كير ستارمر... المحامي الاشتراكي أمام تحدي إعادة {العمّال} إلى الحكم

بعد سنوات ضائعة في تيه الحياة السياسية البريطانية

كير ستارمر... المحامي الاشتراكي أمام تحدي إعادة {العمّال} إلى الحكم
TT

كير ستارمر... المحامي الاشتراكي أمام تحدي إعادة {العمّال} إلى الحكم

كير ستارمر... المحامي الاشتراكي أمام تحدي إعادة {العمّال} إلى الحكم

اختار حزب العمال البريطاني المعارض السير كير ستارمر، يوم السبت الماضي، زعيماً جديداً له حلفاً لزعيمه السابق جيريمي كوربن. وكان كوربن قد شغل المنصب منذ سبتمبر (أيلول) 2015، وقاد اتجاه الحزب يساراً وسط انقسامات داخلية تفجرت بين التيار الحركي اليساري الراديكالي المدعوم من العديد من التنظيمات المحلية الراديكالية وبعض النقابات العمالية (بقيادة كوربن) من جهة، والتيار المعتدل الاشتراكي الديمقراطي الذي قاد الحزب إبان توليه السلطة تحت رئاستي توني بلير وغوردون براون للحكومة بين 1997 و2010.
ولقد كسب ستارمر، وهو محامٍ ومرجع قانوني مرموق، الذي دعمه المعتدلون، انتخابات الزعامة ضد مرشحة اليساريين الراديكاليين ريبيكا لونغ - بايلي، والمرشحة الثالثة التي تقف بين الجانبين، ليزا ناندي.

يقال إن الأزمات تصنع القادة، أو تحطّمهم. ولا أزمة أكبر في بريطانيا اليوم من جائحة «كورونا» أو (كوفيد - 19)، التي شلّت البلاد وأصابت عشرات الآلاف، وزجّت برئيس الوزراء في غرفة العناية المركزة إلى جانب الآلاف من مواطنيه.
في هذه الظروف غير المسبوقة في زمن السلم، وجد السير كير ستارمر نفسه يقود أهم حزب في المعارضة البريطانية، بعد أيام قليلة من انتخابه زعيماً لحزب العمال.
لقد كان في طليعة أولويات ستارمر المُعلنة إعادة توحيد صفوف الحزب بعد هزيمة فادحة أمام محافظي بوريس جونسون، ومكافحة ظاهرة معاداة السامية في صفوف حزبه، فضلاً عن الكفاح للحفاظ على أقرب علاقات ممكنة مع الاتحاد الأوروبي بعد انتهاء فترة «بريكست» الانتقالية. لكن ما لم يكن يتوقّعه ستارمر، هو أن تُختبر إمكانياته القيادية في نفس أسبوع انتخابه، وأن تتغيّر أولوياته بشكل جذري، لتُختصر في كلمة واحدة «كورونا».

محامٍ... برتبة «فارس»

وُلد كير رودني ستارمر قبل 57 سنة في حي ساذرك بالعاصمة البريطانية لندن للزوجين جوزيفين ورودني ستارمر، الداعمين لحزب العمال. وسُمّي كير تيمّناً بالسياسي الاشتراكي البارز ومؤسس حزب العمال كير هاردي. في المدرسة، تلقى ستارمر دروساً على عزف آلة الكمان مع نورمان سميث، عازف الباس السابق ضمن فرقة «هاوسمارتنز» الموسيقية. ومما يُعرف عنه أنه من أنصار نادي آرسنال اللندني لكرة القدم، على غرار سلفه جيريمي كوربن. وهو لا يزال يلعب كرة القدم كل أسبوع.
إبان سنواته الدراسية المتوسطة والثانوية، انضمّ ستارمر إلى «اشتراكيي إيست ساري الصغار»، قبل أن يلتحق بجامعة ليدز التي تخرج فيها حاملاً إجازة في الحقوق. ثم تابع دراسته العليا في القانون وحصل على شهادة في الدراسات القانونية العليا المعمّقة في جامعة أوكسفورد (كلية سانت إدموند هول).
عمل ستارمر محامياً في قضايا حقوق الإنسان، ودافع عن النقابات والناشطين. كما شارك في القضية المعروفة بـ«ماك ليبل» التي رفعتها سلسلة مطاعم «ماكدونالدز» ضد هيلين ستيل وديفيد موريس لتوزيعهما منشورات تنتقد ممارسات الشركة. وفي التسجيل المصوّر المرتبط بحملته لزعامة الحزب، قال ستارمر: «أمضيت عمري وأنا أدافع عن العدالة وعن المغلوب على أمرهم في وجه أصحاب النفوذ».

التقدير... والبرلمان

وفي 2003، بدأ ستارمر انخراطه في المؤسسات الرسمية عبر وظيفة تضمن امتثال الشرطة في آيرلندا الشمالية بشكل كامل لقوانين حقوق الإنسان. وبعد خمس سنوات، بات مدير النيابة العامة لإنجلترا وويلز. وأشرف بين عامي 2008 و2013 على ملاحقات قضائية لنواب استغلوا نظام النفقات وصحافيين اتُّهموا بعمليات قرصنة للهواتف وشباب على صلة بأعمال شغب 2011، وتقديراً لهذا الأداء ومكافأة له على خدماته للبلاد، منحته الملكة إليزابيث الثانية لقب «سير» (فارس). ثم في عام 2015، انتُخب نائباً في البرلمان (مجلس العموم) عن حزب العمال ليمثّل دائرة هولبورن وسانت بانكراس الانتخابية في وسط لندن.

كفاءة... لا شعبوية

«الرجل يمثل قطيعة مع الماضي، مع أنه لا يوجد شعار بارز أو سياسة خاصة يمكن فك شيفرتها لفهم مشروع ستارمر. وهذا يجعل من الصعب تحديد ما يمثله السير كير سياسياً. لكن ما هو واضح أنه ليس شعبوياً». بهذه الكلمات رحّبت صحيفة «الغارديان» بانتخاب ستارمر على رأس حزب العمال الذي تميل إليه. وأضافت الصحيفة في افتتاحية نشرتها الاثنين الفائت: «إنه يقدّم العمل الدؤوب والخبرة، لا توجيه أصابع الاتهام»، مشيدةً بتعييناته لـ«حكومة الظل»، بالقول «إن رمزية وظائف حزب العمال الثلاث الكبرى، التي سيشغلها سياسيون من الشمال وويلز واسكوتلندا، تبعث برسالة قوية مفادها أن الحزب يهدف إلى تمثيل البلاد بأكملها». أيضاً رحّبت الصحيفة بعودة إد ميليباند، الزعيم الأسبق للحزب، إلى الخط الأمامي عبر منصب وزير الظل للتجارة والطاقة والصناعة.
واقع الحال، أنه كان لا بد من التغيير بعد الهزيمة المريرة الأخيرة التي مُني بها حزب العمال في ديسمبر (كانون الأول) 2019. كذلك تولّدت قناعة من أن رهانات كوربن لم تؤتِ أُكُلها. وبالفعل، انتُخب ستارمر، المعتدل والمؤيد لأوروبا، زعيماً يشكل عملياً نقلة كبيرة عن الراديكاليين والمؤيدين لـ«بريكست».
لقد فاز هذا المحامي اللامع الذي كان كُلّف منذ ثلاث سنوات بإدارة ملف «بريكست» في حزبه، بنسبة 56,2% من أصوات أعضاء الحزب على منافستيه ريبيكا لونغ - بايلي وليزا ناندي. وفي كلمة متلفزة بعد انتخابه، وعد ستارمر، على الفور، بتجاوز الانقسامات التي يعانيها الحزب والمتمحورة حول الخط الذي يجب أن يتبعه بين التشدد أو الانفتاح، لكن أيضاً الخلاف بين المشككين بالمؤسسات الأوروبية والمؤيدين للاتحاد الأوروبي في قضية «بريكست»، وكذلك بشأن إدارة مسألة معاداة السامية داخل الحزب التي يرى البعض أن كوربن تهاون في معالجتها.
وحقاً، كان لافتاً أن ستارمر عبّر مباشرة بعد إعلان انتخابه عن «اعتذاراته» عن معاداة السامية داخل أكبر حزب معارض في بريطانيا. وفي كلمة بثها، قال: «باسم حزب العمال أعتذر»، متعهداً «بنزع سم» معاداة السامية. وانهالت التعليقات الإيجابية على ستارمر، الذي تزامنت اعتذاراته مع احتفالات عيد الفصح اليهودي. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الزعيم الجديد متزوّج من يهودية ويتربى ولداهما كيهود.

حملة انتخابات الزعامة

من جهة أخرى، لم تكن انتخابات العمال اعتيادية هذه المرة، إذ لم يعلن اسم الفائز خلال مؤتمر استثنائي كما كان مقرّراً، بل عبر موقع الإنترنت الخاص بالحزب احتراماً لإجراءات مكافحة وباء «كوفيد - 19»، في حين سجل كل من المرشحين الثلاثة خطابات معدة مسبقاً تُبّث في حال الفوز. وفي خطابه تعهّد ستارمر بإنهاض الحزب وقيادته مجدداً نحو تولي السلطة، بعد الهزيمة المدوّية في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أمام المحافظين بقيادة رئيس الوزراء بوريس جونسون، وشهدت خصوصاً خسارة حزب العمال معاقل تقليدية له. تلك كانت ثاني هزيمة انتخابية لجيريمي كوربن منذ انتخابه رئيساً للعمال في عام 2015 بفضل دعم قوي من حركيي قاعدة الحزب، وكانت الأسوأ للعمال منذ 1935.
ستارمر، من جانبه، قال بصراحة: «أنا مدرك لحجم المهمة... مهمتنا هي إعادة الثقة في حزبنا. وسأقود هذا الحزب الكبير إلى حقبة جديدة بشكل تخوّلنا حين يكون الوقت مناسباً أن نخدم بلادنا مجدداً من خلال حكومة». وللعلم، من المتوقع أن تجرى الانتخابات التشريعية المقبلة عام 2024 لكن مهمة توحيد الحزب تمثّل أصعب تحدٍّ أمام ستارمر بسبب الانقسامات العديدة والعميقة التي أنهكته خلال السنوات الماضية.

تحدي وباء «كورونا»

لكن في الوقت الحالي، وكحال معظم ساسة العالم، تشكّل جائحة «كوفيد - 19» (كورونا) التحدي الأكبر أمام الزعيم الجديد لحزب العمال. وهنا نشير إلى أن ستارمر كان من أولى الشخصيات السياسية التي تمنّت لرئيس الوزراء جونسون تعافياً سريعاً وكاملاً، بعد إدخاله العناية المركزة في اليوم العاشر من إصابته بـ«كورونا».
كذلك كان ستارمر داعماً لإجراءات الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي التي فرضتها حكومة جونسون، في مسعى لإبطاء تفشي الوباء... وإن كان لم يتوانَ عن توجيه انتقادات قاسية لإدارة الأزمة، خصوصاً بعد تأخر هذه الإجراءات. ونقلت صحيفة «صنداي تايمز» (المحافظة) عن زعيم حزب العمال البريطاني الجديد قوله إن الحكومة البريطانية ارتكبت «أخطاء خطيرة» في التعامل مع تفشي فيروس الوباء، ولم تقدم معدات حماية كافية للعاملين الذين يتعاملون بشكل مباشر مع الجمهور، والتباطؤ في إجراء الفحوص.
ومما قاله ستارمر إن الوزراء «استغرقوا وقتاً طويلاً لشرح سبب تأخرهم في إجراء الفحوص»، ودعا إلى «برنامج لقاح وطني» ضد الفيروس. وأضاف أنه بوصفه زعيماً لحزب العمال، سيقوم بواجبه لعرض حلول. وطبقاً لدراسة، صادرة عن كلية الأطباء الملكية يوم الأحد الماضي، لا يتوجه نحو 20% من موظفي الصحة في بريطانيا، إلى عملهم نظراً لأنهم يخشون من احتمال إصابة زميل أو هم أنفسهم بالفيروس. وقال نحو ربع الأشخاص الذين استُطلعت آراؤهم -وفق وكالة الأنباء الألمانية- إنهم لا يحصلون على معدات حماية كافية لتنفيذ عملهم.
في هذا السياق، فرضت حكومة جونسون، بدعم من المعارضة، عزلاً عاماً للسكان في إطار محاولاتها احتواء تفشي الوباء الذي أودى بحياة أكثر من 7 آلاف شخص في بريطانيا. وأصدرت الحكومة المحافظة كذلك تدابير دعم اقتصادي غير مسبوقة للموظفين والشركات الذين تضرّروا بشكل كبير من الإغلاق.
ويسعى ستارمر الآن إلى لعب دور أكبر في الاستجابة الوطنية لهذه الجائحة، لا سيما أنه حزبه كان غائباً عن الساحة ولم يشارك في بلورة القرارات الأخيرة. وعلى غرار رؤساء الأحزاب الأخرى في المعارضة، تلقى ستارمر دعوة من رئيس الوزراء للمشاركة خلال الأسبوع المقبل في استعراض الوضع المتعلق بانتشار الوباء.
وبعدما كتب جونسون السبت الماضي، على «تويتر»: «بصفتنا رؤساء أحزاب، علينا واجب العمل معاً في فترة الطوارئ الوطنية هذه»، ردّ ستارمر بإيجابية على الدعوة، خلال مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء الذي هنّأه بفوزه. وتعهد بالتعاون «بشكل بنّاء» مع الحكومة «بما فيه المصلحة الوطنية»، قائلاً إنه لن يتوانى عن الإشارة إلى ضعف السلطة في الحالة المعاكسة.

«متمرد» بارز

على صعيد آخر، برز نجم كير ستارمر خلال السنوات الماضية، وصار حديث الإعلام عندما انضمّ في عام 2016، بعد التصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، إلى النواب العماليين «المتمردين» على ما رأوه غياب دور كوربن القيادي خلال الحملات التي سبقت استفتاء «بريكست». وانضم ستارمر في وقت لاحق من العام ذاته إلى كبار شخصيات الحزب كمتحدّث باسم العمال بشأن «بريكست»، وظل في هذا الموقع حتى الأسبوع الماضي. كما برز من خلال انتقاداته الدقيقة والذكية لنهج المحافظين خلال جلسات النقاش في البرلمان التي كثيراً ما طغى عليها التوتر. ثم إنه يُعزى إليه كذلك الدفع بحزب العمال لتبني سياسة داعية لاستفتاء ثانٍ، وهي خطوة رحّب بها الكثير من أنصار الاتحاد الأوروبي. لكنّ آخرين رأوا أن هذه السياسة همّشت ناخبي الحزب السابقين في شمال إنجلترا وويلز المدافعين المؤيدين للخروح من الاتحاد الأوروبي.

إعادة توحيد الحزب

الراصدون يرون اليوم أن عودة العمال للعب دور معارضة فعال في بريطانيا مرهون بقدرة ستارمر على توحيد صفوفهم، وبالذات، بعدما خسروا مقاعد كانت مضمونة لهم فيما كانت معاقل عمالية تقليدية. ويُذكر أنه على مدى السنوات الماضية، شهد العماليون انقسامات حيال أجندة كوربن اليسارية وكيفية التعامل مع «بريكست» والخلاف بشأن أسلوب التعاطي مع تهمة وجود نزعات معادية للسامية داخل صفوف الحزب. لهذا تعهد ستارمر بتوحيد صفوف الحزب، وإعادته إلى السكة التي من شأنها أن توصله إلى السلطة. وسعى أيضاً لكسب أنصار كوربن عبر التشديد على سجلّه كمدافع عن حقوق الإنسان، وتأكيد «اشتراكيته» والدفاع عن بيان حملة انتخابات ديسمبر (كانون الأول) الذي تعهد ببرنامج استثمارات ضخم وعمليات تأميم.
وفي المقابل، حظي بدعم الوسطيين في الحزب الذين يرون أنه أكثر براغماتية من سلفه ومواقفه مدروسة بشكل أفضل. وقال ستارمر لـ«الغارديان» عبر بث صوتي هذا الأسبوع: «يمكننا قول ما نريده بشأن الكيفية التي نرغب من خلالها تغيير العالم... لكننا إذا خسرنا الانتخابات، فلن تكون لدينا فرصة للقيام بذلك».
في هذه الأثناء، يرفض ستارمر الإفصاح عن السياسات الحالية التي ينوي إبقاءها على حالها، خصوصاً في الوقت الحالي في أوج أزمة تفشي «كوفيد - 19»، واكتفى بتأكيد أنه «ستكون هناك حاجة للقيام بأمور جذرية».


مقالات ذات صلة

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

حصاد الأسبوع جانب من مدينة قازان (أيستوك فوتو)

قمة «بريكس» تكسر «عزلة بوتين»... وتتحدّى ضغوط الغرب

استكملت موسكو تحضيراتها لاستقبال «الحدث الأكبر على صعيد السياسة الخارجية»، وفقاً لوصف الكرملين. إنها قمة مجموعة «بريكس» التي أعدت لها موسكو طويلاً، ورتّبت بدقة تفاصيلها وفعالياتها، بصفتها رئيساً للمجموعة هذا العام. وستستضيف القمة مدينة قازان (عاصمة تتارستان) الواقعة على نهر الفولغا، وسيشارك فيها عشرات الزعماء والمسؤولين. المشهد أراد منه الكرملين أن يُظهر للعالم فشل سياسة عزل الرئيس فلاديمير بوتين الذي سيكون أمامه يومان طويلان جداً في الفترة بين 22 و24 أكتوبر (تشرين الأول)؛ إذ يحفل جدول أعماله بلقاءات على أعلى مستوى مع عشرين زعيماً مشاركاً في أعمال القمة.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وخلفه أعلام الدول الأعضاء في مجموعو "بريكس" (آ فب/غيتي)

«بريكس»... عملاق اقتصادي يواجه تحدّيات كبرى

> مما لا شك فيه أن مجموعة «بريكس»، التي تعقد قمتها هذا العام للمرة السادسة عشرة بصيغتها الموسّعة، تحوّلت إلى كتلة اقتصادية عملاقة، وبالأخص مع انضمام خمسة بلدان.

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع بارو

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

عُيّن أخيراً جان نويل بارو، البالغ من العمر 41 سنة والمنتمي إلى تيار الوسط اليميني، وزيراً للخارجية الفرنسية في الحكومة الجديدة برئاسة ميشال بارنييه. ويتولى بارو المنصب خلفاً لستيفان سيجورنيه الذي لم يمكث فيه سوى ثمانية أشهر. بارو هو رابع رئيس للدبلوماسية الفرنسية منذ انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون لأول مرة، في عام 2017، والثالث منذ بداية ولايته الثانية في عام 2022؛ وذلك أن الأزمة السياسية التي أثارها حلّ «الجمعية الوطنية (مجلس النواب في البرلمان)» خلطت الأوراق وأنهت مهام أعضاء الحكومة السابقة بطريقة عاجلة. ومن ناحية ثانية، جاء استقبال خبر تعيين الوزير الجديد متبايناً، ففي حين عَدَّ البعض أن وزير الخارجية الجديد «كُوفئ» على ولائه للرئيس ماكرون، واستفاد من تاريخ والده السياسي البارز، رأى آخرون أنه سياسي كفء على دراية تامّة بالملفات المهمّة، وخاصّة الأوروبية منها، إضافة إلى علاقته الجيّدة مع رئيس الحكومة بارنييه.

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع سيباستيان ليكورنو

حكومة بارنييه: تشكيلة وزارية ذات توجه يميني

بعد أكثر من أسبوعين من المباحثات المُضنية، التي قادها رئيس الوزراء ميشال بارنييه، تشكلّت الحكومة الفرنسية الجديدة، المكوّنة من 41 وزيراً، بعضهم لا يتمتع بخبرة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
حصاد الأسبوع هربرت كيكل... أحدث زعماء اليمين المتطرف الأوروبيين (رويترز)

النمسا تسعى للتعايش مع يمين متطرف حاضر... بأقل قدر ممكن من الاستفزاز

انضمت النمسا إلى قافلة دول أوروبية سبقتها بالتصويت لحزب يميني متطرف حقق فوزاً معنوياً مهماً في الانتخابات العامة.

راغدة بهنام (برلين)

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

بارو
بارو
TT

جان نويل بارو: اقتصادي من عائلة سياسية مرموقة... على رأس الدبلوماسية الفرنسية

بارو
بارو

فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية».

وُلد جان نويل بارو يوم 13 مايو (أيار) 1983 في العاصمة الفرنسية باريس، وهو يتحدّر من عائلة سياسية معروفة، إذ كان والده جاك بارو، الذي تُوفي عام 2014 سياسياً بارزاً من كتلة الوسط المسيحي، وكان قد شغل عدة حقائب وزارية، إضافة لمنصب نائب رئيس اللجنة الأوروبية وعضو «المجلس الدستوري»، وهو منصب مرموق لا يشغله سوى الساسة المحنَّكين في فرنسا.

ثم إن جدّه نويل بارو كان مناضلاً في الجيش السّري، ومقاوماً لـ«نظام فيشي» المتعاون مع النازية إبّان الحرب العالمية الثانية، وكان مكلفاً بتهريب الأدوية إلى أفراد المقاومة الشعبية بحكم عمله صيدلياً. وبعد انتهاء الحرب شغل منصب نائب في البرلمان، وعمدة لمدينة إيسنجو الصغيرة (بجنوب شرقي فرنسا).

جذور عائلية سياسية

الجذور السياسية لعائلة بارو ضاربة إذن بقوة في منطقة الأوت لوار، بجنوب شرقي فرنسا. والواقع أن التمثيل النيابي للمنطقة - القريبة من مدينة ليون - ظل داخل هذه العائلة من عام 1945 حتى عام 2004 دون انقطاع، منتقلاً من الجَد إلى الأب، قبل أن يلحق بهما الحفيد جان نويل (41 سنة). وهذا الحفيد، الذي بات، اليوم، وزيرخارجية فرنسا، فاز بأول مقعد نيابي له عام 2017. ثم إن جان نويل لم يرِث من والده وجَدّه المنصب فحسب، بل ورث منهما أيضاً القناعات السياسية والالتزام بتيار يمين الوسط. فعائلته محسوبة على خط يمين الوسط المعتدل أباً عن جَدّ، فالجدّ نويل كان رئيساً لحزب الوسط الديمقراطي لسنوات، والوالد جاك كان السكرتير العام لكتلة الوسط (أو دي إف)، أما ابنه جان نويل بارو فعضو في «الحركة الديمقراطية (مودام)»، التي تمثل، اليوم، تيار الوسط في فرنسا، وكان ناطقاً وطنياً باسمها (في 2018)، ثم أميناً عاماً (بين 2018 و2022)، قبل أن يغدو نائباً لرئيس هذه الكتلة السياسي البارز فرنسوا بايرو، وأحد أقرب المقرّبين منه (منذ يوليو/ تموز 2022).

خبير في الاقتصاد وإدارة الأعمال

تلقّى جان نويل بارو تعليمه العالي في مجال الاقتصاد وإدارة الأعمال، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه من المعهد العالي للتجارة «آش أو سيه»، وعلى شهادة الماجستير من معهد باريس للعلوم السياسية «سيانس بو» المرموق. ولقد عمل زميلاً بحثياً في مدرسة سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «إم آي تي»، إحدى أرقى جامعات العالم والولايات المتحدة، بين 2013 و2017.

وفي 2018 عُيّن وزير الخارجية الجديد، في فرنسا، أستاذاً محاضراً بالمعهد العالي للتجارة «آش أو سيه». وتناولت أبحاثه مجال الشؤون المالية، وشبكات الإنتاج، وتقييم السياسات العامّة لدعم المنشآت وتمويل الشركات، وسياسات دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة. ونُشرت أعماله في مجلات دولية رائدة مثل المجلة الفصلية للاقتصاد، ومجلة الاقتصاد المالي، وعلوم الإدارة.

إنجازاته في الحكومة

أما سياسياً، فقد شغل بارو منصب الوزير المنتدب للشؤون الأوروبية بحكومة غبريال أتال بين فبراير (شباط) وسبتمبر (أيلول) 2024. وقبلها كان الوزير المنتدب للشؤون الرقمية في حكومة إليزابيث بورن من 2022 إلى 2024، وكانت له عدة إنجازات في هذا المجال أشادت بها وسائل الإعلام، إذ كتبت صحيفة «شالنج» الفرنسية، في موضوع تحت عنوان «الصعود الخارق لجان نويل بارو»، ما يلي: «في مجال الرقمنة، كانت حماية الطفولة في الشبكة العنكبوتية من أهم اهتمامات السيد بارو، حيث اقترح حجب المواقع الإباحية ومكافحة ظاهرة التنمّر الإلكتروني. كذلك بذل مجهوداً كبيراً للتنبيه إلى خطر التدخل الأجنبي بغرض التأثير، وبالأخص التدخل الروسي في مواقع التواصل إبّان الانتخابات الأوروبية الأخيرة».

وشرحت الصحيفة الفرنسية كيف أن الوزير كان في غاية الجرأة والشجاعة، واستطاع الوقوف في وجه عمالقة التواصل الاجتماعي حين هدّد بحظر منصّة «إكس (تويتر سابقاً)»، ما لم تحترم قواعد الاعتدال المعتمَدة في دول المجموعة الأوروبية. وعقب الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها فرنسا عام 2023 ضد غلاء المعيشة، أقدم بارو على إجراء استثنائي تمثَّل بحظر كل المحتويات التي تُحرّض على العنف في منصّتي «تيك توك» و«إكس».

المشاركة السياسية

على صعيد آخر، بدأت المشاركة الفعلية لجان نويل بارو في المجال السياسي عام 2015، حين انتُخب مستشاراً جهوياً (عضو المجلس المحلي) عن محافظة إيسنجو، وهو المنصب الذي شغله جدّه، ثم والده لسنوات قبل وفاته بسكتة قلبية عام 2014. وعلى الأثر، قرّر الانخراط في «الحركة الديمقراطية» إلى جانب إيمانويل ماكرون، وبالفعل انتُخب نائباً برلمانياً عن الدائرة الثانية في محافظة الإيفلين الباريسية (عاصمتها فرساي) من 2017 إلى 2022، حيث شغل فيها منصب نائب رئيس اللجنة المالية، وكان مسؤولاً عن تقديم تقارير الهجرة والميزانية واللجوء. وفي 4 يناير (كانون الثاني) 2021، كلّفه رئيس الوزراء السابق، جان كاستيكس، بمهمة لمدة 6 أشهر للعمل مع برونو لومير، وزير الاقتصاد والمالية حينذاك، لمساعدة المناطق على الخروج من الأزمة والتعافي الاقتصادي. وبعدها أعيد انتخاب بارو نائباً بنسبة 72.69 في المائة من الأصوات يوم 9 يوليو 2024، بعدما حلّ رئيس الجمهورية البرلمان، حيث ترأّس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، ابتداءً من 20 يوليو 2024، قبل أن يُعيَّن أخيراً وزيراً للشؤون الخارجية.

حديث العهد بالدبلوماسية

يتولى بارو منصبه «رئيساً» للدبلوماسية الفرنسية، اليوم، في مناخ سياسي دولي متوتر... من أخطر ملامحه الحرب الأوكرانية الروسية، وانفجار الأوضاع في الشرق الأوسط. واللافت أنه فور الإعلان عن تعيين الوزير الشاب، قدّمته الصحافة الفرنسية على أنه «حديث العهد بالدبلوماسية»، بل، على الرغم من أن نشاطه وزيراً للشؤون الأوروبية وخبرته في مجال إدارة الاعمال والاقتصاد شكّلا «نقاط قوة» كبيرة له في منصبه الجديد، فإن قلّة التجربة الدبلوماسية لفتت الانتباه، وفتحت باب النقاش في مصير الدبلوماسية الفرنسية التي تراجعت فاعليتها خلال السنوات الأخيرة، بعدما قادتها شخصيات لم تترك بصمات قوية.

وفي حوار مع يومية «لوباريزيان»، شرح برتران بادي، الأستاذ في معهد «سيانس بو»، أنه «ما كان غريباً اتجاه الرئيس ماكرون إلى تعيين شخصية لا تتمتع بتجربة سياسية، فهو يريد أن يفرض رأيه ويسيطر على زمام السياسة الداخلية والخارجية، كما فعل مع كاترين كولونا، وستيفان سيجورنيه، اللذين لم يتركا أي بصّمة على الدبلوماسية الفرنسية».

وفي مقال بعنوان «أوروبي في الخارجية»، نقلت «لوباريزيان» شهادة أورليان تاشي، نائب كتلة «فرنسا الأبيّة» (اليسار)، الذي صرَّح بأن «وزير الخارجية الجديد شخصية سياسية معتدلة، فهو مستعد للحوار مع أي طرف»، وهو - كما يقول نائب اليسار - من أحسن الخصوم السياسيين احتراماً للمعارضة، «لكنني أشكّ بأن يكون لديه هامش من الحرية، بحيث يَسلم من تدخُّل ماكرون وسيطرته...».

وفي مقال آخر بعنوان «جان نويل بارو: مبتدئ على رأس الخارجية»، شرحت صحيفة «اللوموند» بأن وزير الخارجية الجديد «يفتقر إلى الخبرة لكنه مجتهد، أثبت كفاءته فيما يخّص الملفات الأوروبية التي يعرفها عن ظهر قلب». وتابعت أنه «أولاً، قبل كل شيء أوروبي عن اقتناع، ويؤمن بجوهرية العلاقات الفرنسية الألمانية لبناء أوروبا قوية، إذ كانت آخِر مباحثاته في باريس مع وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك. ولقد لقي خبر تعيين جان نويل بارو ترحيباً في إيطاليا، حيث تربطه علاقات جيدة مع رافاييلي فيتو وزير الشؤون الأوروبية في حكومة جورجيا ميلوني، وسبق لهما التعاون في ملفات الهجرة بنجاح (الذي عُيّن منذ فترة نائباً لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين)».

وتابعت «اللوموند» بأنه سيتوجب على الوزير الجديد العمل على كثير من الملفات في وقت قياسي، وعليه أيضاً أن يفرض نفسه لأنه «خفيف الوزن في غابة العلاقات الدولية».

قضايا ساخنة... ومناخ دولي متوتر

وحقاً، تنتظر وزير الخارجية الجديد قضايا دولية ساخنة جداً، فالحرب في أوكرانيا مستمرة منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، دون الوصول إلى حلّ. ثم هناك بين القضايا الدولية الحسّاسة الأخرى الحرب في السودان، والقضية النووية الإيرانية، وقبل كل شيء انفجار الأوضاع في الشرق الأوسط، مع استعار الحرب في قطاع غزة والعدوان الإسرائيلي على لبنان.

وهنا نشير إلى أنه فور تولي بارو مهام منصبه، باشر وزير الخارجية الفرنسي تنظيم زيارة للشرق الأوسط تهدف إلى بحث النزاع مع مختلف الأطراف، ومحاولة حلحلة الوضع المتأزم، معلناً: «لقد حان وقت الدبلوماسية». وبالفعل، ندّد بارو بموجة التفجيرات القاتلة التي وقعت في لبنان، خلال الفترة القصيرة الماضية، عبر أجهزة اللاسلكي، قائلاً، لإحدى وسائل الإعلام: «حتى وإن كنا نعترف بحق إسرائيل في ضمان أمنها، فهناك هجمات أصابت المدنيين بشكل عشوائي، وتسببت في إصابة الآلاف من الجرحى وقتل الأطفال». وفي المقابل، أدلى بتصريحات داعمة لإسرائيل، بعد اجتماع مع نظيره يسرائيل كاتس، قال فيها إن «حزب الله» اللبناني «يتحمل مسؤولية كبيرة على صعيد اتساع نطاق الحرب في لبنان، بعدما جرَّ لبنان إلى حربٍ لم يخترها». وأردف أن فرنسا «ملتزمة التزاماً لا يتزعزع بأمن إسرائيل...»، علماً بأن التصريحات الأخيرة للرئيس ماكرون جاءت متعارضة مع كلام وزير خارجيته حين قال إن «الأولوية، اليوم، هي العودة إلى حلّ سياسي، والكفّ عن تسليم الأسلحة لخوض المعارك في غزة». وذكر أن فرنسا «لا تُسلّم أسلحة»، ما أغضب الأطراف الإسرائيلية، وأكد التوقعات بأن ماكرون سيفسد مساعي بارو بتدخلاته وتصريحاته المتعارضة.