Pirosmani (1969)
(تحفة)
«بيروسماني» لجيورجيو شينغيلايا هو أحد تلك التحف المنسية في تاريخ السينما وبين سنواتها. تم إنتاجه وعرضه محلياً لفترة وجيزة ثم تم تغييبه إلى أن تم لـ«معهد الفيلم البريطاني» الحصول عليه وعرضه ضمن مجموعة كبيرة من الأفلام بعضها كان ممنوعاً من العرض في الحقبة السوفييتية.
الفيلم هو سيرة ذاتية حول نيكولا بيروسماني» (1863 - 1918). كان رسّـاماً جيورجياً من عائلة ريفية علّـم نفسه الرسم من دون تأثر بمن سبقه. قام بتمثيل دوره رسّام جيورجي أسمه أفتانديل فارازي الذي توفي سنة 1977 وهذا هو دوره الوحيد كممثل. يلاحق المخرج شينغيلايا تلك الفترة من حياة بيروماني عندما كان يرسم لوحاته ويعطيها لصاحب مطعم مقابل وجبات الطعام. لم يكن سعيداً في حياته، بل تجنّب الاختلاط بالناس مباشرة وترك للوحاته أن تكون جسر تواصله مع محيطه. وحتى من بعد انتشار رسوماته في ربوع جيورجيا بقي شخصية منغلقة على نفسه.
نراه مرات عدّة وهو يأكل ويشرب وحيداً في ذلك المطعم الصغير وبالقرب منه إحدى رسوماته المعلقة على الجدار ثمن ما يتناوله من طعام. لكن في ثنايا الفيلم ما هو أكثر من الوصف الفردي. هناك تلك العلاقة الصامتة بين وضع الفرد ووضع المجتمع. صمت بيروسماني قد ينتمي إلى تأمل المحيط المشابه لحياة بيروسماني في انغلاقه على نفسه. غروق الفيلم في محليّته من ناحية ونبرته وصورته الحزينتين عن فنان لا يعكس الحضور الدعائي لمنهج الدولة آنذاك ودورها بين المثقفين والفنانين ما تسبب في انزواء الفيلم وغيابه عن العروض إلا فيما ندر. وفي حين نشرت مجلة «الفيلم السوفييتي» تحقيقاً عن الفيلم حين بوشر بتصويره، لم تتطرق إليه فيما بعد وساهمت في تغييبه.
لم يحقق المخرج شينغيلايا فيلماً عن رجل فخور بفنه وسعيد في عمله ويشيد بالحقبة التي يعيش. بل غزل من منواله القومي. بذلك، اتخذ المخرج موقفاً حيال وضع موطنه جيورجيا لا ينفصل عن موقف بطله.
من ناحية مختلفة، يماثل الفيلم في معالجته فن الرسم جمالاً وتصوير كونستانتين أبرياتن يضعنا في تلك الوحدة المشهدية بين المحيط المكاني والمنتوج الفني للرسام. بدوره قام الفنان فارازي بتصميم مناظر الفيلم الفنية أيضاً. وفي كل مرّة يرد فيها أن بيروسماني سيرسم لوحة جديدة كان الفيلم يقفز إلى النتيجة، مثل ذلك المشهد الوارد في النصف الثاني من الفيلم الذي نرى فيه أبناء البلدة يطلبون من بيروسماني أن يرسم مجدداً بعدما قرر التوقف. عندما لم يستجب الفنان للطلب، يقوم أبناء البلدة بحبسه في غرفة وإقفال الباب عليه لحين إنجازه لوحة جديدة. في المشهد التالي نرى بيروسماني يعرض ما رسم: واحدة من أفضل أعماله التي نشاهدها في الفيلم وفي الوقت ذاته ينبري المشهد كتعليق على شعور بيروسماني بالجميل حيال محبة أهل بلدته ورغبتهم في أن يزاول العمل من جديد.
هناك تلقائية وتجانس رائع بين كل ما يشغل الشاشة. شينغيلايا يحوّل عناصر الفيلم إلى معالجة مشبعة بالجماليات الساكنة. لا مونتاج يقفز بنا في كل اتجاه. ولا كاميرا لاهثة وراء اللقطة - الصدمة ولا إيقاع لا يلتقي وإيقاع الحياة عند بطله أو عند مواطني تلك البيئة أو ساكنيها أو عند الحياة المرتسمة في المحيط الريفي عموماً. منوال المخرج مبدأي: لقطة أو بضع لقطات تؤلّف مشهداً. المشهد غير متسارع. مصوّر ببساطة وحين ينتهي ننتقل إلى سواه بلغة بصرية شبيهة. ومن تلك البساطة صنع المخرج فيلماً عملاقاً وعملاً ممتازاً على مستويات موضوعه ومضمون ذلك الموضوع وحياكته الفنية البديعة.
سنوات السينما: Pirosmani (1969)
سنوات السينما: Pirosmani (1969)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة