مدينة جدة فتاة سافرة في مراهقة لا تشيخ، وهي مدينة لا تعرف شيئاً سوى الحبور، لذا تظل في حالة غزل لأي عين متلهفة لكلمة حب، أو لقلب عاشق أضناه الهيام فحام بفضائها يشكو لوعة وجده... فلا تبخل عليه وتسكنه المهج ... كفتاة لعوب.
ليس لشيء سوى أنها مراهقة تمعن في تكذيب أسطورة (نجمة الصبح)، فتظل ساهرة إلى أن يقبل كوكب الزهرة، فتضم ضياءه بتحد: لن أنام ففعل ما تشاء !
ليلياً تمد أمواجها إلى الشواطئ، وتسرح جدائل سمائها، وتضفر جدائل شوارعها، وتكحل أهداب أركانها بإثمد السحر، وترش طيوبها بين أزقتها المنحنية، وطرقها الفاخرة، وترتدي فساتينها لكي تقابل كل عاشق باللون الذي يتغنى به . في جميع أحوالها ألفت على أن تكون جسورة في طلب الغزل، فتفتح جهاتها الأربع لزائرين من كل فجاج الأرض، وتمنح ضوء بصرها لجميع قاطنيها وزائريها.
تعلم هي أن كل من رآها ذاب عشقا فيلملمها بين الضلوع مرتهناً لدلالها، خاضعاً لجمالها كي يسير بقية العمر متيماً بحبها. هذا هو خضوع العاشق. لذا لم تخذل قلب من تعلق بها. يوميا تمنح ذاتها -كاملة- وكأنها لهذا العاشق، له لوحده... البارحة لم تف بوعدها السرمدي في أن تظل ساهرة أبد الدهر!
همى على العالم وابل ثقيل، فتلحفت الأرض وأمعنت في سربلة الغطاء على كل أعطافها.
هل جرى الزمان - في هذا المنعطف التاريخي - بمثل هذا الرعب؟
البارحة فقط أغلقت مدينة جدة منافذها، وتغطت بعباءة سوداء اسمها الليل، اكتفت بمن فيها، وحملت صندوق الذكريات لتسد بها مسامات الهلع النابت مع نبضات القلوب... البارحة ولأول مرة - في التاريخ - تقتعد تلك المراهقة عرصات تمددت جدرانها طولاً وعرضاً، وجهزت فراشها من غير غطاء، واقتعدت تراقب حمى تطوف العالم راغبة بقطف الأنفس.
هل جاءت - هذه الحمى - من غياهب الماضي لتفي بوعدها لأمي!
قبل مغادرة قريتنا لحقت بنا ونحن على سفر وضج صوتها خلفنا: لن تهربي به مني يا عائشة. لا يزال صوت تلك الحمى المتوحشة يسري في بدني فيقشعر منه كل بدني.
أنا ابن جدة ذلك الشخص المطلوب قطف أنفاسه.
كنت ذات يوم طفلاً عليلاً هربته أمه ذات ليل من أنفاس الحمى الحارقة... الآن أجزم أن تلك الحمى طافت الكون وكساحرة تبدل شكلها - في كل حين - وهي تبحث عن طفل تم تهريبه من بين براثنها، ولأنها صادقة الوعد جاءت لكي تفي بوعدها بإغاظة قلب امرأة هربت طفلاً كان من نصيبها، جاءت - الحمى- لتفي بعهد قطعته على نفسها بأن تجمعه في لحد مع أشقائه الراحلين.
هذه الحمى لا عقل لها، فكيف أخبرها أن عائشة ماتت، ولن تغيظها بقطف أنفاسي، وهذه ستقطف نفسا عاشقة لمراهقة لم تشخ بعد؟ كيف أخبرها بأنني أنا العاشق، وأنا الذي لم يتجاوز عشقي مائة أو ألف عام، كيف أخبرها؟
منذ طفولة قديمة لبست مدينة جدة كحياة، أركض في شوارعها وأزقتها وبين متاجرها وأسواقها ومبانيها ومقاهيها، ولم أكن أعرف أني أضحية لم يراق دمها بعد!
الأوبئة باقية والحياة باقية، وكما تجددت الأوبئة قابلتها الحياة بالتكاثر وخلق الملايين من الأنفس لهم جسارة المغامرين، والسير على خطى الشهداء الذين تزودوا بحسن الختام.
تشبث بالحياة أيها القروي.
كان هذا الهاجس يعاودني كلما جرت النار في دمي، كنت طفلا يأتيه ذلك الهاجس كحلم أو كوحي.
في زمن قديم عالق بالذاكرة، خرجت من رحم الموت عنوة، إذ كنت مشروع ميت في بال أمي التي فقدت أربع زهرات بسبب الحمى، ذلك السعير الذي نفخ في أجساد لأطفال لم يشبوا عن الطوق، حمى لم ترض إلا بدفن تلك الطفولة، كانت أيدي الأهالي تتوجس من جس حمى قدت من لظى النار، وكانت حمى متسامحة إزاء ذلك التأفف، لذا طافت بكل بيت من بيوت القرية، كي تقتص من ذلك التأفف بقطف نفس منه. ويبدو أنها لم تكن متسامحة مع أمي، فقد زارتها لأربع مرات، قطفت من (عشتنا) أربع أنفس، ووعدت بأخذي كآخر هدية تختم بها زيارة بيتنا، لم تكن القرية تعرف اسما لتلك الحمى سوى معرفة جلبتها فيقال :جاء زمن (الشوطة).
ربما كانت هي الكوليرا، أو الملاريا، أو حمى الوادي المتصدع، المهم أنها نار موقدة .
ففي مواسم الأمطار تبقي الأرض على الماء كذكرى أو إظهار سخائها في إقامة موطن للبعوض ودويبات الأرض، على أمل تقديم مأدبة شهية من أجساد القاطنين بالقرب من ماء الحياة. وفي كل سنة تتمدد الحمى بين الضلوع والأنفاس، لتغدو الزائرة السنوية غير المرحب بها كونها تحصد الأنفاس من غير استئذان.
أربعة من إخوتي خطفتهم من حضن أمي غير مكترثة بجزعها، وكنت الخامس الذي تركته للحمى على نية مضمرة لأخذه ذات يوم، فعشت كمشروع ميت في بال أمي، وكانت لها نية ظاهرة لإغاظة والدتي، إذ تزورني سنوياً، تعبث بأنفاسي حتى أغدو كخرقة تالفة، وتغادرني، وتتركني مهيض الجناح، كطائر تبلل حتى لم يعد قادراً على الصوصوة .
ربما عرفت والدتي بتلك النية المضمرة لحمى تشهتي إنهاك قلبها حزناً وكمداً على حشاشة فؤادها الأخير، فعزمت على ترحيلي من أرض تستقبل الأمطار وتخلف ناراً من حمى مجنونة. فهل كنت وبالاً على أهل الأرض بهذه الحمى الباحثة عني؟
وقبل رحيل أسرتي الصغيرة هرباً من حمى تتوعدني قاصدة مدينة جدة، كان التجهيز للسفر قائماً، وفي غفلة من الجميع استطاعت تلك الحمى أن تدس نفسها بين عظامي كبذرة فناء تلاحقني أينما كنت.
في أول وصولي لمدينة جدة عشت طريح الفراش من حمى غاضبة كادت أن تلغي حج والدتي. فأوكلتني لخالتي، وكما تقول والدتي إنها دعت في (الملتزم) أن ينجيني الله من حمى تتابعني كقدر.
عشت في مدينة جدة بين وقوع ونهوض، يبدو أن الحمى ربطها الدعاء بعض الشيء.
عشت حياة صاخبة بالأحداث، وحملتني شقاوة الطفولة إلى كل مكان في جدة من مينائها البحري والجوي إلى أسواقها وحاراتها وبين أفراحها وألعابها وأهازيجها ورقصاتها ومدارسها ومقاهيها وحلقات الخضار وبنقله الأسماك، وقصور الأفراح، وقبلها براحات الأعراس، وملاعب الكرة، والاستمتاع بقهوة في عمارة الملكة، أو التقاط حبات اللوز الهندي من شارع القصور السبعة، أو استغفال حرس بيت الزهد لأعود بحبات الجوافة، وفِي موسم الحج أرافق أندادي لأن نمكث في مدينة الحجاج ونتلهى بغزل أو الحصول على أدوات لم نكن نعرفها، وبدفع مبلغ زهيد تعود حاملاً ما لم يكن بالإمكان الحصول عليه.
عرفت السينما من أوقات مبكرة، ففي العصاري أحوم على أحواش تعرض أفلاماً عربية وهندية وأجنبية.
وفِي الليل تتوزع البهجة في كل منحنيات حارتنا المكتظة بكل الأعراق والعادات والأغاني والرقصات .
ليلنا سماع إذاعة العرب وتلوي مع أغنيات العشق، ولعب الورق (الكن كان) و(البلوت) ومن كان متأخراً عنهما يلعب (الكيرم) أو (الضمانة)... الحياة زاهية بكل تفاصيلها، قل دوراني أو الطواف بين معالم جدة عندما عملت صحافياً، كان الوقت قصيراً لا يفي بإحاطة مباهج جدة.
قريباً تخلصت من شرك العمل على فترتين، وعدت باحثاً عن الأماكن وبهجتها.
قلبي معبأ بفرح، ربما أستعيد جملة ناظم حكمت: الحياة جميلة يا صاحبي.
جزء يسير أو ضئيل جدا ما فعلته لهذه المعشوقة، واكتشفت - فجأة - كيف أموت وأترك سماء جدة.
هذا الشعور المباغت انتابني في ليالي الحذر.
أحس بالحمى تغزو جسدي، فأتلهى عنها نافضا من بالي ذلك الوعد الذي تعهدت به الحمى لإغاظة والدتي بقطف نفس آخر أطفالها. في منع التجول هذا، يشاغلني هم كيف أفهم هذه الحمى أن أمي توفيت، وليس هناك أي داع لإغاظة أحد؟
- روائي سعودي
في ليالي منع التجول ينتابني هاجس كوعد لإغاظة أمي!
في ليالي منع التجول ينتابني هاجس كوعد لإغاظة أمي!
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة