الساحل الأفريقي... حرب فرنسا الأبدية ضد المتشددين

إدارة ترمب تفكر في سحب قواتها وإغلاق قاعدة جوية جديدة في النيجر

جنود فرنسيون ضمن عملية «برخان» عند مهبط مروحيات شمال شرقي مالي (نيويورك تايمز)
جنود فرنسيون ضمن عملية «برخان» عند مهبط مروحيات شمال شرقي مالي (نيويورك تايمز)
TT

الساحل الأفريقي... حرب فرنسا الأبدية ضد المتشددين

جنود فرنسيون ضمن عملية «برخان» عند مهبط مروحيات شمال شرقي مالي (نيويورك تايمز)
جنود فرنسيون ضمن عملية «برخان» عند مهبط مروحيات شمال شرقي مالي (نيويورك تايمز)

ظلت عشرات المركبات المدرعة التي تقل 180 جندياً من النخبة، برفقة «الفيلق الأجنبي الفرنسي»، متناثرة فوق حشائش السافانا في غرب أفريقيا على مدار يومين، للوصول إلى مخبأ يشتبه في أنه لمتشددين.
أخيراً، ومن وسط مجموعة كبيرة من أشجار السنط، رصد الفيلق عمامة لأحد المشتبه بهم يحمل بندقية طراز AK - 47 أطلق ساقيه للريح إلى أن اختفى. لم يعثر الجنود سوى على بندقيته وحذائه وذخائره في سياج شائك، وقدموا تقريراً بما وجدوه إلى ضابطهم.
قال العقيد نيكولاس ميونييه، قائد مجموعة المعارك الصحراوية الفرنسية، إن «النتيجة جاءت متواضعة بعض الشيء». فعندما أرسلت فرنسا قواتها إلى مالي، المستعمرة الفرنسية السابقة، بعد أن سيطر مسلحون متطرفون على مدن شمال غربي أفريقيا، كان من المفترض أن تستمر مهمتهم لبضعة أسابيع فقط. كان ذلك قبل 7 سنوات، ومنذ ذلك الحين، انتشر التهديد الإرهابي عبر مساحات شاسعة من الأراضي جنوب الصحراء المعروفة باسم الساحل، ومعها انتشرت معارك فرنسا لمكافحة الإرهاب.
ونتيجة لذلك، قتل أكثر من 10 آلاف شخص من غرب أفريقيا، وفرّ أكثر من مليون من منازلهم، وتعرضت القوات العسكرية في غرب أفريقيا وفرنسا لخسائر كثيرة.
ومع ذلك، انتهت المعركة بالكاد؛ حيث يشن تنظيم «داعش في الصحراء الكبرى»، وهي جماعة مسلحة قوية لها روابط وثيقة بتنظيم «داعش الإرهابي»، هجمات قوية في المناطق الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وفي الأشهر الأربعة الماضية، داهم مسلحون أربعة مواقع عسكرية رئيسية في مالي والنيجر، ما أسفر عن مقتل 300 جندي.
تجد فرنسا نفسها عالقة الآن في منطقة الساحل، مثلما وجدت الولايات المتحدة نفسها في أفغانستان والعراق؛ حيث قضت سنوات وأنفقت مليارات الدولارات على محاربة الجماعات المتطرفة شديدة التنقل في تضاريس صعبة وغير مألوفة، ولا نهاية لها في الأفق.
ويتجول جنود «الفيلق الأجنبي الفرنسي» الذين قاموا بعملية مكافحة الإرهاب، المعروفة باسم عملية «برخان»، في منطقة الساحل، في قوافل يمكن للمتشددين سماعها على بعد أميال، لكن هذا جزء من الاستراتيجية. وقد هدد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، قبل اجتماع قمة طارئ مع رؤساء دول غرب أفريقيا في يناير (كانون الثاني)، بسحب قواته. وفي وقت لاحق، ضاعف ماكرون من مهمته ووعد بنشر 600 جندي إضافي للانضمام إلى 4500 منتشرين هناك بالفعل. كما تعهد بالعمل عن كثب مع جيوش الدول الأفريقية لإعدادهم بشكل أفضل لدرء الهجمات، وإزالة بعض العبء عن أكتاف فرنسا. لكن المهمة هائلة؛ حيث تقسم اللغة والثقافة والخبرة الحلفاء.
في معسكر للجيش الفرنسي خارج مدينة جاو المالية القديمة، تلقى 15 جندياً مالياً تعليمات من الطيارين الفرنسين بشأن كيفية إعطاء توجيهات دقيقة للطائرات عبر الراديو. كانت مهمة الماليين هي توجيه طيار مقاتل إلى وكر إرهابي، عبارة عن منزل بني اللون يشبه جميع المنازل الأخرى في المدينة.
وتمتلك قوات الأمن في غرب أفريقيا القليل من المعدات والتدريب، حتى التعليم الأساسي الذي تمتلكه نظيراتها الفرنسية. وأفادت غالبية الجنود الماليين أنهم لم يروا البوصلة من قبل وظلوا يخطئون في توجيهاتهم. وكانوا يتدربون ويختبرون بعضهم البعض على الرمال الناعمة بوضع علبة سجائر فارغة تشير إلى الشمال وكوب بلاستيكي للجنوب.
ولا يزال المتشددون بعيدين عن الهزيمة، حتى إن إحدى المجموعات تمكنت من خطف السياسي الذي يقود حزب المعارضة الرئيسي في مالي الأسبوع الماضي بالقرب من تمبكتو. وذكر «الاتحاد الأفريقي» مؤخراً أنه سيرسل 3000 جندي إلى الساحل، وتحاول فرنسا تجنيد حلفاء جدد؛ حيث وقّعت إستونيا وجمهورية التشيك بالفعل على إرسال قوات، بينما تستمر المحادثات مع السويد وفنلندا والنرويج.
لكن في الوقت الذي يكثف فيه الفرنسيون والأوروبيون ودول غرب أفريقيا القتال، تفكر إدارة ترمب في سحب القوات الأميركية وإغلاق قاعدة جوية جديدة في النيجر بناها الأميركيون بتكلفة 110 ملايين دولار. وقال بعض المسؤولين الأميركيين إنهم يريدون التركيز بدلاً من ذلك على مواجهة الصين وروسيا.
وسافرت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنسا بارلي إلى واشنطن في أواخر يناير للدعوة إلى استمرار دعم الأميركيين. وفي مقابلات صحافية جرت الشهر الماضي في النيجر ومالي على مدرج قاعدة جوية وفي قمرة قيادة طائرة نقل وفي غرفة تحكم بطائرة من دون طيار، أفاد ضباط فرنسيون بأنهم قلقون بشأن الخسارة السنوية التي تقدر بنحو 45 مليون دولار تنفق على النقل والتزود بالوقود الجوي والطائرات من دون طيار والتي تشارك فيها الولايات مع فرنسا، بإجمالي كلفة تبلغ مليار دولار سنوياً.
لكن الجنرال باسكال فايسون، قائد البعثة الفرنسية، قال في مقابلة صحافية إن الجيوش الأوروبية والأفريقية يمكنها «بسهولة» غزو تنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى». وبحسب فايسون، على عكس تنظيم «داعش» في ذروته في سوريا والعراق، لا يحتفظ تنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» بأي أرض، وليست له جذور عميقة في المجتمعات المحلية. وأضاف الجنرال فايسون: «لا يجب أن نقلل من شأنهم.
ولا يجب أن نعطيهم أهمية كبيرة أيضاً». جاءت القوات الفرنسية أولاً إلى مالي، بناءً على طلب من حكومة مالي. وعلى الرغم من وجودها للدفاع عن المدنيين الماليين، فإن التفاعل بين المجموعتين ضئيل جداً.
* خدمة «نيويورك تايمز»



للمرة الأولى منذ عقود... مقاتلات فرنسا تغادر سماء تشاد

جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
TT

للمرة الأولى منذ عقود... مقاتلات فرنسا تغادر سماء تشاد

جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)
جنود فرنسيون يودعون أقرانهم التشاديين خلال مغادرة المقاتلات الفرنسية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)

سحب الفرنسيون من تشاد، الثلاثاء، مقاتلات عسكرية من طراز «ميراج 2000»، ليصبح البلد الأفريقي مترامي الأطراف والحبيس في قلب القارة السمراء، خالياً من أي مقاتلات فرنسية لأول مرة منذ أن نال استقلاله عن باريس قبل 6 عقود.

اليوم، أصبحت سماء تشاد هادئة من أزيز «الميراج» الفرنسية، وأغمضت العين الفرنسية التي ظلّت لعقود طويلة رقيباً لا يغفل على أرض تشاد الشاسعة، الممتدة من صحراء أوزو الحارقة شمالاً، وصولاً إلى أحواض بحيرة تشاد الرطبة في أقاصي الجنوب.

الطائرة التي تُمثّل فخر الصناعة العسكرية الفرنسية، ظلّت لسنوات طويلة صاحبة الكلمة الأولى في السماء التشادية، والسلاح الحاسم الذي تدخّل لقلب موازين السياسة أكثر من مرة، خصوصاً حين حاصر المتمردون القادمون من الشمال الرئيسَ الراحل إدريس ديبي في 2006 و2019.

بداية الرحيل

طائرة «ميراج» فرنسية وهي تغادر قاعدة «غوسي» التشادية الثلاثاء (الجيش الفرنسي)

في حدود منتصف نهار الثلاثاء، كان الجنود الفرنسيون في قاعدة «غوسي» العسكرية في عاصمة تشاد إنجامينا، يتبادلون الابتسامات الباهتة مع أقرانهم التشاديين، فطغت على أجواء الوداع حميمية مصطنعة، وهم يستعدون لركوب طائرات «الميراج»، في رحلة ذهاب دون عودة، نحو فرنسا.

رفع الطيار العسكري الفرنسي يده بتحية عسكرية صارمة، من وراء زجاج طائرته النفاثة، وألقى نظرة أخيرة، ثم حلّق عالياً لتكون بذلك بداية انسحاب فرنسي من بلد دخله أجداده مستعمرين مطلع القرن العشرين، أي قبل 120 عاماً.

الجيش الفرنسي قال في بيان مقتضب تعليقاً على سحب طائراته العسكرية، إن القرار جاء بعد أن قررت تشاد إنهاء العمل باتفاقية التعاون الأمني والعسكري مع فرنسا، يوم 28 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وأضاف أن «وجود هذه الطائرات كان تلبية لحاجة سبق أن عبّر عنها الشريك (التشادي)».

فيما قال مصدر فرنسي إن وجود المقاتلات الفرنسية في تشاد لم يعُد مبرّراً بعد إنهاء التعاون العسكري بين البلدين، وأضاف أن «فرنسا تنهي نشر مقاتلاتها في قاعدة (غوسي) الجوية في إنجامينا. والجيش الفرنسي اتخذ قراراً بسحب طائراته الحربية».

رحيل تدريجي

وزير خارجية تشاد، عبد الرحمن كليم الله، نشر تغريدة مقتضبة على موقع «إكس»، قال فيها: «إنه بعد الانسحاب النهائي لمقاتلات (الميراج) الفرنسية وطائرة الدعم والإسناد، نفذت المرحلة الأولى من سحب القوات الفرنسية في تشاد».

كما نشرت الخارجية التشادية بياناً قالت فيه: «إن هذا الحدث يُمثل خطوة كبيرة في تنفيذ الجدول الزمني المتفق عليه بين الطرفين» بخصوص مغادرة القوات الفرنسية، قبل أن تشير إلى أنه «سيتم الترحيل التدريجي للقوات البرية خلال الأسابيع المقبلة».

ويوجد في تشاد نحو ألف جندي فرنسي، كانوا موجودين بموجب اتفاق تعاون عسكري موقع منذ عقود، وجرى تجديده عام 2019، ولكن تشاد قررت الشهر الماضي أن تنهيه من جانب واحد من أجل «تجسيد السيادة» على أراضيها.

وفي هذا السياق، قالت الخارجية التشادية إن الشعب التشادي «يتطلّع إلى مستقبل تحظى فيه السيادة الوطنية بالاحترام الكامل، وتتولى فيه القوات المسلحة الوطنية بشرف وكفاءة الدفاع عن أراضيها وأمن مواطنيها».

ولكنها في الوقت نفسه، شدّدت على «فكّ الارتباط (مع فرنسا) يتم بروح من الاحترام المتبادل والحوار البنّاء للحفاظ على العلاقات الثنائية بين تشاد وفرنسا في المجالات الاستراتيجية الأخرى ذات الاهتمام المشترك».

لجنة مشتركة

جنديان تشاديان خلال مناورات مع سلاح الجو الفرنسي (أرشيف الجيش الفرنسي)

ورغم أن البلدين لم يُعلنا أي تفاصيل حول الجدول الزمني لسحب القوات الفرنسية، فإن المصادر تؤكد تشكيل «لجنة مشتركة» تتولّى الإشراف على العملية، وقد عقدت هذه اللجنة اجتماعها الأول يوم الجمعة الماضي، دون إعطاء أي تفاصيل.

في هذه الأثناء، وصفت صحف فرنسية واسعة الانتشار من بينها «لوموند» ما يجري بأنه «صفعة موجعة» تتلقّاها فرنسا في بلد ظلّ لعقود يمثل حليفاً استراتيجياً في أفريقيا، واليوم يُعدّ آخر مركز نفوذ لفرنسا في منطقة الساحل الأفريقي، حيث سبق أن انسحبت القوات الفرنسية من مالي وبوركينا فاسو والنيجر.

ويصر الفرنسيون على أن ما يحدث في تشاد مختلف عما جرى في دول الساحل الأخرى؛ حيث وقعت قطيعة تامة مع باريس.

ويقول مصدر وصفه الإعلام الفرنسي بأنه قريب من الملف: «إن التشاديين لم يطلبوا سحب القوات بشكل فوري، وبهذه السرعة»، وأضاف: «نحن من أراد التحكم في الانسحاب» تفادياً لأي مفاجآت.