المحاضرة الأخيرة التي ألقاها الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز في جامعة تل أبيب صدرت بعد موته بسنة في كتاب بعنوان «الحساب لم ينتهِ بعد». في هذا الكتاب محاولة لتلخيص رؤيته للقضية الفلسطينية من باب المتأمل حيناً، والباحث في التاريخ أحياناً، لكنها محاضرة فيها من واقعية الكاتب أكثر من فنية الراوي المولود في القدس الانتدابية ابناً لعائلة هربت من مخالب الملاحقة النازية.
وصية عوز لأحفاده، ولمتابعي كتبه، أن يواصلوا الحرب لأجل السلام؛ هو لم يترك المعركة، إنما لتقدمه في السن سيضع نفسه في الساحة الخلفية لها، بعد أن عاش سنوات طويلة في مقدم المظاهرات والمقالات السجالية المعارضة للسياسات الرسمية وتهكمات الحاخامات. لكن هل السلام فعلاً بحاجة إلى حرب؟ لعلها حرب لتغيير الفضاء الداخلي لكلا الطرفين، أو تغيير الرؤية للبلاد التي فقدت، لكنها لا تزال في المكان والذاكرة، وهي بلاد كنعان التي عاد إليها الإسرائيليون بعد ألفي عام، لكنهم عادوا إلى خلل مزمن في الواقع يختلف كلياً عن ميعاد الحلم.
وكان كتاب عوز السابق، قبل محاضراته هذه، المعنون بـ«سلام أيها المتعصبون»، وصية للأجيال الآتية من الإسرائيليين والعرب لصالح مشروع الدولتين العبرية والفلسطينية، فالصراع الدامي، كما يقول، هو جرح متقيح منذ ما يزيد على مائة عام، ومن الضروري والملح أن يعالج.
ويؤكد عوز أنه رغم المماحكات الكلامية والسجالات بين اليمين واليسار، والهجوم والهجوم المضاد، والنقاشات القديمة المتجددة، تكمن قناعة معينة في قلب كل إسرائيلي بأنه يجب أن يتوقف هذا النزيف، وهو يرى من جانب آخر أنه «لم يكن هناك خيارات أمام الأزمة اليهودية في تقاطعات مصالح الدول العظمى بين الحربين العالميتين، ولم تحمِ الرياح القومية التي هبت في القارة الأوروبية المتناحرة الأقلية اليهودية، لكن في غضون ذلك كان هناك من الطوباويين الذين حلموا بجمهورية أوروبية في فلسطين العثمانية البعيدة، تلك التي كانت غارقة في الحمى والفقر والمستنقعات، وكانت حياة العرب مع الوافدين اليهود طبيعية، لكن السياسات المتعنتة وتوازنات القوى هي التي صنعت الصراع وتبعاته».
عاموس عوز (1939-2018) ولد في القدس لعائلة كلاوزنر، وهي من العائلات المثقفة التي اعتنقت المد العلماني الذي يقوم على فكرة إعادة النظر في التاريخ الذي أسسه زئيف جاوبوتنسكي، وعارضت الاشتراكية الستالينية، بقيادة الحركة العمالية التي تزعمها ديفيد غوريون. وكان والده محاضراً للأدب العبري، وقد شغل منصب مدير المكتبة القومية في القدس الغربية. أما عمه الدكتور يوسف كلاوزنر، فقد خسر في الانتخابات على رئاسة الدولة عام 1949 أمام الدكتور حاييم وايزمن. وفي الرابعة عشرة من عمره، تمرد عاموس على محيطه الراديكالي، وانتمى إلى القرية التعاونية (كيبوتس) خولدا.
وعندما يقول عوز كلمة «حساب»، فهذا يعني ضمنياً «حساب الدم»، وصورة المعابر والحواجز والمناطق العسكرية المغلقة «فمنذ التهجير عام 1948، وخلال سنوات الصراع الطويلة على خطوط التماس، بدءاً من ملاحقات غور الأردن مروراً بالحروب مع البلدان العربية والاشتباكات على الأراضي اللبنانية، كان هناك (حساب دم)، فكل طرف أراد مزيداً من دم الطرف الآخر».
ويدعو عاموس عوز إلى ضرورة تغيير هذا السيناريو الطويل، ضاماً صوته القوي لأصوات الكتاب العبريين التقدميين الذين انتصروا انتصاراً أخلاقياً أمام التاريخ، لكونهم لم يسكتوا على الظلم والأحادية والفذلكات السياسية في منطقة يستحق سكانها (العرب واليهود) ما هو أفضل.
عاموس عوز و«حساب الدم»
عاموس عوز و«حساب الدم»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة