نصوص حداثية غيرت مسار الأدب العربي

دار «الكرمة» تعيد نشر روائع الأدب المصري منذ أربعينات القرن الماضي

غلاف {مليم الأكبر}  -  غلاف {دنقلا}  -  غلاف {مذكرات جندي مصري}  -  غلاف {الشبكة}
غلاف {مليم الأكبر} - غلاف {دنقلا} - غلاف {مذكرات جندي مصري} - غلاف {الشبكة}
TT

نصوص حداثية غيرت مسار الأدب العربي

غلاف {مليم الأكبر}  -  غلاف {دنقلا}  -  غلاف {مذكرات جندي مصري}  -  غلاف {الشبكة}
غلاف {مليم الأكبر} - غلاف {دنقلا} - غلاف {مذكرات جندي مصري} - غلاف {الشبكة}

سعيا لتثقيف الأجيال الجديدة وإمدادها بروائع الأدب المصري، أصدرت دار «الكرمة» للنشر سلسلة جديدة بعنوان «مختارات الكرمة»، تعنى بنشر المنسي والنادر من الكتب العربية، وتركز بصفة خاصة على الكتب التي اختفت من المكتبات، ولكنها ما زالت مهمة وممتعة ويبحث عنها القراء الجادون.
«الكرمة» دار نشر عربية تأسست عام 2013 بالقاهرة، وتنشر كتبا عربية ومترجمة. وقد بدأت الدار الشهر الماضي بنشر 4 عناوين تمثل باكورة المختارات، إذ صدر عن السلسلة رواية «مليم الأكبر» لعادل كامل، وهو الأديب الذي حصل على الجائزة الأولى لمجمع اللغة العربية عام 1943. وتحتوي طبعة «الكرمة» على المقدمة التي كتبها عادل كامل عن الأدب العربي، والتي وصفها شكري عياد بأنها «باكورة من بواكير الحداثة»، واعتبرها خيري شلبي «أهم بيان حداثي في تاريخ الأدب العربي الحديث»، ويلي الرواية نص نجيب محفوظ عن «عادل كامل، والحرافيش، والأدب»، الذي قال فيه إن عادل كامل كان في طليعة جيله من حيث الجودة والامتياز، هذا الجيل الذي ضم: عبد الحميد جودة السحار، وعلي أحمد باكثير، ومحمود البدوي، ويوسف جوهر، وحسين عفيفي، وأحمد زكي مخلوف، وأن كامل هو من دعاه للانضمام إلى الحرافيش.
والرواية بحوار مجازي مع شخص يدعى «مليم» نشأ يجول الحي بصحبة أبيه، بائع الجرائد ثم الزهور والمخدرات. حياة هانئة حرة قضاها مليم، إلى أن دخل أبوه السجن، فقرر أن يزاول عملا شريفا. وعلى الرغم من نياته الطيبة، انتهى مليم أيضا وراء القضبان، بسبب سذاجة خالد، ابن الباشا، الثائر على أبيه ومجتمعه.
بعد الخروج من السجن يعمل مليم في «القلعة»، حيث تعيش خلية شيوعية متنوعة من الهامشيين والمنظرين، فتعود الحياة إلى خفتها، ويعود مليم إلى النصب البريء بمساعدة صديقته الرسامة. وعندما يلتقي مليم بخالد مجددا يستدرجه بحيلة إلى القلعة، فيغرم خالد بالرسامة وبوهم الحياة البوهيمية، لكن الأقدار ستؤدي بكل منهم إلى حيث لم يتوقع. وهي رواية ممتعة، تصور بسخرية لاذعة التمرد المزيف والثقافة الفارغة، وأحلام التغيير.
وتضم سلسلة المختارات واحدة من أعذب المذكرات العربية، وهي «مذكرات جندي مصري في جبهة قناة السويس»، لأحمد حجي، الذي استشهد عام 1972، وهي أول مذكرات نشرت لجندي مصري عادي، وكانت رقابة السبعينات في مصر قد منعتها، وهي سيرة ذاتية ليوميات حرب الاستنزاف تسجل حماس الجنود ومشاعرهم تجاه العدو ومعاناتهم مع الغارات الجوية والبرد والصحراء وكيف كانوا يرون واجبهم تجاه أرض مصر. وتعكس المذكرات مشاعر هذا المجند ومعايشته لأجواء الحرب وقسوتها واستشهاد زملائه. وقد كتبت بلغة سردية تصور بدقة أحداث تلك الفترة: «الجمعة 19 ديسمبر 1969.. على الرغم من أن القمر كان قد استكمل استدارته، وعلى الرغم من أن أشعته كانت تلون كل ما يحيط بنا في المنطقة باللون الفضي، فإن ذلك لم يحرك مشاعرنا في شيء مثلما تتحرك مشاعر الكتاب والفنانين والشعراء. فمع ضوء القمر عرفنا أن طيران العدو سوف يأتي ليلقي حمولته من (النابالم) على مواقعنا في الجبهة... كان الخندق ضيقا وكنا أكثر من عشرة جنود نتكوم فيه ملتصقين بعضنا ببعض، حتى نحمي أنفسنا من البرد الزاحف علينا من سيناء ومن البحيرات الممتدة خلف مواقعنا العسكرية». والمؤلف يروي أيضا حكايات جمعت الجنود المسلمين والمسيحيين وكيف استشهد مجندان، أحدهما مسلم والآخر مسيحي، وقد كان الجميع يظن أنهما توأمان، وكانا الأكثر مرحا داخل المعسكر.
وفي الأربعاء 5 أغسطس (آب) 1970 كتب المجند الشهيد أحمد حجي: «في الجبهة يولد الإنسان الجديد، يولد بين اللهب وأمام رصاص البنادق الآلية، وشظايا الدانات والقنابل، وتحت طائرات العدو المغيرة، هنا يجب على الإنسان أن يتخذ موقفا واضحا محددا، إما أن يخاف ويجبن، وإما أن يقف في شموخ، دون أن تهتز منه شعرة واحدة، وفي الجبهة شاهدت ميلاده مع الاشتباكات اليومية بيننا وبين العدو».
ومن الروايات التي نفدت طبعاتها منذ زمن طويل، رواية إدريس علي «دنقلا»، وهي من أهم وأجمل ما كتب عن مأساة النوبة وأهلها. رواية إدريس علي المؤلمة والصادقة عن مأساة النوبيين تدور حول عوض شلالي الذي ناضل لسنوات مع المصريين من أجل الحرية ورفع الظلم، فيقضي 10 أعوام في عذاب السجون المصرية، وعندما يهرب إلى السودان يحاول إعادة مجد مملكة كوش النوبية وعاصمتها المتألقة دنقلا، ولكنه يواجه بتوجس النوبيين أنفسهم من مشروعه، فيسافر إلى أوروبا 9 سنوات يعيش فيها قصة حب مع امرأة فرنسية، تجبره تقاليد عائلته على تركها والزواج بحليمة، التي كانت تهتم بأمه الفقيرة العمياء، فيقرر عوض أن يسافر مجددا إلى غير عودة، ليترك حليمة وحيدة، فتتمرد على مجتمع تقاليده لا ترحم.
وكذلك رواية «الشبكة»، التي اعتبرها الكثيرون أروع ما كتبه شريف حتاتة، وهي رواية لاذعة ومشوقة وممتعة عن مصر في الثلاثين سنة الماضية. وقال عنها الروائي يوسف القعيد: «من الروايات المظلومة... نص جميل... تتفوق حتى على أعمال شريف حتاتة التالية لها».
إنها رواية لاذعة ومشوقة وممتعة عن مصر في الثلاثين سنة الماضية. في هذه الرواية السياسية المثيرة يقرر المناضل اليساري خليل منصور خليل، بعد تجربة السجن المريرة، أن ينسحب من العمل العام، ثم يعمل في شركة للأدوية، ويتزوج ويعيش في هدوء وسعادة، إلا أنه سرعان ما يجد نفسه متورطا في إضراب للعمال الذين يرفضون بيع الشركة لشركة عالمية، فيطرد من الوظيفة. وفي هذه الظروف السيئة يتعرف خليل على الشابة الأميركية «روث هاريسون»، وتنشأ بينهما علاقة حب قوية، فيترك من أجلها زوجته وطفله. ولكن يتضح له في ما بعد أن لها علاقات مريبة بأجهزة دولية. وعندما تكتشف جثة «روث» في فراشها يتهم خليل بقتلها، فيجد نفسه واقعا في شبكة غامضة ومعقدة من العلاقات والفساد السياسي والمخابراتي والاقتصادي المحلي والعالمي.
ومن المنتظر أن تصدر «الكرمة» 9 إصدارات أخرى، من بينها: «النزول إلى البحر» لجميل عطية إبراهيم، و«شخصيات حية من الأغاني» لمحمد المنسي قنديل، و«حديث شخصي: أربع تنويعات - بدر الديب»، و«ملك من شعاع» لعادل كامل، و«الرحلة» لفكري الخولي.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟