثقافة الإماراتية وإبراز دورها الحضاري العالمي، ما يمنح مزيداً من الفخر والاعتزاز للشباب بهويتهم الثقافية ويحفزهم على التعرف عليها بصورة أوسع.

الترجمة والأصالة

> مع تزايد الترجمة بين اللغات، كيف يمكن ضمان أن تكون الأعمال المترجمة ناقلاً للأصالة الثقافية من مصادرها وليست مجرد (انتقاءات سطحية) لا تمثّل التراث الثقافي للشعوب أو للمبدعين؟

- يدرك مشروع «كلمة» للترجمة بمركز أبوظبي للغة العربية أهمية الترجمة ودورها البارز في دعم الثقافة بعدّها وسيلة أساسية لتعزيز التقارب، والتسامح بين الشعوب، انسجاماً مع توجهات دولة الإمارات ودورها في تعزيز تبني ثقافة التسامح بين الحضارات والشعوب. وقد أطلق المركز أربعة مشاريع رئيسية للترجمة حققت قفزة نوعية في مستوى الترجمة العربية، واعتماديتها ومستوى الموثوقية التي تحظى بها في الأوساط الأكاديمية ومؤسسات النشر العالمية، ما جعله شريكاً رئيسياً لكبرى مؤسسات وشركات ومراكز الأبحاث المعنية بالترجمة على مستوى العالم، على الرغم من التحديات الواسعة التي تجاوزها مشروع كلمة للترجمة، بسبب الطبيعة المكلفة لنشاط الترجمة والنشر، والأخطاء المتوقعة، وتحديات توافر المترجمين من أصحاب الكفاءة الذين يمكنهم نقل المعرفة بسياقها وروحيتها الأدبية والعلمية نفسها، مع الحفاظ على عناصر السرد والتشويق.

وفي هذا الإطار اعتمد المركز جملة من المعايير التي ساهمت بفاعلية في ريادة مشاريع النشر الخاصة به، التي تشمل اختيار الكتب، والمترجمين بالاعتماد على لجنة من المحكمين المشهود بخبرتهم في الأوساط الثقافية والعلمية والأكاديمية العالمية. كما عزز كفاءة المترجمين، والقدرة على إيجاد أصحاب الاختصاصات من ذوي الكفاءات عبر التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في الدولة ومراكز الأبحاث العالمية، وتدريب مترجمين مواطنين بلغ عددهم اليوم نحو 20 مترجماً من أصحاب المهارات والمواهب في قطاع الترجمة، التي يحكمها الشغف والتطوير المستمر وحب القراءة، والقدرة على السرد.

> ماذا تحقق في هذا الصعيد؟

- ساهمت جهود المشروع في ترجمة أكثر من 1300 كتاب، وتوسيع اللغات لتشمل 24 لغة حتى اليوم، بالإضافة إلى الترجمة عن اللغتين التشيكية والسلوفاكية. كما شملت قائمة المترجمين أكثر من 800 مترجم، إضافة إلى تعاون نحو 300 آخرين مع مشاريع المركز، وانضمام 20 مواطناً من جيل الشباب والخريجين إلى القائمة، نحرص على توفير كل سبل الدعم والتحفيز لهم، لتشجيعهم على خوض غمار تجربة الترجمة تحت إشراف مترجمين محترفين.

وقد وفر تعدّد المشاريع التي يحتضنها المركز وخصوصيتها، نماذج خبرة متعددة وشاملة، ساهمت بشكل فعّال في تعزيز الكفاءة في قطاع الترجمة وصولاً إلى تحقيق السمعة الرائدة التي يحظى بها المركز في الأوساط العالمية حالياً، ومنها «مشروع إصدارات» الذي يعنى بالكتب التراثية والأدبية، وكتب الأطفال والرحالة، و«مشروع كلمة» الذي يمثل نقلة نوعية في تاريخ الترجمة العربية من خلال ترجمة نحو 100 كتاب سنوياً، منذ انطلاقته، من أرفع الإنتاجات المعرفية العالمية، إضافة إلى إطلاق «مشروع قلم»، وجميعها مبادرات رائدة تحظى بالاعتمادية والموثوقية العالمية، وتتبنى أرفع معايير حقوق النشر.

> كيف يوازن مشروع «كلمة» بين الحفاظ على التراث الثقافي ودعم الإبداع الحديث، هل ثمّة تعارض بينهما؟

- الموروث الثقافي والتاريخي يشكل ذاكرة وهوية المجتمعات، وهو نتاج عقول وجهود بشرية مستمرة، وتواصلٍ إنساني أسفر عن إرث فكري وإبداعي توارثته الأجيال، وهو مصدر ثري ومهم للإبداع في الفن والأدب.

ومن جهته، حرص مشروع كلمة على الاهتمام بترجمة كتب التراث العالمي، فقدم بادرة لترجمة سلسلة ثقافات الشعوب في 72 كتاباً تتضمن ترجمة لمئات الحكايات والقصص من التراث الشعبي والفلكلوري العالمي بهدف تعزيز العمق الثقافي الجامع بين مختلف الأعراق والجنسيات والثقافات.

وفي الإبداع الحديث ترجم العشرات من الروايات لكتاب عالميين، بالإضافة إلى ترجمة الشعر الأميركي الحديث، وكتب النقد والدراسات الأدبي والشعر الغربي.

ويسعى مركز أبوظبي للغة العربية عبر هذا المشروع إلى دمج نماذج الإبداع الحديث بالتراث الثقافي التي لا تشكّل أي تعارض في مضمونها، بل تحقّق تكاملية، وشمولية لتطوير الإبداع الثقافي وضمان مواكبته للتغيرات العصرية لتعزيز وصوله للمتلقين من دون إهمال العلوم ونشر جوانب المعرفة.

المعرفة والذكاء الاصطناعي

> هل نحن في سباق مع التقنيات الذكية للوصول إلى المعرفة مهما كلّف الثمن؟ كيف يمكن لحركة الترجمة أن تستفيد منها؟

- تشكل التقنيات الذكية بعداً أساسياً لانتشار المحتوى العربي الرائد والمتوازن في العصر الحالي، غير أنها لا تدخل ضمن اسم السباق وليست هدفاً في حد ذاتها، بل يتم استثمار إمكاناتها لتعزيز تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثقافية ونشر اللغة العربية والثقافة العربية، ومواجهة التحديات التي يفرضها تجاهلها.

وتبرز أهمية استثمار الوسائل الذكية في تحديد وترسيخ احترام الملكية الفكرية، وإيجاد وسائل إلكترونية رقمية للحد من التعديات عليها.

وبالتأكيد، فإن استثمار المخرجات الذكية من شأنه تعزيز حركة الترجمة وتنوعها، وخلق تنافسية جديدة تعزز من ريادة القطاع.

رواد الثقافة قادرون على كشف «المسوخ» التي ينتجها الذكاء الاصطناعي

علي بن تميم

> هل هناك مخاوف من «مسوخ» ثقافية ينتجها الذكاء الاصطناعي تؤدي لمزيد من تشويه الوعي؟

- يستطيع رواد الثقافة التمييز بسهولة بين المنتج الثقافي الإبداعي والمهجن أو الدخيل، غير أن التحديات التي يفرضها الواقع الرقمي يتمثل في تشويه الإبداع الثقافي بين أفراد المجتمع، وفي رأيي فإن الوسائل الذكية أتاحت لبعض المدعين مجالات للظهور لكنها لا تزيد على فترة محدودة. فالثقافة والإبداع مسألتان تراكميتان وموهبتان لا يمكن اقتحامهما بسهولة، ونسعى بحرص إلى الاستفادة من البنية الرقمية الرائدة للدولة في إطلاق مبادرات ذكية وتعزيز استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المحتوى الثقافي الحقيقي الذي يمثل هويتنا وحضارتنا.

> كيف يمكن لحركة الترجمة أن تتجنب التحيّز الثقافي وتقدم نصوصاً دقيقة وموضوعية؟

- الترجمة رافد مهم من روافد الثقافة الإنسانية، ومثل أي مهنة أخرى، تخضع مهنة الترجمة لمجموعة من الأخلاقيات التي ينبغي الالتزام بها. والكفاءة اللغوية والقدرة على ترجمة النص ليستا المعيار الوحيد في عملية الترجمة من لغة إلى لغة، فالابتعاد عن التحيز الثقافي والفكري واحترام الاختلافات الفكرية والثقافية، وفهم السياقات الثقافية المختلفة للغة المصدر وللغة المترجم إليها من الأمور الحيوية والمهمة في تقديم ترجمات رصينة وخالية من التشوهات. وبهذا يتحقق الهدف الأسمى للترجمة وهو تقريب الشقة بين الثقافات والحضارات.ويتم اختيار الإصدارات الخاصة بالترجمة بناء على أهميتها العالمية وما تقدمه من قيمة مضافة للقراء توسع مداركهم، وتعزز رؤيتهم للمستقبل، من خلال لجنة متنوعة ومتخصصة تعزز الموضوعية وسياقات الحوكمة واحترام حقوق الملكية الفكرية وغيرها من معايير وقيم عليا.