مذابح ثقافية عراقية تلد أخرى

مذابح ثقافية عراقية تلد أخرى
TT

مذابح ثقافية عراقية تلد أخرى

مذابح ثقافية عراقية تلد أخرى

كلما سقطت قامة ثقافية عراقية كبيرة في المنفى، تستيقظ الذاكرة، مصحوبة بغُصّة كبرى تخرج من بين الحشايا على وطن لا يجيد سوى طرد أبنائه، حتى إنه يتفنن في ذلك. لم يتوقف النزف العراقي؛ لا في ذلك العهد الذي سماه العراقيون «العهد البائد»، أو عراق نوري السعيد، والذي رمى رفعة الجادرجي؛ فيلسوف العمارة العراقية، الذي رحل قبل يومين، في زنزانة مشابهة للزنزانة التي رماه فيها صدام حسين، بعد ذلك بأعوام طويلة.
يكتب رفعة الجادرجي في كتابه «بين ظلمتين»، عن زنزانة صدام حسين:
«لا تَعْدُو سعة زنزانة (26) أكثر من متر وسبعين سنتيمتراً عرضاً، ومترين طولاً. نشعر بثقل الهواء بسبب حَشْر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق. لا مجال لحركة الهواء النقي فيها، فيدور الهواء وكأننا في داخل فنجان، لأن الزنزانة مغلقة بباب حديدي لا منفذ للهواء أسفله، ولا فتحة في أعلاه، سوى شقّ صغير لمراقبتنا من قبل الحراس...»...
ويحدثنا أيضاً الجادرجي كيف فوجئ السجناء مرة بصوت طائرة هليكوبتر تحوم فوق سقف السجن. كان صدام حسين يطلّ منها. لم يَدُرْ في رأس «القائد» قطّ أن هؤلاء الرجال العزل، المقيدين بالسلاسل، الذين يتنفسون هواءً فاسداً، كانوا يسخرون منه.
لكن تبقى سجون نوري السعيد أرحم بكثير من السجون اللاحقة في عراق صدام، وسجون العراق الجديد:
يكتب عن زنزانته في الحكم الملكي:
«كانت سعة الزنزانة في معسكر الرشيد مقاربة لتلك الزنزانة من حيث الأبعاد، ولكن كنتُ وحدي. كانت مضيئة نسبياً، فلم يكن القصد بقاء المعتقل في العتمة، كما سمح لي بالقراءة، وقد جلب لي والدي بناء على طلبي كتاب (ألف ليلة وليلة)، أقضي وقتي في قراءته».
في انقلاب البعثيين الأول؛ «1963» قلما نجا مثقف؛ حقيقة وليس مجازاً، من السجن والتعذيب. والمحظوظون نجحوا في الهروب إلى المنفى. وفي نهاية السبعينات، وعلى يد «البعث» نفسه، حصلت المذبحة الثقافية الكبرى: 500 مثقف عراقي حسب إحصاءات مؤكدة قذفوا في المنفى. ومن سجنوا في العراق، أو ماتوا تحت التعذيب، ومن اختفت جثثهم، لا يقلّون عن هذا العدد.
وفي عهد «العراق الجديد»، نحر أمام أعيننا كامل شياع وهادي المهدي وعلاء مشذوب.
لم يعودوا بحاجة للسجون. كواتم الصوت موجودة. المذبحة العراقية تجدد نفسها دائماً، وبأشكال مبتكرة.
قارنّا مرة ما حصل للمثقفين العراقيين بما حدث مع المثقفين الألمان أثناء الفترة النازية. لكنها كانت فترة استثنائية في التاريخ الألماني، انتهت بعد أربع سنوات، وعادت أسماء توماس مان، وهاينريش مان، وإريش ماريا ريمارك، وإرنست غليسر، لتكرّم أيّما تكريم على المستويين الرسمي والأكاديمي. المذبحة العراقية لم تنتهِ بعد. لا تزال مفتوحة الشهية.
ولا تزال مقابر المنفى مفتوحة للمثقفين العراقيين، الذين ضاق بهم الوطن، واحتضنهم العالم، ولن يكون رفعة الجادرجي آخرهم.
وهي مقابر واسعة جداً، بل إنها منتشرة في كل عواصم الأرض؛ تجدها في القاهرة، وعمان، وبرلين، واستوكهولم، وموسكو، ولندن، يرقد فيها من خلّدوا العراق؛ روايةً وشعراً وعمارةً ورسماً ومسرحاً وفكراً.
لكن لا تنتظروا يا أجمل الأموات أن تقام لكم التماثيل هناك... في العراق البعيد الذي لا يزال عصياً. لقد حلّت محلها تماثيل قاسم سليماني.



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.