آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

جراء أزمة {كورونا}

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية
TT

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

آندرو كومو... حاكم نيويورك يخطف الأضواء وترمب يسعى لاستخدامه في معركته الانتخابية

كما في كل شيء تقريباً، تأخذ الأمور في الولايات المتحدة منحى يتداخل فيه السياسي، بالشخصي، بالحزبي، بالموقع الرسمي، لدى تناول شخصية عامة تلعب دورا مؤثرا، أو يعتقد على الأقل أنها تقوم بذلك بالفعل. إلا أن الصورة تغدو أوضح إذا كانت تلك الشخصية من وزن حاكم ولاية نيويورك آندرو كومو، الذي لمع اسمه فجأة في الآونة الأخيرة بعد تفجّر أزمة وباء فيروس كورونا المستجد «كوفيد - 19»، وتفشيه في مدينة نيويورك، حيث سجل أكثر من نصف عدد المصابين بهذا الوباء على مستوى الولايات المتحدة.
ولاية نيويورك عاصمتها مدينة ألباني الصغيرة، لكن مدينة نيويورك هي الأشهر فيها.
إنها أكبر المدن الأميركية، سواء لناحية عدد السكان أو مساحتها الجغرافية. ثم إنها العاصمة الاقتصادية للولايات المتحدة، وأحد المراكز الحساسة للاقتصاد العالمي. أضف إلى ذلك أن المدينة تحتضن أكبر بورصة في العالم حيث ما يعرف بـ«وول ستريت»، أكبر مركز مالي وتجاري ومصرفي في العالم. ويوجد فيها مقر الأمم المتحدة الرئيسي، وتعتبر من أهم منارات الثقافة في العالم، وفيها أهم دور العرض الفنية والتجارية والثقافية والأزياء والتكنولوجيا والتعليم والترفيه.
لم يخطر على بال الرئيس الأميركي دونالد ترمب أنه قد يستغل اسم كومو في حملته السياسية والانتخابية، لزعزعة حظوظ منافسه الرئيسي في الحزب الديمقراطي جو بايدن، «المحجور» في منزله أسوة بباقي المواطنين الأميركيين بسبب الوباء. وأعرب في مقابلة تلفزيونية قبل أيام عن اعتقاده أن الحاكم كومو يمكن أن يكون منافسا جيدا له، بدلا من جو «النعسان» – وهذا هو اللقب الذي درج ترمب على استعماله ازدراءً بمنافسه - وهو أسلوب بات معروفا عنه في مهاجمة خصومه وتحقيرهم بشكل شخصي، عبر إطلاق صفات لم تعهدها السياسة الأميركية من قبل.

المرشح المحتمل
في الواقع سبق أن تكهنت عدة وسائل إعلام أميركية باحتمال ترشح آندرو كومو للانتخابات الرئاسية، سواء في 2016 أو 2020. وأشارت عدة تقارير إلى أن كومو دعم «المؤتمر الديمقراطي المستقل»، وهو قائمة تضم العديد من الجمهوريين، بينهم أنصار لترمب، قبل أن يُحل ويهزم في انتخابات 2018 النيابية، في محاولة منه ليبدو أكثر اعتدالا، تمهيدا «لطموح رئاسي».
غير أن كومو أحجم عن ترشيح نفسه ولم يخض الانتخابات التمهيدية المتوقفة الآن. ونفى تماما نيته خوض انتخابات الرئاسة خلال مقابلة تلفزيونية مع شقيقه كريس كومو، مقدم البرامج الشهير على محطة «سي إن إن» التلفزيونية. وللعلم، أعلن كريس إصابته بالفيروس أخيراً، وهو يخضع لحجر صحي في قبو منزله بعدما حوله إلى استديو يمارس منه عمله كما العديد من مقدمي البرامج في المحطات الأميركية.
من ناحية ثانية، اتهمت قيادة الحزب الديمقراطي ترمب باستغلال أزمة الوباء لخلط الأوراق وزعزعة قاعدة الحزب المنقسمة أصلا، حيث لا يزال السيناتور اليساري بيرني ساندرز يصر على ترشحه، وسط دعوات حثيثة لإنهاء حملته. واللافت أن ساندرز ماض بالترشح، رغم خسارته غالبية الانتخابات التمهيدية التي أجريت، وثمة صعوبة بالغة في تمكنه من ردم الهوة مع بايدن لجهة الحصول على عدد كاف من أصوات المندوبين.
تعليقات أخرى اعتبرت مناورة ترمب، بأنها محاولة لتعميق الانقسام بين الفئات الشابة المؤيدة لساندرز والقاعدة الجماهيرية للحزب، ما قد يؤدي إلى امتناعها عن التصويت لبايدن في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، الأمر الذي سيصب حتما في مصلحة ترمب.

كومو ينافس ظهور ترمب
غير أن آخرين يعتبرون أن النجاح الذي يحققه حاكم نيويورك بسبب موقعه الرسمي، وصعود أسهمه وارتفاع عدد مؤيديه، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وظهوره الكثيف على شاشات التلفزيون، بات ينافس ظهور ترمب اليومي لمتابعة أنباء الوباء. ويعتقد معظم هؤلاء أن ظهوره أزعج الرئيس واعتبره تهديدا لاحتكاره موجات الأثير المرئي، بينما منافسه الرسمي بايدن قابع في منزله... يفتش عن وسيلة لخرق الحصار الذي فرضه انتشار الوباء.
في أي حال، يواصل ترمب التقليل من دور كومو في التصدي للوباء في نيويورك، قائلا إن نجاحه يعود إلى المساعدات التي قدمتها إدارته وتلبيتها كل طلباته، رغم الانتقادات العلنية والقاسية التي وجهها كومو لما اعتبره سلبية أداء الحكومة الفيدرالية في واشنطن. ورغم قوله إنه جاهز لمواجهة أي منافس سياسي، كرر كومو «إن الوضع خطير ومميت وإذا كنا منقسمين فسيهزمنا الفيروس».
كومو وفريق عمله ومسؤولو الولاية تعرضوا في البداية لانتقادات مكثفة، بعضها جاء من سكان الولاية «المنكوبة»، ومن جهات محسوبة أو مؤيدة لترمب والجمهوريين عموما، تحملهم مسؤولية البطء في اتخاذ إجراءات عاجلة لمواجهة انتشار الفيروس.
أيضاً، تداول ناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تصريحات عدد من مسؤولي الولاية يقللون فيها من خطر الفيروس في يناير (كانون الثاني) الماضي، لتجنب إثارة الهلع بين السكان. لكن طبيعة المدينة الأكثر حضرية بين المدن الأميركية، لم تترك لكومو خيارا سوى تغيير أدائه على وجه السرعة. فغالبية السكان تستخدم النقل العام، من قطارات الأنفاق وحافلات النقل العام وسيارات الأجرة، بسبب ازدحام شوارعها القاتل، وكثافة السكان الذين يتنقلون سيرا على أقدامهم في شوارعها الشهيرة. ولا ننسى أنه في نيويورك «حي صيني» كبير، وكل هذه عوامل أدت كلها لتوفير الأجواء المناسبة لانتشار الفيروس بشكل لا مثيل له مع باقي المدن والولايات الأميركية.

العلماء... مع كومو
من جانب آخر، تلقى كومو المديح على نطاق واسع من علماء الأوبئة بعد إغلاقه الولاية والأعمال غير الضرورية لكسر منحنى صعود الفيروس. بل في 28 مارس (آذار) الماضي هدد كومو ولاية رود إيلاند برفع دعوى قضائية ضدها بشأن سياسة التمييز الصحي التي تريد تطبيقها، عبر منع سكان نيويورك من دخولها. وهذا ما كان من بين الأسباب التي منعت الرئيس ترمب أيضا من إصدار قرار فيدرالي بفرض الحجر الإلزامي على تنقل سكان عدد من الولايات، بينهم نيويورك، الأسبوع الماضي.
ونتيجة للسياسات التي اعتمدها كومو، والإجراءات القاسية التي فرضت إغلاقا كاملا لمدينة نيويورك، أظهر آخر استطلاع للرأي نشره معهد سيينا أن معدلات قبول الحاكم النشط ارتفعت هذا الشهر، بعدما استجاب للأزمة التي أطلقها انتشار الفيروس.
إذ أيد 87 في المائة ممن شملهم الاستطلاع طريقة تعامل كومو مع الوباء. كما أعرب 76 في المائة عن رضاهم عن كيفية استجابة قسم الصحة المحلي، وعبّر 74 في المائة عن رضاهم على الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، في حين نال ترمب ونائبه مايك بنس على رضى 41 في المائة فقط.
الاستطلاع خلص أيضاً إلى أن نسبة عدد سكان نيويورك الذين ينظرون إلى الحاكم بشكل إيجابي ارتفعت إلى 71 في المائة من 44 في المائة فقط في فبراير (شباط) الماضي.
وقال المتحدث باسم الاستطلاع ستيفن غرينبرغ إن الحاكم كومو يحظى «بدعم شبه عمومي»، حيث يوافق 85 في المائة على الأقل من الناخبين من كل منطقة على تعامله مع الأزمة، وكذلك على دعم 95 في المائة من الديمقراطيين و87 في المائة من المستقلين وحتى 70 في المائة من الجمهوريين.
على هذا الأساس، وبمقاييس ترمب، قرع آندرو كومو جرس إنذار كبير لديه، خصوصاً، وأن شخصيته وتاريخه ودوره السياسي وتجربته الطويلة في الشأن العام، مزايا تمنحه القدرة على أن يكون خصما عنيدا، له ولإرثه من بعده في مدينة نيويورك التي يتحدر منها الرئيس أيضا.

بطاقة هوية
آندرو مارك كومو من مواليد 6 ديسمبر (كانون الأول) 1957 في حي كوينز في مدينة نيويورك، لأسرة تتحدر من أصل إيطالي لجهتي الأب والأم. وهو سياسي ينتمي للحزب الديمقراطي ومؤلف ومحامٍ بجانب كونه الحاكم الـ56 للولاية، وهو يتولى هذا المنصب منذ 2011.
والده ماريو كومو كان قبله محامياً لامعاً وحاكماً ناجحاً لولاية نيويورك لثلاث فترات متتالية، وجرى تداول اسمه غير مرة كمرشح عن الحزب الديمقراطي لرئاسة الجمهورية. أما والدته فاسمها ماتيلدا نيرافا. ولآندرو خمسة أشقاء بينهم كريس كومو وشقيقته الدكتورة مارغريت عالمة الأشعة الشهيرة.
تخرج آندرو كومو في مدرسة سانت جيرارد ماجيلا في عام 1971 ومدرسة المطران مولوي الثانوية في عام 1975، ثم تابع تعليمه الجامعي وحصل على درجة البكالوريوس من جامعة فوردهام – إحدى أعرق الجامعات الكاثوليكية في الولايات المتحدة – عام 1979. ثم حاز على الإجازة في الحقوق من معهد ألباني للحقوق التابع لجامعة يونيون (ريف ولاية نيويورك) عام 1982.

تاريخ سياسي حافل
بدأ آندرو كومو حياته المهنية مديراً لحملة والده، ثم محامياً مساعدا لمنطقة في مدينة نيويورك. ثم أسس مؤسسة الإسكان «هلب يو إس إيه» (HELP USA) وعُيّن رئيسا للجنة نيويورك للمشردّين في المدينة، وهو المنصب الذي شغله من عام 1990 إلى عام 1993.
في عام 1993 انضم كومو إلى إدارة الرئيس بيل كلينتون كمساعد وزير التخطيط المجتمعي والتنمية في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية بالولايات المتحدة. ومن 1997 إلى 2001. شغل منصب وزير الإسكان والتنمية الحضرية خلفا للوزير هنري سيسنيروس.
في عام 2006 انتخب كومو مدعيا عاما لنيويورك، وفي العام 2010 انتخب حاكما للولاية، وأعيد انتخابه مرتين بعد فوزه في الانتخابات التمهيدية ضد المنافسين الليبراليين زيفير تيتش أوت (2014) وسينثيا نيكسون (2018). وخلال فترة ولايته، أشرف كومو على تمرير قانون يشرّع زواج المثليين في نيويورك، وإنشاء تحالف الولايات المتحدة للمناخ، وهي مجموعة من الدول ملتزمة بمكافحة تغير المناخ باتباع شروط «اتفاقيات باريس للمناخ».

إجراءات بالجملة
بالإضافة إلى ذلك، مرّر كومو أكثر قوانين مراقبة الأسلحة صرامة في الولايات المتحدة، ودعم توسيع المساعدة الطبية وقانون ضرائب جديد يرفعها على الأغنياء ويخفضها على الطبقة الوسطى. وكذلك أقر منح إجازة عائلية مدفوعة الأجر وزيادة الحد الأدنى للأجور والمساواة في الأجور بين الجنسين وتشريع استخدام الماريغوانا الطبية.
وفي عام 2000 قاد كومو جهود وزارة الإسكان والتنمية الحضرية للتفاوض على اتفاقية مع شركة سميث اند ويسون، أكبر مصنّع للمسدسات والبنادق اليدوية، لتغيير تصميمها وتوزيعها وتسويقها لجعلها أكثر أمانا والمساعدة في إبعادها عن أيدي الأطفال والمجرمين. وتضمنت ميزانيات وزارته زيادة المعروض من المساكن الميسرة التكلفة وتمكين المواطنين من تملّك المنازل، وقوانين لخلق فرص العمل والتنمية الاقتصادية. وشمل ذلك إعانات مساعدة الإيجارات الجديدة، وإصلاحات لدمج الإسكان العام، وقيودا أعلى على الرهون العقارية المؤمن عليها من قبل إدارة الإسكان الفيدرالية، وقمع التمييز في الإسكان وبرامج موسعة لمساعدة المشردين في الحصول على السكن والوظائف، وإنشاء مناطق تمكين جديدة.
في المقابل، يؤخذ على كومو أن طلبه بزيادة القروض لمنازل الفقراء في محاولة لإنهاء التمييز ضد الأقليات، عبر إجبار مؤسستي فاني ماي وفريدي ماك العقاريتين العملاقتين المدعومتين من الحكومة، على شراء القروض المشكوك بتحصيلها، ساعد في حدوث أزمة الرهن العقاري عام 2008.
وفي عام 1998 قالت المفتشة العامة التي عينها الرئيس بيل كلينتون في وزارة الإسكان سوزان غافني، أمام لجنة في مجلس الشيوخ إنها كانت ضحية «تصعيد» الهجمات على مكتبها من قبل كومو و«مساعديه الرئيسيين»، بما في ذلك الاتهامات بالعنصرية والتمرد والمخالفة. وفي عام 1999. خلص مكتب غافني إلى أن 15 من أصل 19 هدفا لمؤسسة «بناة المجتمع» التي كان خلفها كومو، كانت أنشطة وليست إنجازات فعلية وأن مبادراته «كان لها تأثير معوق على العديد من عمليات الوزارة القائمة». وفي مايو (أيار) 2001 تقاعدت غافني بعد فترة وجيزة من التوصل إلى تسوية بقيمة 490 ألف دولار مع موظف أسود اتهمها بالتمييز العنصري ومنعه من الترقي.

مع هيلاري... ضد أوباما
في عام 2008، قال كومو، الذي كان يدعم ترشح هيلاري كلينتون عن منافسها باراك أوباما: «لا يمكنك الرفض والركض في مؤتمر صحافي»، ما أدى لتعرضه لانتقادات عدة لاستخدامه عبارة كانت تطلق على الأميركيين الأفارقة خلال حقبة التمييز العنصري والعبودية.
ولاحقاً، في استطلاع رأي في فبراير 2019. أجري بعد توقيعه عددا من التشريعات التي وصفت بـ«التقدمية»، بينها التوسع في الإجهاض وقوانين الأسلحة أكثر صرامة، تراجعت شعبية كومو إلى 43 في المائة وهو الأدنى له، ورفضه 50 في المائة من «النيويوركيين»، ما يشير إلى أن تلك التشريعات أزعجت بعض الناخبين وساهمت في خفض شعبيته.
غير أن أسلوبه الحازم في التعامل مع الوباء الذي وضع نيويورك في عين العاصفة... أعاد له رضى الشارع، داخل ولايته وخارجها.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.