«كورونا» يفاقم أزمة اللاجئين السوريين... والدول المضيفة

TT

«كورونا» يفاقم أزمة اللاجئين السوريين... والدول المضيفة

تفاقمت بصورة عميقة مآسي اللاجئين في إدلب شمال غربي سوريا والجزر اليونانية، وعلى حدود الاتحاد الأوروبي خلال الشهور القليلة الماضية. واستعجل انتشار «كورونا» طرح الأسئلة والبحث عن حلول. ومجدداً، ينقسم الاتحاد الأوروبي بشأن مسائل اللجوء والهجرة، ويعكس محدودية قدراته على التعامل مع قضايا السياسة الخارجية والقضايا الأمنية.
وكما كانت الحال في عام 2015، فإن تدهور أوضاع اللاجئين في اليونان وتركيا ناشئ عن تصعيد الحرب الأهلية في سوريا، ذلك أنه في أبريل (نيسان) لعام 2019، أطلق النظام السوري عدداً من الهجمات العسكرية الرامية إلى استعادة السيطرة على محافظة إدلب في شمال غربي البلاد.
وبغية مواجهة تقدم القوات الحكومية السورية، رفعت أنقرة من دعمها المباشر لقوات المعارضة السورية، مع جلب قواتها العسكرية والعتاد الثقيل إلى خطوط المواجهة الأمامية بدءاً من فبراير (شباط) لعام 2020. وترغب تركيا في وقف التدفق المتجدد للاجئين عبر حدودها، ودعماً لمطالبها بإنشاء المنطقة العازلة أو الآمنة داخل المنطقة الحدودية. وبعد تصعيد كبير، اتفقت القيادتان الروسية والتركية على وقف جديد لإطلاق النار في 15 مارس (آذار) من العام الجاري.
وينسحب اتفاق وقف إطلاق النار الجديد على شريط ضيق بطول 6 كيلومترات على جانبي طريق حلب - اللاذقية السريعة. حتى وإن أسفر اتفاق وقف إطلاق النار الجديد عن توقف الغارات الجوية منذ ذلك التاريخ، فإن الترتيبات المزمعة لا تتسم بالاستدامة، ولا تؤدي إلى تسوية المصالح المتعارضة للأطراف المعنية بالصراع السوري. كما أن الأوضاع الراهنة أثبتت صعوبة تنفيذ وقف إطلاق النار بتمامه.
فما الخيارات المتاحة على الطاولة للتعامل مع الأوضاع المتدهورة؟ صار هذا التساؤل أكثر إلحاحاً إثر انتشار «كورونا»، علماً بأن الاتحاد الأوروبي وتركيا توصلا في عام 2016 إلى بيان مشترك عزز أواصر التعاون مع أنقرة بشأن المساعدات الإنسانية ومراقبة الحدود، غير أن البيان يعاني في الوقت نفسه من نقاط ضعف كبيرة ما يطرح الحاجة إلى منهج شامل. وهناك ترجمة مختصرة لتقرير أصدره «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية»، يتضمن قراءة في واقع الحال وتصورات لمستقبل التعاطي مع هذه الأزمة مع انتشار «كورونا».

- أوضاع مأساوية

تفاقمت مآسي المواطنين النازحين داخلياً في سوريا. ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، منذ بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي وحتى منتصف الشهر الماضي، هرب ما يقرب من مليون سوري – نحو 60 في المائة منهم من الأطفال و20 في المائة من النساء – من القتال والجيش الحكومي. واليوم، فإن نحو ربع المواطنين في المناطق المتضررة من محافظتي إدلب وحلب لا يزالون قيد الفرار والنزوح. والطريق إلى تركيا مغلقة ومسدودة، إذ استمر إغلاق جميع المعابر الحدودية إلى تركيا، من حيث المبدأ، اعتباراً من مارس (آذار) 2015. كما استكملت الحكومة التركية بناء جدار حدودي في عام 2018، واستخدمت القوة في صد وإرجاع اللاجئين الجدد. ولجأ ما يزيد على نصف المليون نازح سوري إلى المنطقة الحدودية في شمال غربي إدلب، وانتقل أكثر من 400 ألف نازح إلى المناطق الخاضعة لسيطرة تركيا شرقاً، لا سيما منطقة الباب وعفرين.
وبالنسبة إلى الكثيرين، لا يعدّ هذا أول نزوح داخلي لهم. فمنذ عام 2017، جرى إخلاء ما يقرب من 1.5 مليون مواطن سوري إلى محافظة إدلب من أجزاء مختلفة من البلاد في سياق ما كان يُعرف بـ«اتفاقيات المصالحة»، التي كانت في صالح النظام، ما أسفر عن مضاعفة تعداد السكان في محافظة إدلب، حتى قبل اندلاع الأزمة الراهنة، حيث كان 2.8 مليون مواطن سوري في شمال غربي البلاد يعتمدون على المساعدات الإنسانية. كما زادت الظروف الجوية القاسية من تفاقم أوضاع اللاجئين: فهناك نقص حاد في المخيمات ذات التدفئة المناسبة، والمياه، والمرافق الصحية، والأغذية، والحماية من الهجمات.
ويمكن، في ظل هذه الأجواء، توقع مزيد من النزوح القسري من سوريا في اتجاه الحدود التركية بمجرد اشتداد حدة القتال في محافظة إدلب مجدداً، أو إذا تمكنت دمشق من السيطرة على شمال غربي البلاد. ومع ذلك، ليست تركيا على استعداد حالياً لقبول مزيد من اللاجئين السوريين، وبالتالي من المرجح أن تظل الحدود التركية مغلقة.
حتى على المديين المتوسط والبعيد، من غير المحتمل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بأعداد كبيرة. بدلاً من ذلك، من المرجح بالنسبة لهم المغادرة، أو الرغبة في مغادرة البلاد حتى يستطيعوا الفرار من القمع والاضطهاد المحتمل للغاية، أو – في ظل الأزمة الاقتصادية والنقدية الطاحنة هناك – محاولة السعي لكسب العيش في أي مكان آخر.

- اللاجئون في تركيا

تستضيف تركيا حالياً أكبر عدد من اللاجئين على مستوى العالم. ويشكل اللاجئون السوريون أكبر نسبة منهم بتعداد بلغ نحو 3.6 ملين نسمة. وهناك ما يقرب من 400 إلى 500 ألف لاجئ غير سوري، أغلبهم قادم من أفغانستان، والعراق، وإيران. ويحظى السوريون بحماية مؤقتة، وتعيش نسبة 2 في المائة منهم في مخيمات اللاجئين. ويمكنهم الحصول على تصاريح العمل، ولكن هذا يعتمد في نهاية المطاف على حسن نوايا أرباب الأعمال في تركيا. وبالمقارنة مع البلدان المجاورة، يحظى اللاجئون في تركيا بمعدلات مرتفعة من الالتحاق بالمدارس، كما يعمل جانب كبير منهم في الاقتصاد غير الرسمي. ومع ذلك، لا يزال اللاجئون السوريون يشكلون تحدياً كبيراً أمام الحكومة التركية في محاولات دمجهم واستيعابهم في المجتمع والاقتصاد التركي.
علاوة على ذلك، صارت المواقف الشعبية التركية تجاه اللاجئين أكثر عدائية بصورة متزايدة مع تعمق الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد. ونتيجة لذلك، فرضت الحكومة التركية عدداً من التدابير التقييدية. كما يبدو أن بعض اللاجئين قد تعرضوا للضغوط للتسجيل من أجل العودة الطوعية إلى بلادهم. ووفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، رجع نحو 87 ألف لاجئ من تركيا إلى سوريا بين عام 2016 ويناير (كانون الثاني) من عام 2020.
وتلعب فكرة إعادة اللاجئين دوراً متزايداً كذلك في الهجمات العسكرية التي تشنها الحكومة التركية ضد جارتها الجنوبية. فعندما بدأت عملية «غصن الزيتون – أو هجوم عفرين» العسكرية في يناير من عام 2018، أكد الرئيس التركي في خطاب له أن الهدف من وراء العملية هو إعادة منطقة عفرين إلى أصحابها الحقيقيين، وإعادة 3.5 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم. وفي سبتمبر (أيلول) من عام 2019، أي قبل شهر واحد من آخر غزو عسكري هناك، طرح إردوغان خطته على الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تتعلق بمشروعات إعادة الإعمار في محاولة منه لتوطين نحو مليون لاجئ سوري في منطقة آمنة.

- حدود اليونان

مع نهاية فبراير (شباط)، أعلنت الحكومة التركية أنها ستفتح الحدود المشتركة مع أوروبا. ووفقاً لذلك، فإنها تجذب اللاجئين والمهاجرين إلى عبور الحدود مع اليونان، الأمر الذي يثير حالة طوارئ إنسانية على الصعيد المحلي. وهناك 4 أهداف ينطوي عليها إعلان أنقرة الأخيرة؛ أولاً: الحصول على مزيد من الدعم المالي من الاتحاد الأوروبي. ثانياً: إلزام أوروبا بتوفير الدعم المالي والدبلوماسي القوي في مواجهة حالة الطوارئ الإنسانية المريعة في إدلب. ثالثاً: توفير الدعم السياسي والعسكري لأجندة الأهداف التركية في شمال سوريا. وأخيراً، تلقي أنقرة الدعم المالي الخاص بجهود إعادة الإعمار هناك، بما في ذلك إقامة مشاريع التنمية السكنية للاجئين السوريين العائدين.
استخدمت الحكومة اليونانية الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية في منع اللاجئين والمهاجرين من دخول أراضي اليونان، كما علقت الحكومة التقدم بطلبات الحصول على اللجوء السياسي لمدة شهر واحد. ووفقاً للتقارير الصحافية، جرى استخدام معسكر سري في البر الرئيسي اليوناني لاحتجاز المهاجرين واللاجئين الذين وصلوا حديثاً إلى اليونان بهدف إعادتهم مرة أخرى مباشرة إلى تركيا، في انتهاك واضح لسيادة القوانين اليونانية. وأعرب العديد من ممثلي الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية ومجلس وزراء الداخلية بالاتحاد الأوروبي، عن دعمهم الواضح للحكومة اليونانية في هذه المساعي.
وبحلول منتصف شهر مارس، هدأت الأزمة المباشرة على حدود الاتحاد الأوروبي في اليونان. ومنذ ذلك الحين، تعمدت الحكومة التركية نقل عدة آلاف من المهاجرين واللاجئين غير النظاميين الذين ظلوا موجودين في منطقة إيفروس الحدودية إلى المدن التركية مرة أخرى. فيما وصفه بعض الدوائر الأوروبية بأن محاولة الابتزاز من قبل أنقرة قد بلغت نهايتها في الوقت الراهن. كما استأنفت قوات حرس الحدود التركية المراقبة المنتظمة للحدود.

- الجزر اليونانية

لا تزال الظروف الحياتية للمهاجرين واللاجئين على الجزر اليونانية تتصف بالكارثية. إذ كانت المرافق، (أو ما يُعرف بنقاط الاستقبال) التي أنشئت بدعم من الاتحاد الأوروبي بدءاً من نهاية عام 2015، مصممة لاستيعاب ما يربو قليلاً على 6 آلاف شخص، ولكنها تضم حالياً أكثر من 41 ألف شخص. ويعدّ الازدحام المفرط من النتائج غير المخطط مسبقاً لها لبيان الاتحاد الأوروبي وتركيا المشترك في عام 2016، الذي تنص بنوده – من جملة أمور أخرى – على أنه لا يجوز نقل طالبي اللجوء السياسي، كبند حاكم، إلى البر اليوناني الرئيسي. وفي الأثناء ذاتها، كانت الإجراءات المعنية بطالبي اللجوء شديدة البطء في الجزر اليونانية، مع صعوبة كبيرة في تنفيذ عمليات الترحيل مجدداً إلى تركيا، التي كان من المفترض بها في الأصل الاضطلاع بتنفيذها.
ووجهت المنظمات غير الحكومية، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي المختلفة الانتقادات اللاذعة بشأن الظروف الحياتية في مراكز استقبال اللاجئين. ومما يُضاف إلى مشكلة الازدحام المفرط، هناك نقص الحماية الأمنية، والظروف الصحية المتدنية، وعدم كفاية الوصول إلى الخدمات الطبية، والرعاية النفسية والاجتماعية. وتقع الحوادث وتندلع الحرائق في تلك المراكز بصورة متكررة، وكذلك أعمال العنف والشغب العنيفة، تلك التي أسفرت عن سقوط العديد من الأشخاص بين قتيل وجريح. وكانت أولى حالات الإصابة المسجلة بفيروس «كورونا» بين جموع المهاجرين واللاجئين في مراكز الاستقبال في البر اليوناني الرئيسي تعكس التهديدات الأكثر خطورة على صحة وحياة الأفراد المحتجزين في مخيمات الجزر اليونانية.
وكانت الحكومة اليونانية، منذ شهور، تنظر في اقتراح إجلاء اللاجئين إلى البر الرئيسي. وعلى المديين المتوسط والبعيد، ترغب أثينا في إيواء طالبي اللجوء السياسي الجدد الذين يصلون إلى الجزر اليونانية في مرافق (مراكز استقبال) مغلقة. ومع ذلك، حالت الاحتجاجات المحلية في اليونان حتى الآن، وبدرجة كبيرة، من إنشاء تلك المراكز. ومع قانون اللجوء السياسي الذي دخل حيز التنفيذ الفعلي بدءاً من يناير الماضي، فرضت الحكومة اليونانية مزيداً من القيود على حقوق طالبي اللجوء بشأن البقاء في البلاد لحين النظر في طلبات اللجوء خاصتهم، وكذلك الاستعانة بقوات الشرطة والجيش في تسريع إجراءات طالبي اللجوء السياسي. ويتوقف نجاح الحكومة اليونانية في إعادة طالبي اللجوء المرفوضة طلباتهم إلى تركيا مرة أخرى بأعداد أكبر مما كانت عليه في السابق على فرضيتين مشكوك في صحتهما.
فمن جهة، يتعين أولاً على المحاكم اليونانية اعتبار تركيا دولة ثالثة آمنة لاستقبال اللاجئين المرفوضين. ولقد أثيرت الشواغل القانونية ذات الصلة بتلك المسألة ضد عمليات الترحيل ذات الإجراءات الموجزة للاجئين غير النظاميين أثناء الأزمة الراهنة. ومن جهة أخرى، سوف ينبغي على تركيا توفير قدر من التعاون البناء، ذلك الذي يعد موضع تساؤلات جوهرية بسبب الأزمة الأخيرة على الحدود البرية المشتركة بين البلدين.

- بيان تركي ـ أوروبي

هناك حاجة ملحة لتعزيز التعاون بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، سواء لحماية اللاجئين أو لاعتبارات أمن الحدود. وعلى مدار الأسابيع الماضية، أكد الجانبان أن البيان المشترك الحالي للاتحاد الأوروبي وتركيا الصادر في مارس 2016 – والذي يُشار إليه غالباً باسم «معاهدة» أو «اتفاق» اللاجئين أو الهجرة – لا يزال يشكل نقطة الأساس المرجعية المشتركة. وفي أعقاب اجتماع الرئيس التركي في بروكسل بتاريخ 9 مارس، أعلن تشارلز ميتشل رئيس مجلس الاتحاد الأوروبي أنه ينبغي على الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية وسياسات الأمن جوزيب بوريل ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن يعملا معاً على مراجعة كيفية إدخال بيان عام 2016 إلى حيز التنفيذ الفعلي بأفضل صورة عملية ممكنة.
وبحلول عام 2014، أسفر تصاعد الحرب الأهلية في سوريا عن اندلاع أزمة إقليمية ضخمة من النزوح القسري للاجئين، وكل ذلك في حين كانت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تعاني نقصاً حاداً في المساعدات الإنسانية. وتمثلت الاستجابة الأولى من جانب بروكسل في إطلاق «صندوق الاتحاد الأوروبي الاستئماني الإقليمي للاستجابة للأزمة السورية» (المعروف إعلامياً باسم صندوق مدد). ووفر ذلك الصندوق الجديد الدعم المالي الأولي للعديد من بلدان الجوار السوري بدءاً من عام 2014، غير أن المساعدات لم ترق إلى مستوى الاحتياجات.
وفي ضوء أعداد اللاجئين المتزايدة بوتيرة سريعة للغاية، اعتمدت بروكسل إجراءات أكثر شمولاً لإرساء الاستقرار بدءاً من خريف عام 2015، وذلك من خلال خطة العمل المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. ويهدف الجزء الأول من هذه الخطة إلى تحسين الأوضاع الإنسانية للاجئين الموجودين في تركيا. ولقد جرى تحقيق ذلك من خلال المساعدات المالية المقدمة من الاتحاد الأوروبي وعبر الإصلاحات القانونية والمؤسساتية التي نفذتها تركيا. وكانت الإصلاحات أكثر تأثيراً من حيث منح اللاجئين آفاقاً حياتية متوسطة المدى. فعلى سبيل المثال، افتتحت أسواق العمل التركية أمام اللاجئين السوريين، وتمكن التلامذة السوريون من الالتحاق بمختلف مراحل التعليم في البلاد. ويتمثل الجزء الثاني من خطة العمل في إدارة الحدود مع تنظيم حملات التوعية ضد الهجرات غير الشرعية ومخاطرها. وكانت هذه الإجراءات تصب في صالح الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تركيا. وبعد كل شيء، رغبت الحكومة التركية في تجنب أن تقوم مقام ممر الهجرة غير النظامية من أجزاء مختلفة من منطقة الشرق الأوسط وآسيا عبوراً إلى أوروبا على المدى البعيد.
ومع ذلك، صار من الضروري التوصل إلى اتفاق سياسي أوسع مجالاً من أجل الشروع في التعاون المشترك بين الاتحاد الأوروبي وتركيا على أرض الواقع من خلال الممارسات العملية. ولقد جرى ذلك في مارس 2016 عبر البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي وتركيا، الذي التزم فيه الجانب الأوروبي بتوفير مبلغ 6 مليارات يورو حتى نهاية عام 2018. وفي المقابل، لن يتم قبول مزيد من طلبات اللجوء السياسي من اللاجئين السوريين الذين وصلوا بصورة غير قانونية إلى الجزر اليونانية. وبدلاً من ذلك، سوف تجري إعادتهم إلى تركيا في أسرع وقت ممكن – التي سوف تحمل تعريف الدولة الثالثة الآمنة لخدمة هذا الغرض.
وعلى العكس من ذلك، سيقبل الاتحاد الأوروبي الأشخاص الضعفاء القادمين من تركيا من خلال عملية إعادة التوطين، بالأعداد المكافئة للاجئين السوريين العائدين من الجزر اليونانية («آلية رجل برجل»). وفي حالة توقف المعابر غير النظامية عبر بحر إيجة بصورة عامة، عرض الجانب الأوروبي احتمال قبول مزيد من عمليات إعادة التوطين الناشئة عن تركيا. كما التزم الاتحاد الأوروبي كذلك بإعادة تفعيل المحادثات المعنية بانضمام تركيا إلى عضوية الاتحاد بغية مواصلة العمل على تعميق الاتحاد الجمركي، وتسريع المفاوضات بشأن تحرير تأشيرات الدخول للمواطنين الأتراك إلى مختلف دول الاتحاد.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».